عندما تصبح "سمعة مصر" في مرمى فيلم
أمينة خيري صحافية
"حقوق
الملكية لتعريف "الوطنية" متاحة للجميع، إذ اشتد سعير التراشق واحتدمت
نيران التلاسن التي يسهل من خلالها تقفي آثار 10 سنوات من الحراك السياسي
والاجتماعي"
أتت مشاعر الوطنية الفياضة وجدالات الخط الفارق بين
الإبداعات والإساءات المرتبكة والاتهامات المتبادلة بين من يقف في صف الوطن
ومن هو رابض على الجبهة المقابلة من حيث لا يحتسب المصريون، وتحديداً من "مهرجان
الجونة السينمائي"
في دورته الخامسة الملتبسة الواقعة في "حيص بيص" الفساتين تارة، والفيلم
"المسيء" تارة أخرى.
آخر ما وصلت إليه عوالم الوطنية ومنابع الإساءة التي ينبغي
وأدها في منبعها، وأسباب التراشق والتنابذ والتلاسن، قدم إلى المصريين من
قلب مهرجان الجونة الذي اكتسب منذ تدشينه قبل خمس سنوات بالتمام والكمال،
صفات الجدل والسجال والعراك حتى كادت تتقدم كلمة "السينمائي" التعريفية.
السينما "وصيفة" الإثارة
السينما وصناعتها والأفلام ومعضلاتها والفنانون والفنانات
ورؤاهم السينمائية وطواقم العمل من مخرجين ومنتجين ومصورين وموسيقيين
وغيرهم، وتصوراتهم عن المهنة والصناعة والمستقبل، تجد نفسها متمترسة
متمركزة في مكانة "الوصيفة" للإثارة في كل عام، ففي كل عام على مدار خمسة
أعوام مضت، يقفز حدث ساخن أو فستان أسخن أو تصرف يعتبره البعض أحمق أو
تصريح يراه آخرون أخرق أو حادثة مفجعة، وأخيراً فيلم يتحول بطله إلى "فرخة
– دجاجة" ويعتبره كثيرون سبة في جبين الوطن.
الوطن والوطنية حديث الساعة في الشارع المصري، فبعد دقائق
معدودة من بدء عرض فيلم "ريش" للمخرج المصري عمر الزهيري الذي لم تسمع عنه
الغالبية، ومن بطولة مجموعة من المواطنات والمواطنين المصريين لا يعرفهم
سوى أهلهم وجيرانهم، قامت الدنيا في الجونة ولم تقعد حتى اللحظة، من وجه
بحري شمالاً إلى أسوان جنوباً مروراً بالمحافظات الحدودية والقرى والنجوع
النائية في أرجاء مصر، ومن لم يسمع عن "الجونة" أو مهرجانها أو "ريش" بات
يعرف تفاصيلاً دقيقة عن الفيلم الذي تحول رب الأسرة المستبد فيه إلى "فرخة"
(دجاجة) بسبب خطأ ارتكبه الساحر في حفل عيد ميلاد.
ميلاد مهرجان الجونة السينمائي السجالي مرتبط بعائلة ساويرس المصرية
القبطية وأبرزها الأخوان نجيب وسميح ساويرس. والأول معروف في المجتمع
المصري، ليس فقط بنجاحاته وإنجازاته في عالم المال والأعمال والاستثمارات،
ولكن كذلك بمواقف سياسية أبرزها موقفه المؤيد لأحداث يناير (كانون ثاني)
2011 وتأسيس حزب "المصريين الأحرار"، وبنشاط عنكبوتي واضح على منصات
التواصل الاجتماعي حيث يكتب تغريدات حاذقة ويعبّر عن آراء حاسمة لا تخلو من
روح دعابة، يعتبرها البعض صادمة.
ومن يعرف مهرجان الجونة السينمائي من القاعدة العريضة من
المواطنين والمواطنات المصريين البسطاء يعرفونه أحياناً بأنه "مهرجان
ساويرس السينمائي". وحيث أن المجتمع المصري خضع ومر وخاض في أحداث سياسية
صاخبة وحوادث اجتماعية فارقة واستقطابات ثقافية ودينية زاعقة على مدار
السنوات الـ 10 الماضية، تجد أحداثاً وحوادث عادية عدت نفسها خاضعة لعمليات
تسييس مفرطة وتفسير وتحليل مفزعة، ناهيك عن ربط أشياء لا تمت بصلة
بالضرورة، ببعضها بعضاً.
الأفضل والأكبر
البعض ممن سمع أو عرف أو شاهد أجزاء من فيلم "ريش"
السينمائي وصفه بأنه "ضمن الأفضل" في مسيرة السينما المصرية الحديثة. البعض
الآخر اعتبر الفيلم "إنجازاً تاريخياً" لمجرد أنه عرف طريقه إلى مهرجان
"كان" السينمائي، الحدث الأكبر في عالم السينما العالمية. ويوم حصل على
الجائزة الكبرى للنقاد في دورته الـ 74 في يوليو (تموز) الماضي، أقام
المصريون احتفاءات هائلة في رد فعل مصري فطري بوصول عمل نابع من بلادهم إلى
العالمية.
ودفعت عالمية "ريش" وزارة الثقافة المصرية ممثلة بالوزيرة
الفنانة إيناس عبدالدايم في أغسطس (آب) الماضي، إلى تكريم صانعي الفيلم عقب
عودتهم من مهرجان كان، لكن تأتي "العالمية" بما لا تشتهي "الوطنية"
وتعريفاتها المختلف عليها، فالفيلم الذي يتعرض بشكل واضح وصريح ويصفه البعض
بـ "المبالغ فيه"، لحياة المصريين في العشوائيات المنتشرة، أو بالأحرى التي
كانت منتشرة، في ربوع مصر، يعاني اتهامات الإساءة لسمعة الوطن وتجاهل
الإنجازات الكثيرة.
وأشعل انسحاب مجموعة من الفنانين المصريين على رأسهم شريف
منير وأحمد رزق وأشرف عبدالباقي أثناء عرض الفيلم في المهرجان اعتراضاً على
"الفيلم الذي يشوّه سمعة مصر"، نيراناً أشد ضراوة من تلك التي أجهزت على
قاعدة افتتاح المهرجان قبل بدئه بساعات.
ولخص الفنان شريف منير موقفه وزملاءه بقوله بالعامية، إن
"كل ما يُعرض بيخلي شكل مصر مش حلو، وأُسر عايشة في عذاب غير طبيعي، وعبارة
عن ناس تعيش في قذارة"، أو بمعنى آخر أن الفيلم يحتوي على مشاهد وأفكار
توحي بصعوبة الحياة وغرقها في فقر وغلب في مصر، تسيئ إلى سمعة البلاد وتفتح
أبواب التراشق الوطني على مصراعيها.
حياة كريمة
فبين فريق يرى أنه لا يصح أن يعرض عمل درامي مسيئ لمصر، حيث
الفقر والعوز وحياة العشوائيات التي قضت عليها مبادرة "حياة كريمة"
الرئاسية (مبادرة توفير حياة كريمة لسكان العشوائيات)، وآخر يرى أنه لا يصح
أن يفرض أحد رؤية واحدة لا ثاني لها لما ينبغي أن تقدمه الدراما، حيث
الوطنية الأبوية والإبداع بلا حدود، لا يختلطان، لتستعر الأوساط الفنية
والشعبية بكم هائل من السجال الذي لا يخلو من تراشق الاتهامات بانعدام
الروح الوطنية، مع تلميح بأن ليس كل ما هو قبيح يمكن تبرئته بحجة الإبداع،
يقابله اتهام بانعدام الروح الإبداعية لا يخلو من تلسين على العودة للوطنية
سابقة التعليب سالفة التجهيز، الملكية أكثر من الملك.
وحيث أن الحقوق الملكية لتعريف الوطنية متاحة للجميع، فقد
اشتد سعير التراشق واحتدمت نيران التلاسن التي يسهل من خلالها تقفي آثار 10
سنوات من الحراك السياسي والاجتماعي مع كثير من الاستقطاب الثقافي، وفي
أقوال أخرى الديني، مع قدر من الاستحواذ على التعريفات سمة المراحل
الانتقالية.
من الدراما إلى الوطنية
انتقل الفنان شريف منير من خانة الدراما إلى الخانة الوطنية
معبراً في تصريحات صحافية عن شعوره بـ "الاختناق" من الفيلم مما اضطره إلى
المغادرة، وصرح أنه قال لنفسه إن العشوائيات التي كانت موجودة في مصر لم
تكن بهذا المنظر، مضيفاً "أحب بلدنا يكون فيها شكل حلو ومناظر جيدة".
حلاوة البلد تجد نفسها مثار شد وجذب بين فريقي الوطنية من
دون إظهار للعشوائيات والفقر، وبين الإبداع ولو كان يظهر العشوائيات
والفقر، وبين هذا وذاك فريق ثالث يمسك عصا العشوائيات والفقر من المنتصف،
حيث هناك إمكان إظهارهما مع الاحتفاظ بحق الاعتراض أو الإعجاب، ووصل الأمر
إلى درجة أن الاعتراض على الفيلم أصبح وطنية وانتماء، والإعجاب به يحمل
شبهة ميول ثورية وجحوداً للإنجازات القومية، بغض النظر عن جائزة الفيلم
العالمية.
"الجائزة والإشادة اللتان تلقاهما المخرج الشاب عمر زهيري
من لجنة تحكيم النقاد في مهرجان كان السينمائي الدولي، كان أساتذته في معهد
السينما في أكاديمية الفنون أول من تنبأ بها"، وذلك في إشارة للناقدة
الفنية ماجدة خيرالله إلى موقفها المؤيد للإبداع والنافي عن الإبداع حتمية
الربط بالوطنية من عدمها. وتضيف، "نحن أمام موهبة مخرج شاب، ولو كنا نحب
مصر صحيح علينا أن نهتم وندعم كل صاحب موهبة في أي مجال، لأن هؤلاء الشباب
هم صناع المستقبل".
متعة الفقر
وعلى الجبهة ذاتها، تقف الكاتبة فاطمة المعدول التي تقول إن
"المهم أن يكون الفيلم فناً يتحدث عن الفقراء وعن الأغنياء، عن مصر العشة
أو القصر أو الكومباوند أو عن البشرية. المهم أن يكون فناً جميلاً. نعم،
حتى السينما التي تعرض الفقر المدقع يجب أن تكون جميلة وممتعة، ومن يشاهدها
قد يفكر وقد يغضب وقد يفرح، لكن يجب أن يستمتع، فالسينما فن وليست نقلاً
للواقع، ولمن يريد نقلاً للواقع عليه بعمل فيلم تسجيلي أو التقط صوراً
فوتوغرافية".
نبرة غاضبة
نبرة غاضبة أخرى أطلقتها المخرجة كاملة أبو ذكري على أوتار
المستقبل غير المرتبط بوطنية الاكتفاء بالإنجازات ولو كانت المنصة دراما
إبداعية. وقالت أبو ذكري موجهة كلامها إلى مخرج الفيلم المتنازع عليه،
"تلميذي وعزيزي المخرج الشاب عمر الزهيري مبروك على فيلمك، وأرجو من الإخوة
الذين يزايدون بوطنيتهم أن يرحمونا من عبارة سمعة مصر". وتساءلت مستنكرة،
"من قال لحضراتكم إن مصر ست بايرة (سيدة لم تتزوج) تبحث عن عريس؟ عبارة
سُمعة مصر مستفزة وتقلل من قيمة مصر". وأضافت، "عيب عليكم وكفى نفاقاً
ومزايدة باسم إن حضرتك وطني والمسؤول عن حماية مصر".
وصعدت أبو ذكري غضبها المصبوب على عبارة "سمعة مصر" واحتكار
صفة "الوطنية" بقولها موجهة حديثها إلى المخرج، "لا تهتم بحفنة المنافقين
الذين يريدون التملق، وصدقني أن الكبار الذين يحاول البعض أن يخيفنا بهم
لديهم القدرة على معرفة المنافقين والمتملقين، لأنهم كبار يفهمون المشهد".
فهم المشهد والمعركة الدائرة بين فريقي الوطنية والإبداع
المتناحرين يحتاج فريقاً وسطياً قادراً على الإمساك بالعصا من المنتصف، فلا
يفسد للوطنية قضية ولا يتخلى عن الإبداع كقيمة.
وقال الناقد الفني طارق الشناوي إن "ريش" عمل فني جميل
وجيد، مؤكداً على حق كل فنان أو ناقد أو إنسان في أن يشاهد عملاً فنياً ولا
يعجبه أو يغادر دار العرض بعد مرور ربع ساعة من العمل. ومضى قدماً في موقفه
الوسطي إذ أكد أن "الإعلان عن الغضب حق مطلق للإنسان، لكن في الوقت نفسه لا
يجب للنقاد الحكم على الفيلم بعد رؤية ربع ساعة منه فقط". وأعلن الشناوي
رفضه "استخدام سلاح سمعة مصر"، إذ "لا رواية أو فيلم أو مقالة أو برنامج
يهز صورة الدولة. مصر أقوى بكثير من أي شيء يهز الوطن".
اهتزاز الوطن
لكن بدا أن هناك فريقاً رابعاً يرى أن الوطن قابل للاهتزاز
بسبب فيلم، حتى إن مؤسسات إعلامية اختارت أن تمتنع عن نشر أخبار أو تقارير
أو حوارات عن مهرجان الجونة برمته، الذي صار أكبر من سينمائيته.
أصداء هوامشه وسجالات حوادثه باتت صارخة فارضة نفسها على
الأجواء. المواطنون العاديون، وغالبيتهم المطلقة لم تشاهد الفيلم المتنازع
عليه، تناقش القضية بكل همة ونشاط، وبين "الفقر موجود ولكن سمعتنا أهم" أو
"وما المشكلة في إظهار الفقر؟!" يتناقش المتناقشون.
وبين "ليس من الوطنية تشويه الوطن" و"ما دخل الوطنية في
فيلم سينما؟" يتحاور المتحاورون، وبين مطالبات بعرض الفيلم وإتاحته على
المنصات العنكبوتية حتى تعم الفائدة ويعلم الجميع ما يناقشونه بإفراط
ومحاولات إبراء ذمة وتبرئة ساحة الفيلم وصناعه و"فرخته"، تدور دوائر النقاش
الشعبي، حتى وزارة الثقافة التي كرمت الفيلم وصناعه قبل أسابيع، هرعت إلى
إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
درء التهمة
وقال رئيس الرقابة على المصنفات الفنية خالد عبدالجليل إن
"وزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم أرادت فقط الاحتفاء بأبطال الفيلم لحصولهم
على جائزة في مهرجان كان السينمائي للمرة الأولى في تاريخ مصر". ومضى قدماً
في تبرئة الوزارة والرقابة والمصنفات من تهمة "ريش" أن الفيلم عُرض على
الرقابة "كورق فقط"، وأضاف أنه مؤيد لغضب الفنانين تجاه الفيلم لأنه "خيب
التوقعات".
وتشير التوقعات إلى تضييق الخناق على تعريف "سمعة مصر"
فنياً في مقابل توسيع نطاقها شعبياً ونقاشياً في الشارع وعلى الأثير،
فبينما الأثير الإعلامي التقليدي متخم بكم هائل من صب اللعنات على الفيلم
وصناعه، يزخر الأثير الافتراضي وذلك الموازي على المقاهي بكم ثري وعميق من
النقاش الأوسع، حيث الفيلم والفقر وتعريف الوطنية وحدود الإبداع.
ومن أبدع ما كُتب على "تويتر" أن "أكبر ميزة لفيلم "ريش"،
إضافة إلى عبقرية فانتازيا رب البيت المستبد المتحول إلى فرخة، هي شد
ملايين المصريين بعيداً ولو موقتاً عن فساتين الفنانات وحكم الشرع فيها
وحتمية وضع معايير لتفصيلها لدى الخياط في المستقبل".
الطريف أن أحد المحامين المتخصصين في تقديم بلاغات لـ
"حماية الأخلاق" و"درء الرذيلة" بسبب الفساتين، وجد نفسه مشتتاً هذا العام
بين فساتين الفنانات و"ريش"، لكنه آثر أن يركز على "ريش" متقدماً ببلاغ
للنائب العام ونيابة أمن الدولة العليا في مصر ضد المخرج والسيناريست
والمنتج، متهماً إياهم بـ "الإساءة للدولة المصرية والمصريين". |