الأفلام اللبنانية في الجونة محاولات لمطاردة الوجه الغائب
لبيروت
قصص مؤلمة لسجناء زرق وفارّين إلى الجبال وعائدين إلى مدينة
بلا شمس.
يؤثر الواقع في الفن السينمائي بشكل كبير؛ إذ تعتبر
الأفلام، علاوة على بعدها الخيالي ولذة الفانتازيا والقصص والشخصيات
والصور، مرايا للمجتمع ولقضاياه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى
الفكرية والدينية والعاطفية وغيرها. وهذا ما تؤكده الأفلام اللبنانية
المشاركة هذا العام في مهرجان الجونة السينمائي.
الجونة (مصر)
- تواصل
الدورة الخامسة لمهرجان الجونة السينمائي عروضها وفعالياتها، ومن أبرزها
عروض الأفلام التي تقدم مشهدا بانوراميا عن السينما العربية والعالمية.
ومن أبرز الأعمال العربية المشاركة في المهرجان نجد السينما
اللبنانية التي تقدم أعمالا متنوعة ما بين الفيلم الوثائقي والروائي، وتطرح
أهم القضايا الجريئة التي عرفت السينما اللبنانية بإثارتها، إذ لم تتوقف عن
إثارة الجدل وتقديم مستوى فني عال يرتقي إلى مصاف السينما العالمية.
الأفلام والمسرحيات وغيرها من الجهود المجتمعية تساهم في
تحريك المياه الراكدة وفي بعض التغيير
السجناء الزرق
بعد 12 عاما من فيلمها الأول عن أوضاع سجن رومية في لبنان
تعود الممثلة والمخرجة زينة دكاش إلى المكان ذاته حيث تدور أحداث فيلمها
الوثائقي الجديد “السجناء الزرق” الذي تستعرض من خلاله قضية المرضى
النفسيين خلف أسوار المؤسسات العقابية.
الفيلم مدته 75 دقيقة، وهو الوثائقي الطويل الثالث لدكاش عن
السجون بعد “12 لبنانيا غاضبا” في 2009 عن سجن رومية و”يوميات شهرزاد” في
2013 عن سجن بعبدا. وينافس ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة بمهرجان
الجونة السينمائي في مصر كما ينافس على جائزة “سينما من أجل الإنسانية”.
يكتسب الفيلم اسمه من المبنى الأزرق داخل سجن رومية الذي
يضم السجناء المصابين باضطرابات نفسية وعصبية، حيث تعمل زينة على مساعدتهم
بالعلاج النفسي من خلال “المركز اللبناني للعلاج بالدراما”، وتعمل على
دمجهم في أنشطة وعروض فنية ومسرحية.
جرى تصوير الفيلم على مدى ثلاث سنوات داخل سجن رومية المكتظ
بالنزلاء، ويمكن من خلاله ملاحظة مدى الإهمال الذي يعانيه المرضى النفسيون
الصادرة ضدهم أحكام قضائية أو الموقوفون على ذمة قضايا، حيث لا رعاية طبية
ولا متابعة قضائية لأوضاعهم القانونية.
وأوضحت دكاش أن القانون اللبناني الصادر في 1943 ولا يزال
ساريا ينص على أن “كل مجنون أو معتوه أو ممسوس ارتكب جرما يبقى في السجن
إلى حين الشفاء”، وهو في نظرها نص فضفاض غير ملزم بإجراء تقييم منتظم
لحالات السجناء مما يبقيهم خلف الأسوار حتى يأتيهم الموت.
وقالت المخرجة بعد العرض العالمي الأول للفيلم في مهرجان
الجونة “عملت داخل السجون لسنوات طويلة وصنعنا مسرحيات كثيرة وكل هذا موثق
بالفيديو والصور، لكن فكرة صنع فيلم لا تظهر إلا عندما يكون هناك شيء ملح
يشدني للحكي عنه وإبرازه بشكل منفصل”.
وأضافت “لاحظت أثناء العمل بعض السجناء غير المتزنين نفسيا
وعندما سألت اكتشفت أن الأحكام الصادرة ضدهم تشمل عبارة ‘لحين الشفاء’
وعندما بحثت أكثر وجدت أن من بينهم من قضى 37 و38 عاما في السجن، إلى درجة
أن بعضهم أصابه الخرف أو الزهايمر”.
وأشارت إلى أن الأفلام والمسرحيات وغيرها من الجهود
المجتمعية والمساعي الشخصية ساهمت في تحريك المياه الراكدة وتغيير ولو شيء
بسيط في أوضاع السجناء وخروج بعضهم بالفعل في إطار جهود خاصة.
وقالت إن “هناك مشروع قانون منذ عدة سنوات بشأن أوضاع
السجناء الذين يعانون من أمراض نفسية وعصبية لكن الوضع القائم في لبنان
يؤجل مناقشة الكثير من القضايا”.
ورغم قسوة الحياة داخل السجن لا يخلو فيلم “السجناء الزرق”
من المرح الذي يتولد من ردود الفعل التلقائية للسجناء أثناء جلسات العلاج
النفسي والإعداد للأعمال المسرحية.
وتقول زينة إنه رغم صعوبة العمل داخل سجن للرجال في البداية
واستغراق وقت طويل لاعتياد النزلاء على وجودها ومنحها ثقتهم فإنهم فور
تأكدهم من صدق نواياها ورغبتها الحقيقية في مساعدتهم أطلقوا عليها لقب
“أبوعلي” ليشعروا بأنها واحدة منهم.
في حب بيروت
شهد الأربعاء، سادس أيام الدورة الخامسة لمهرجان الجونة
السينمائي، مجموعة متميزة من العروض والفعاليات من بينها عرض الفيلم
اللبناني “كوستا برافا” للمخرجة مونيا عقل الذي رُشح لجائزة الجمهور في
مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي وفاز بجائزة نيتباك (شبكة الترويج للسينما
الآسيوية) في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي.
وتعتبر عقل فيلمها عملا من أعمال المقاومة وسبيلا للبقاء ضد
الأزمة المالية وتداعيات انفجار بيروت والأزمة الصحية، مشيرة إلى أن لبنان
يمر بفترة صعبة، فيما فيلمها رسالة حب إلى بيروت.
ويصور الفيلم قصة عائلة تقرر الفرار من بيروت للعيش في
الجبال هروبا من الهواء الملوث، لكن إحساس الوالدين بالذنب يتعاظم خاصة مع
إقامة السلطات مصب نفايات بالقرب من المستقر الجديد. وفي هذا العمل تؤدي
نادين لبكي دور الأم في حين يلعب الممثل الفلسطيني صالح بكري دور الأب.
وسبق أن اعتبر موقع فاريتي فيلم “كوستا برافا” أنه قدم صورة
قوية لما يحدث في بيروت والأوضاع التي كانت سائدة قبل انفجار المرفأ، من
خلال قصة هذه الأسرة التي تواجه المصاعب في انتقالها إلى الجبال اللبنانية.
الحالة السياسية والاجتماعية والواقع المعيشي الصعب انعكسا
على جل الأفلام اللبنانية التي باتت تحاول استعادة بيروت
وقالت بطلة الفيلم نادين لبكي إن “كوستا برافا” ليس مجرد
فيلم بالنسبة إليهم، إنما هو صورة انعكاسية لما يعيشه اللبنانيون، وهو ما
يظهر في الصراعات والتناقضات العاطفية ومشاعر الحب والكراهية التي يكنونها
لبلدهم.
ومن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة يعرض فيلم لبناني آخر
هو “البحر أمامكم” من إخراج إيلي داغر الفائز بجائزة السعفة الذهبية لأفضل
فيلم قصير من مهرجان كان السينمائي عن فيلمه “موج 98”. من خلال شريطه
الروائي الجديد يعود داغر (1985) إلى الوجه الشاحب من لبنان؛ فبين العملَين
بيروت حاضرة كشبح، مدينة أبوكاليبتية رمادية لا تدخلها الشمس، تعود إليها
بطلة الفيلم الجديد جنى التي تؤدي دورها الممثلة منال عيسى، بعد غياب سنوات
للدراسة في باريس، ليشرّع هذا الرجوع الباب على جملة من التساؤلات
والأحاسيس والانفعالات والصور والعلاقات. ويُشارك في بطولة العمل كلّ من
يارا أبوحيدر وربيع الزهر وفادي أبي سمرا وروجيه عازار.
ويتطرق الفيلم إلى الأحداث التي يشهدها لبنان منذ زمن طويل
وما ترتب عليها من فقدان الرؤية، كما يضيء على بعض الجوانب التي دفعت
اللبنانيين إلى الهجرة خارج بلدهم هرباً من الواقع الأليم الذي جعل البعض
الآخر من اللبنانيين الذين بقوا في وطنهم يشعرون بالغربة فيه، وهذه الظروف
والأحداث شكّلت بيئة خصبة للإبداع اللبناني في مجالات فنية وثقافية عدة.
ويتناول الفيلم موضوع الاغتراب، ولكن غير مقصود به الهجرة
لأن أكثر من 70 في المئة من اللبنانيين في الخارج، وإنما تم اختيار موضوع
الاغتراب الاجتماعي الذي يجعل من المقيمين يشعرون بانفصالهم عن القيم
والمعايير والممارسات والعلاقات الاجتماعية في المجتمع اللبناني الذي مازال
يعاني من الأزمات الاقتصادية والسياسية والتفكك الاجتماعي، وقد انعكست
الحالة السياسية والاجتماعية والواقع المعيشي الصعب على جل الأفلام
اللبنانية التي باتت تحاول مطاردة وجه بيروت. |