كان صديقي الناقد، المترجم السينمائي، أحمد يوسف، متشائماً
تشاؤماً إيجابياً، وأنا أحبه، أحب الدكتور أحمد بالطبع، لا التشاؤم، مهما
يخلق كوابح ومصدّات تمنع الاندفاعات العاطفية المجانية. في صيف 1988 اشتعلت
الأجواء بأغنية "لولاكي"، في شريط كاسيت يحمل الاسم نفسه، قبل تحوّل عنوان
أي مجموعة أغانٍ من "شريطٍ" إلى "ألبومٍ".
انطفأت نار القش، ولم يبقَ منها إلا اسم "لولاكي"، ونسي
الناس حتى المغني علي حميدة. وفي صيف 1997 حقق فيلم "إسماعيلية رايح جاي"
نجاحاً جماهيرياً غير مسبوق مقارنةً بتواضعه الفني والإنتاجي، وصار أكثر
شهرةً من مخرجه. النجاح المفاجئ لصناع الفيلم، الذين أكملوه على مضضٍ
وليمونٍ، أغرى بالسينما مغامرين منهم نجيب ساويرس.
في ذلك الوقت، لم يتفاءل أحمد يوسف بحماسة ساويرس للإنتاج
وإنشاء شركة رنيسانس وبناء مجمعاتٍ سينمائيةٍ. تلك بدايات التفكيك العمومي،
وقد نال السينما منه نصيبٌ ماديٌ ومعنويٌ، باستئناس كائناتها الهابطة من
الفضاء عبر الشاشات الكبرى، لتصير كائنات منزلية تلفزيونية أليفة، بعد
تقطيع دور العرض الكبرى، بتقسيمها إلى قاعاتٍ صغيرةٍ، ومن أمثلتها سينما
أوديون.
تخيلوا مثلاً أن تفاجأوا بتقسيم ميدان التحرير إلى مجموعةٍ
من مستطيلات ودوائر ومثلثاتٍ وحدائق صغيرةٍ مسوّرةٍ، ومواقف للسيارات،
وعرباتٍ وأكشاك بيع المأكولات وملحقاتها من المخازن، والمسلة وحرَم المسلة
والكباش الأربعة. ماذا يبقى من الميدان؟
تخيلوا مثلاً أن تفاجأوا بتقسيم ميدان التحرير إلى مجموعةٍ
من مستطيلاتٍ ودوائر ومثلثاتٍ وحدائق صغيرةٍ مسوّرةٍ، ومواقف للسيارات....
ماذا يبقى من الميدان؟
كان محبو السينما يُجمعون تقريباً على ساويرس، ويراهنون على
كلامه عن نهضةٍ إنتاجيةٍ، باستثناء أحمد يوسف. قال إن ساويرس لن ينتج
أفلاماً، واحتج بأن رجال المال ينقّبون عن الفائدة السريعة، وإذا اكتشفوا
أن العاطفة غلبتهم وكلفتهم ما لا يطيقون، فلا يترددون في القفز إلى نشاطٍ
ذي عائدٍ أكبر وأسرع.
رجل المال قد يضيق صدره بالسينما فيبيع دور العرض، ما الذي
يُلزمه بإنتاج يحتمل المغامرة؟ المغامرة تحتاج إلى فدائيين يؤمنون
بالرسالة، وإلى شركاتٍ مساهمةٍ تراهن على المكسب البطيء، وعلى تجاور
الإنتاج وتنوعه؛ ليرضي أذواقا متباينة، ويتيح تمرير أفلامٍ مهمةٍ يخشى رجال
المال ألا تنجح تجاريا. أما الشركاء فكما يتقتسمون الحلم يحتملون الخسائر،
لأن الفن غايتهم.
حضرتُ مهرجان الجونة السينمائي، منذ انطلاق دورته الأولى
2017 باستثناء الدورة الرابعة 2020 معتذراً لسبب ليس وقته الآن. وفي مارس
2017 أصدرتُ لأحمد يوسف في سلسلة كتاب الهلال كتابه "سياسة عادل إمام..
رسائل من الوالي"، ولم أقابله حتى وفاته في 14 تموز/يوليو 2018، وكان في
شهوره الأخيرة يعاني تشاؤماً واكتئاباً وانسحاباً من الحياة، فالآفاق تضيق،
والسماء تنخفض، وتجبر الرؤوس على الانحناء، وليس في المنظور القريب ريح
تبدّد سحاب الاستبداد.
قبل الجونة حضرتُ مهرجانات وطنية وأهلية، عربية وأجنبية، في
الشرق والغرب. ولا أجد شبهاً لمهرجان الجونة بأي منها، باستثناء ضمانة أن
تشاهدوا فيلماً يستحق المشاهدة؛ رهاناً على ذائقة فريق المهرجان، وقدرتهم
على الاختيار.
في اليوم الأول، الجمعة الماضي 15 تشرين الأول/أكتوبر 2021،
بدأت عروض الدورة الخامسة بفيلم المخرج الفنلندي تيمو نيكي "الرجل الأعمى
الذي لم يُرد أن يشاهد تيتانيك" الفائز بجائزة الجمهور في مهرجان فينيسيا
2021. فيلمٌ يعيد الاعتبار إلى فن السينما، وإلى قدرة الخيال على ابتكار
حلولٍ بسيطةٍ تتغلب على معضلة تمويل الإنتاج. رجل (الممثل بيتري
بويكولاينن) رهين ثلاثة محابس، العمى والكرسي المتحرك والبيت، يتواصل مع
العالم عبر التليفون، يستحوذ وحده على وقت الفيلم.
في مصر أمثلةٌ على بعض الذين تلحس الأضواء أدمغتهم، فيصرّون
على الإفتاء في كل شيء، لأن السوق الرائجة أهم من البضاعة، والنار تطلب
الوقود، ولدى هؤلاء ما يظنونه وقوداً
ينجو الفيلم من فخّ الميلودراما، ولا يستدرّ الدموع،
إشفاقاً على بطل أعمى قعيد يحب الحياة ويتفاعل مع العالم بطريقته. يقرر
السفر بالقطار للقاء صديقته للمرة الأولى لأنها على وشك الموت، رحلةٌ
تستغرق بضع ساعاتٍ وتحتاج إلى مساعدة يتوقعها من خمسةٍ غرباء: من بيته
الصغير إلى التاكسي، سائق تاكسي للوصول إلى محطة القطار، شخص يدفع المقعد
إلى داخل القطار، رابعٌ من القطار إلى سيارة أجرة، خامسٌ يوصله إلى عنوان
المرأة.
يظل المشاهد طوال 82 دقيقة هي زمن الفيلم متوتّراً؛ لمعرفة
مصير الأعمى العاشق وهو يواجه وحوشاً بشريةً يسرقون ماله وهاتفه، لكنه
قاوم، واحتمل قسوة العالم؛ من أجل أن يحظى برؤية وجه المرأة بيديه، ويهديها
نسخة من فيلم "تيتانيك". وسبق أن عرض المهرجان عام 2018 الفيلم الدنماركي
"المذنب"، وكلا الفيلمين ينتمي إلى تيارٍ إنتاجي متقشف وثريّ معاً.
الإشادة بجودة انتقاءات مهرجان الجونة لأفلامه وأقسامه
المختلفة لا تنسيني استثناءاتٍ نادرة تؤكد هذه القاعدة، منها فيلم "عيار
ناري"، وقد عرض في الدورة الثانية (أيلول/سبتمبر 2018) وكتبتُ عنه مقالاً
في صحيفة "العرب" اللندنية، في 27 سبتمبر 2018، عنوانه "عيار ناري.. يتبنى
خطاب وزارة الداخلية في توصيف ثورة 25 يناير".
زرتُ الهند للمرة الأولى في تموز/يوليو 2007، مدعواً إلى
الدورة التاسعة لمهرجان "أوسيان سيني فان للسينما الآسيوية والعربية" الذي
عرض نحو 140 فيلماً من 35 دولة. وتكررت الدعوة أربع مرات. عجبتُ لهنديٍ في
حوالي الأربعين، نيفل تولي، رئيس مؤسسة أوسيانس للفنون، الأهلية المستقلة
التي تعنى بتنظيم المعارض التشكيلية، وبيع اللوحات الفنية، وترعى المهرجان.
الذي لا يعرف نيفل تولي لن يلاحظ أن له علاقة بالمهرجان.
أسند الإدارة إلى محترفين، ولم يفرض نفسه، أو يمنّ على أحد بثرثرة أو إقحام
نفسه في كادر، أو افتعال كادر.
كرم المهرجان، عام 2012، سمير فريد، ومنحه جائزة "إنجاز
العمر في الكتابة السينمائية"؛ جائزةٌ وحيدةٌ في مهرجانٍ شعاره الدقة، ولا
يميل إلى البهرجة، ولا يسعى وراء نجم يستجدي حضوره. في الافتتاح ألقى سمير
فريد كلمةً قصيرةً أشاد فيها بنقاد السينما، قائلاً إن تكريمه تكريم لهم،
وللسينما المصرية. وفي اليوم التالي ألقى محاضرةً عن دور النقد السينمائي.
في مهرجان الجونة بدأت التكريمات من الذروة، باختيار الناقد
اللبناني إبراهيم العريس، والممثل المصري عادل إمام، لكن الأخير أبى إلا أن
يشير إلى الطبيعة العائلية للمهرجان، بقوله لابنه في حفل الافتتاح: "بوس
إيد عمك نجيب يا ولد".
عادل إمام، أيّاً كان الاختلاف حول تقييم تجربته، هو رمزٌ
للصناعة وعنوانٌ لجيلٍ ونجمٍ تلحق به مجموعةٌ من أفعل التفضيل. هذا كله لا
يصدق على أحمد السقا الذي كرمه المهرجان هذا العام؛ حدث يؤكد أن دعوة الأم
المستجابة تعوّض أحياناً تواضع الموهبة، فما شاء الله كان.
لماذا لا يؤمن الممثل بأن مهنته لا تحتاج إلى أكثر من
إجادتها؟ الموهوب تغنيه الموهبة عن تفلسف يفضح جهله، ويكشف عوراته العقلية.
من أجمل ما في أحمد زكي وسعاد حسني اكتفاؤهما بالتمثيل. ولم يحاول أي منهما
التنظير لأدواره وشرحها، وإقناع الجمهور بأن وراء هذا التمثيل وعياً خاصاً
بتاريخ النوع، وبأي شيءٍ آخرٍ.
في مصر أمثلةٌ على بعض الذين تلحس الأضواء أدمغتهم، فيصرّون
على الإفتاء في كل شيء، لأن السوق الرائجة أهم من البضاعة، والنار تطلب
الوقود، ولدى هؤلاء ما يظنونه وقوداً.
من منصبه المرموق وموقعه الوظيفي الكبير في مكتبة
الإسكندرية التابعة للرئاسة، لم يكتب يوسف زيدان كلمةً تؤيد الثورة قبل
ظهور خيطها الأبيض من الأسود. وبعد إزاحة حسني مبارك كتب "فقه الثورة". ولو
تمكن مبارك من قمع الثورة، والاستمرار في الحكم، لكتب زيدان "فقه
الاستقرار". أما باسم يوسف، أحد مآثر الثورة في مجاله، فالتزم دور المهرج
صانع البهجة، وأغراه رواج السوق، فسارع إلى الإفتاء في السياسة والفقه
وأشياء أخرى. هو الآن أقل انشغالاً، ولا يكتب في أي من ذلك.
أحمد السقا، في نشوة التكريم، أهان السينما المصرية. ما
أسهل الضرب في هزيمة 1967، بمدّ الخيط إلى آخره، وإسقاط ثلاثين عاماً أنتجت
فيها أفلام من أهم الكلاسيكيات. لا يدرك الجاهلون بتاريخ الصناعة أن فيلم
"إسماعيلية رايح جاي" بداية انحدار، معيار فنيّ خاطئ اتخذه الجمهور مرجعية
للنجاح، وأذعن مخرجون وممثلون لهذه الموجة الكاسحة، باستثناء قلّة لم
يهدروا ما درسوه، واحترموا بدايات راكموا بعدها رصيداً أقلّ عدداً وأكثر
جودة.
السقا وجد صيغةً لمغازلة النفاق الاجتماعي، وإرضاء تناقضات
الطبقة الوسطى
في الثلاثين عاماً التي أسقطها السقا من السينما المصرية،
ظهر ما عرف بتيار الواقعية الجديدة، وبعد "إسماعيلية رايح جاي" لم يعد
أغلبهم قادرين على إنجاز مشاريعهم.
السقا وجد صيغةً لمغازلة النفاق الاجتماعي، وإرضاء تناقضات
الطبقة الوسطى. قبض على السينما بيد، وعلى ما يتصور أنه الأخلاق باليد
الأخرى. وبالحظ القليل من الموهبة استمر المشوار، وبحظٍّ أقل من الموهبة
جاء محمد رمضان، استجابةً لروح لحظة تاريخية مرتبكة، ونسف المنظومة، ولخبط
الحسابات، بمزيج من الجرأة والفجاجة والابتذال الأجوف الذي فرض نفسه حتى
على مهرجان الجونة في افتتاح دورته الخامسة. ما علاقة السينما بهذه الهرتلة
اللفظية الاستعراضية لو لم يكن بطلها محمد رمضان؟ اسمع الكلمات واحكم:
"الدنيا
ايه غير حبّة حاجات/ أحلى ما فيها جوّ البنات/ سامحيني باحبّ تقبليني على
عيبي/ دي حاجة بتجري في دمي ده نصيبي/ وما تلوموش عليّ كان على عيني". وبعد
المقدمة، يقدم النصيحة لأمثاله: "خليك صريح معاها/ خليك جنتل مان/إدّيها
كلمة حلوة تدّي لك حنان/ده اللي يدلّعها يبقى في عينها باشا وبيه".
لا يتسع صدر مهرجان سينمائي، باستثناء الجونة، لهرتلةٍ
غنائية لا يرى متابعو الافتتاح غيرها في مهرجان بدأ قوياً بأقسامه وأنشطته
التي تضم معارض استعادية لأبرز السينمائيين في العالم، ومحاضرات لكبار
المخرجين والمنتجين، ودعم مشاريع أفلام في مرحلتي الإنتاج وما بعد الإنتاج؛
حصاد يلمسه المهمومون، لا المترصدون ذوو العيون الجائعة. متعة الأفلام تخصّ
الجمهور في القاعات، وهذا هو الأهم والأبقى.
ما يدعو للفرح أيضاً هو تكريم الفنان الفلسطيني محمد بكري.
وسيكون الختام أجمل.