المهرجان المصري يعرض تشكيلة من أعمال سينمائية غير مألوفة.
يثبت مهرجان الجونة السينمائي في دورته الخامسة أنه أصبح
مهرجانا قادرا على برمجة توليفة كبيرة وهامة من الأفلام العربية والأجنبية،
وأنه أصبح بإمكان المشاركين فيه مشاهدة أغلب الأفلام التي سبق أن كانت
حاضرة في مهرجانات كبرى على غرار كان وبرلين وغيرهما، إلى درجة بات
بمقدورنا اليوم اعتباره منصة سينمائية تصعب منافستها على الأقل عربيا.
للمرة الثانية على التوالي يتحدى منظمو مهرجان الجونة
السينمائي ليس فقط وباء كوفيد – 19، الذي بات خطرا مرعبا يهدد الكون،
فيتخذون كل الإجراءات الاحترازية الكفيلة إلى حد ما بمنع انتشاره ضمن
أروقته، بل يتحدون أيضا أنفسهم حين يبرمجون أفلاما عربية وحتى مصرية لا
يمكن للمرء أن يتجاوزها أو يغض النظر عن متابعتها.
ورغم أننا نعرف سلفاً أن الإمكانات المتاحة للمهرجان والدعم
المادي الذي يقدمه له منظموه وشركاؤهم يعتبران السبب الرئيسي في نجاحه،
وخاصة في ظل الظروف الاقتصادية التي يمر بها العالم والتي تؤدي بدورها إلى
فشل مهرجانات كثيرة أو حتى توقفها، تبقى للمهرجان أهميته من خلال بصمته على
الأقل التنظيمية التي لا يمكن أن ينافسها أحد عربيا إذا استثنيا بعض
المهرجانات العربية القليلة جدا.
منذ الأيام الأولى للمهرجان حفل البرنامج بأفلام هامة جدا؛
فضمن المسابقة الرسمية للفيلم الروائي الطويل يتسابق 16 فيلما من بلدان
عدة، معظم تلك الأفلام سبق لها أن كانت حاضرة في مهرجان كان أو برلين أو
غيرهما من المهرجانات الدولية الكبرى، الأمر الذي يستدعي من النقاد متابعة
أكبر عدد منها، وهو أمر صعب بطبيعة الحال خاصة في ظل وجود أفلام روائية
طويلة هامة ومن إنتاج العام 2021 ولكنها تعرض خارج المسابقة، بالإضافة إلى
وجود نخبة من الأفلام الروائية القصيرة والوثائقية، الأمر الذي يحتاج إلى
جدولة وتنظيم أيضا من قبل الحاضرين الراغبين في متابعة أكبر قدر ممكن من
تلك الأفلام.
أبطال غير محترفين
من الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية، والتي عرضت في
الأيام الأولى من المهرجان، يأتي الفيلم الفنلندي المعنون “الكفيف الذي رفض
مشاهدة التايتانيك” ليشكل تجربة فريدة من نوعها؛ فرغم أن قصة الفيلم تبدو
بسيطة جدا، فهي تدور حول يوميات رجل مصاب باعتلال عصبي أفقده القدرة على
الحركة وأصابه بالعمى التدريجي فيحاول التعايش معه ويسخّر له هاتفه الجوال
معظم خدماته، إلا أنه لا يحظى بالحرية التي يتمتع بها الأصحاء.
وعلى جانب آخر شكل البيت بالنسبة إلى البطل المكان
الاعتيادي الذي يمارس فيه نشاطه المحدود، وهناك مرافقته التي تقوم بتنظيف
منزله وإعداد الطعام وإحضار الدواء واصطحابه للخارج في بعض الأحيان، بينما
في الخارج لديه أسرته وخاصة والده الذي يشعر بأنه يعامله كطفل نتيجةً
لحالته الصحية. وبين العالمين هناك العالم الافتراضي الذي يربطه بسيريا،
السيدة التي تعلق بها وأحبها حتى دون أن يلتقيها ولو لمرة واحدة، وهو وإن
التقاها لن يعرف وجهها على اعتباره كفيفا، فيخطط في يوم جنوني وبعد أن سمع
عن تدهور حالتها الصحية لزيارتها وحيدا، لتبدأ رحلة جديدة من المعاناة
وليتعرض لعملية نصب تكاد تودي بحياته، لكن الحب والرغبة في لقاء الحبيب
يبقيان هما الدافع إلى مقاومة هذه العملية والتصرف بحنكة لتجاوز محنته.
معظم أفلام المهرجان سبق لها أن كانت حاضرة في مهرجانات
دولية كبرى، ما يدفع النقاد إلى متابعة أكبر عدد منها
حاول مخرج الفيلم تيمو نيكي أن يركز طيلة الوقت على بطل
فيلمه، ليس فقط من حيث القصة وإنما أيضا من حيث الصورة السينمائية، فوجوده
كان مركزا للفيلم ومركزا لعين الكاميرا وحركتها بشكل احترافي، فكل ما نراه
كمشاهدين هو من وجهة نظر ذلك الكفيف نحو الحياة والأشياء والمحيط القريب
منه والبعيد عنه، إننا نتأثر حتى بسقوطه المدوي على الأرض، فعدسة الكاميرا
تركز عليه بينما يبدو كل ما حوله ضبابيا حتى السيدة حبيبته التي سيلقاها في
الدقيقة الأخيرة من الفيلم بعد عنائه الكبير.
وعلى خط مواز يأتي الفيلم البلجيكي “ملعب” للمخرجة نورا
فوديل، ليرصد حياة طفلة وشقيقها، ولكن أيضا من وجهة نظر الطفلة إلى درجة أن
المخرج جعل الكاميرا في مستوى نظرها لا أعلى ولا حتى أدنى. وهو فيلم لا
يعالج فقط المشاكل التي يعاني منها بعض المهاجرين وأبنائهم والتي تتعلق
بالتنمر وما شابه ذلك، بل يدخل أيضا إلى أعماق المدرسة التعليمية في بلجيكا
ليرصد تلك الحالة من خلال الطفلة التي نرى ونسمع ونتابع الحياة من خلالها،
دون أن يشتت انتباهنا المخرج بتفاصيل مقحمة وغير هامة.والفيلم الذي أخرجه
تيمو نيكي رغم أنه يركز على البطل لم يعتمد على ممثل محترف ليؤدي دور ذلك
الكفيف، بل إن بطله رجل يعيش يوميات حياته بشكل شبه مماثل للظروف التي
يعيشها بطل الفيلم، فهو بدوره مصاب بمرض يتلف الأعصاب وقد أفقده بصره
فعليا، كما يشير مخرج الفيلم في جنريك الختام، ويقال إن المخرج كان يتابع
حالته المرضية وكان يفكر في تقديمه من خلال فيلم قصير، لكن بعد أن اكتملت
الفكرة واستطاع المخرج إقناع بطله بخوض التجربة تحول الفيلم من روائي قصير
إلى طويل، وصور خلال أيام، أي قبل أن يبدأ الرجل فعليا بفقدان حاسة البصر.
إنها تجربة تشبه إلى حد كبير -من حيث تكنيك الفيلم وإنجازه،
ومن حيث اللجوء إلى ممثل غير محترف- الفيلم الفنلندي “الكفيف الذي لم يرغب
في مشاهدة التايتانيك”، ورغم أن الفيلمين يحملان مخاطرة الفشل لأن الأبطال
فيهما من غير المحترفين إلا أن التجربة أثبتت نجاحها.
الأمل والبحث
أما الفيلم الثاني المشارك في المسابقة الرسمية والذي أردت
الوقوف عنده فهو فيلم نبيل عيوش “كازابلانكا علي صوتك”، من إنتاج مغربي –
فرنسي، وهو بدوره يعتمد على ممثلين هواة غير محترفين وينتمي إلى سينما
المؤلف التي باتت مرتبطة بشكل وثيق بالسينما المغاربية، تحديدا المغرب.
ورغم أن الفيلم يبدو في بعض مشاهده وكأنه فيلم وثائقي يوثق لحياة البعض من
الشبان والشابات المغاربة الذين يعيشون وسط الأحياء الفقيرة في الدار
البيضاء، إلا أنه من جهة أخرى يثبت بالدليل القاطع وعي هؤلاء الشباب وخوفهم
في ذات الوقت من المجتمع الذي تحكمه السياسة ويسيطر عليه الدين والإرهاب.
يرصد الفيلم تجربة أنس أستاذ موسيقى الراب القادم لتدريب
مجموعة من المراهقين المغاربة والصعوبات التي سيتعرض لها، سواء من قبل
الجمعية الثقافية نفسها أو من قبل عائلات ومحيط هؤلاء الشباب، إلى أن يتمكن
أخيرا من وضعهم على الطريق الصحيح وأن يحقق لهم حلمهم بتقديم حفل لموسيقى
الراب.
ولقد سبق للفيلم أن شارك في مهرجان كان ضمن المسابقة
الرسمية 2021، ويعتبر إلى حد كبير امتدادا لفيلمه الأشهر “يا خيل الله”،
الذي حاول من خلاله عيوش رصد حياة مجموعة من الشباب الذين تحولهم الظروف
المحيطة بهم إلى إرهابيين، لكنه في هذا الفيلم يعود مرة أخرى ربما إلى نفس
الحي الفقير ليدافع عنهم، وليقول إنه بالإمكان أن نخرج منهم أيضا مجموعة من
الشباب الواعدين، في حال استطاعت جهة ما تبنيهم ثقافياً أو فنيا؛ إنه رسالة
مباشرة إلى الغرب لإلغاء الصورة الذهنية السلبية عنهم.
"الكفيف
الذي رفض مشاهدة التايتانيك" و"ملعب" فيلمان يحملان مخاطرة الفشل لأن
الأبطال فيهما من غير المحترفين
يذكر أن المخرج نبيل عيوش بعد أن أنهى فيلمه “يا خيل الله”
أسس جمعية في الدار البيضاء تحمل اسم “شباب سيدي مؤمن” كان من أهم أهدافها
فتح أبواب الحلم للشباب، وكان أبطال فيلمه الحالي من ضمن أعضاء تلك
الجمعية، الأمر الذي ساعده على اكتشاف مواهبهم ودواخلهم وإعادة تجسيدها
سينمائيا كنوع من تحقيق الحلم لهم.
لكن يبدو أن مخرج الفيلم قد اختار له نهايتين، الأولى هي
المعركة التي ستدور في الخارج أثناء تحقيق الحلم في حفل الراب بين الرافضين
والراغبين، والثانية هي المعركة التي أراد لها أن تكون أكثر إيجابية حين
حاول أن يجعل هؤلاء الشباب أكثر تمسكا بالأمل.
ومن ضمن الاختيار الرسمي للعرض خارج المسابقة الرسمية يأتي
الفيلم الروسي “ماما أنا في المنزل” (2021) للمخرج فلاديمير يوتوكوف، وهو
فيلم مشارك في جائزة سينما من أجل الإنسانية، الشعار الذي يلتزم به مهرجان
الجونة. وتدور أحداثه خلال 104 دقائق حول تونيا التي تنتظر عودة ابنها
الشاب البالغ من العمر 18 سنة.
إنها تختصر حياة العديد من الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءهن،
بعد أن قامت بعض الشركات العسكرية في روسيا بتوريطهم في العمل العسكري
وخاصة في سوريا، لكن يتم إبلاغها -وهي المنتظرة بحرقة الأم- بموت ابنها
الشاب وتقوم الجهات المختصة بتعويضها بملغ مالي كبير عن حياته، ولكنها ترفض
تصديق الإبلاغ وتبدأ برحلة البحث عن ابنها الذي لا يمكن لعقلها قبول خبر
موته دون دليل.
أثناء تلك الرحلة تتعرض للعديد من المضايقات والمعاكسات
وينتهي الفيلم دون أن تصل إلى نتيجة، وهو الفيلم الروسي الأول من نوعه الذي
يعالج أو يطرق موضوع الشباب الروس الذين يتم زجهم واستدراجهم لحروب خارج
بلادهم وخاصة في سوريا، بعد أن كانت بلدان عربية كثيرة قد تطرقت إليه
سينمائيا كتونس والمغرب على سبيل المثال.
كاتبة سورية |