يجسد الكاتب المصري الأهم في تاريخ السينما المصرية مفهوم
القوى الناعمة في التأثير على المجتمعات. الكلمات في أفلامه على لساننا
نرددها.
·
اعمال وحيد حامد أقرب الى مواجهات فردية لموجات فساد عاتية
·
أبطال وحيد حامد فقراء ولصوص ومهمشين ولكنهم يتقدمون الصفوف
ويسعون للتغيير
·
الجمهور المصري يعتبر ان المخرج هو يوسف شاهين والأديب هو
نجيب محفوظ وكاتب السيناريو هو وحيد حامد
أكثر من شاهد على تغيرات عصره
قدم وحيد حامد، الكاتب المصري الأهم في تاريخ السينما
المصرية خلال العقود الثلاثة الماضية ما يربو على الأربعين فيلماً
سينمائياً وعددا من المسلسلات للتلفزيون والإذاعة، شكلت في مجموعها صورة
ببليوجرافية للمجتمع المصري. أجاد فيها رسم خريطة لواقع المجتمع خلال هذه
الفترة، كما رصدت أغلب التحولات والمتغيرات التي أصاب بعضها المجتمع
كالأمراض الخبيثة. والبعض الآخر كان بمثابة تطور طبيعي حدث للمجتمع. لكن
وحيد حامد عمد إلى الوقوف عند هذه التحولات المجتمعية في أفلامه، لتتحول
هذه الأفلام لوثيقة تحفظ صورة بانورامية للمجتمع المصري.
حققت أعمال وحيد حامد نجاحاً جعله يحتكر لنفسه دون غيره صفة
كاتب السيناريو عند الجمهور. والمعتاد أن يحصل أصحاب المهن والحرف والأعمال
على تصريحٍ أو شهادة أو إجازة بمهنته، يمكنه أن يعلقها على الحائط خلف
مكتبه في برواز مذهب، أو يسجلها في بطاقة هويته وجواز سفره. لكن حينما يجمع
الجمهور على أن يخص أحدا ما بصفة فهو أمر مختلف تماماً. فالجمهور المصري
يعتبر المخرج هو يوسف شاهين، والأديب هو نجيب محفوظ، والشيخ هو الشعراوي
وطبيب القلوب هو مجدي يعقوب والشاي العروسة وكاتب السيناريو هو وحيد حامد.
كل هذه الأسماء تفردت عند المصريين - وإن لم تنفرد ولا تحتكر تلك المهن ولا
ذلك النجاح - ولكنها حظيت باتفاق العامة قبل النخب.
وقد سعيت لفهم السبب وراء هذا الاعتبار الشعبي الخاص لوحيد
حامد. وقد مر ولا يزال بتاريخ السينما المصرية أسماء كثيرة من كتاب
السيناريو لا يتسع المجال لذكرهم لكثرتهم وروعة أعمالهم. فوجدت أن أكثر ما
يميز إنتاج وحيد حامد الفني هو الاقتراب من الجمهور. فأفلامه كانت تجسيداً
للرائج من موضوعات وقضايا ومشكلات، وربما كان أصعب ما فيها أنه عمد إلى
الاشتباك مع تلك الأزمات وقت إثارتها وتعقدّها. كانت أفلامه بمثابة مواجهات
فردية لموجات فساد عاتية. لم ينتظر انخفاض الموجة ليسهل عليه الرصد أو
الحكم أو حتى تنفيذ بعض تلك الموضوعات التي لاقى تنفيذها معوقات في خروجها
للجمهور وهي تدين أشخاصا كانوا وقتها في أعلى سلم المسئولية.
أدرك الجمهور ما قام به وحيد حامد واحترمه. واتخذ منه بوصلة
للرأي أو التوجه أحياناً. فقد تبنى المصريون أفكار أفلامه. ورددوا بشكل
قيمي جملاً من تلك الأفلام كأنها مقاطع من كتب فلسفية أو مقدسة، حفظوها
واعتبروها ثوابت تعبر عن الحقيقة، بل وكان الجمهور أحياناً يستقي من هذه
الأفلام طريقة تصرفه في بعض المواقف المتكررة، وردود أفعال أبطال هذه
الأفلام تجاهها. أي أن أعماله تحولت من التصوير للتحريض. ولا بأس في هذا
فهو كله من قبيل القوة الناعمة لفن السينما وللفن عموماً بمنطقه الجماهيري.
حدث هذا مع أعمال كثيرة وكتاب كثيرين فتأثر المجتمع بأعمالهم. تعلم الشباب
الحب من جمل الحب الراقية في بعض الأفلام، وكذلك تناقلوا النكات والإفيهات
والسخرية – اللاذعة منها والمرة - وليس تبني جمهور الشباب لكلام تافه أو
تيمات سطحية للبطل أو مواجهتهم لمشاكلهم بمنطق البلطجة والعنف التي تنتشر
الآن إلا تأثيرات لسيناريوهات أفلام أخرجها مخرجون وقام بأدائها أبطال
ذائعو الصيت، الفارق أن وحيد حامد غلب على إنتاجه البعد المجتمعي، وتبنى
يوميات أحزانه ومتاعبه، وحمل أبطاله صور شباب هذا المجتمع بعيوبهم
وتشوهاتهم، ولم يسخر منها. وإنما وضعهم في مواجهات الواقع بكل ما فيه. ورأي
الجمهور ذلك حسناً.
وقد كان سؤالي من البداية عن سبب اقتراب إنتاج وحيد حامد،
السينمائي تحديداً، من مفاهيم المجتمع ليتحول لكاتب سيناريو الشعب الأول.
حاولت أن أنسب أفلامه لأي من المناهج الفنية. في مدخل لتقييم منهجي لهذه
الأفلام. باستحضار عناصر هذا المنهج. ودراسة درجة تحققه في العينة موضوع
الدراسة. وهو أسلوب بنيوي في النقد الفني. حتى إن كانت الاعمال موضوع
الدراسة بعيداً عن البنيوبة وما يقاربها من مناهج كالتفكيكية. وهما الأبعد
عن شكل إنتاج وحيد حامد الفني. كما ابتعد في أعماله عن المنهج النفسي الذي
كان سائداً في الأعمال الجادة منذ الستينات، وظل من أهم أشكال الكتابة في
السبعينات والثمانينات، وربما يظل المنهج النفسي مستحوذاً على كتاب
السيناريو حتى الآن.
سيطرت الواقعية على أعمال وحيد حامد. ليست بالتأكيد
الواقعية التي اتسم بها الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر والتي تأثر
كثير من الكتاب والمخرجين بها. فقد ظل حامد أقرب للواقعية الجديدة التي
تجلت في إنتاج مكسيم جوركي، وبالطبع نجيب محفوظ. كان جوركي يرى الواقعية
ناقصة حيث عمدت للهدم وحده ولم تلح على البناء. وكونها عجزت عن تقديم أي
بناء جديدة على أنقاض ما هدمت. بينما تتجاوز الواقعية الجديدة نظام الهدم
إلى البناء. ورغم أنها لا تكون إلا انعكاسًا للحقائق المتصلة بالكفاح
العملي في النظام الاشتراكي، وكذلك كان نجيب محفوظ الذي تعامل مع الواقعية
بكل ألوانها وطبقاتها. الرمزي منها والاشتراكي حتى الواقعية السحرية
الخلابة. فتعدت أفلام وحيد حامد كونها إطارا ينقل صورا متحركة من الواقع،
إلى كونها محفزات للبحث عن ردود الفعل والحلول. وقد يقول البعض إنه ليس على
الفن أن يعمد إلى هذا. والحق أن التعمد في الفن كله مرفوض. لأنه يقودنا
للتوجيه وليس لتأطير الأفكار وإعادة تقديمها، لكن حينما يأتي رد الفعل أو
النتيجة تحمل إرهاصات الحل ويتقبلها المجتمع ويعلي من شأنها ويصدقها، فهذا
أيضاً أمر مقبول. فعله وحيد حامد دائما في أعماله.
على مستوى آخر يبدو حامد ميالاً للمنهج الإجتماعي. وحيث أني
لا أعلم مدى إعجابه بتيار الاشتراكية الذي كان دائم الدعوة للمنهج
الاجتماعي كمنهج أنسب للنقد الاجتماعي. فإني أعتقد أنه ـ بحكم دراسته لعلم
الاجتماع في كلية الآداب ـ تأثر بالمنهج الاجتماعي، وهو المنهج الذي دعت
إليه الفلسفة الاشتراكية، يعنى بدراسة المجتمع، كما يعنى بتتبع الأعمال
الأدبية التي تصور المجتمع بخيره وشره، وتدعو إلى تقدمه.
والمنهج الاجتماعي يقربنا من الواقعية الجديدة، التي تعنى
بتسجيل الواقع بما فيه وكل ما فيه، وهذه هي نفسها الواقعية الاشتراكية التي
تؤمن بالفرد من خلال الجماعة، بعكس البورجوازية التي تؤمن بالجماعة من خلال
الفرد. والفرد هنا في أعمال وحيد حامد هو بالضرورة شخصية البطل. وتعد أنماط
أبطال أفلامه بمثابة الأفراد الذين تحاربهم جماعاتهم البشرية. ويخوضون
معارك طاحنة ربما تؤدي بهم من أجل سلامة الآخرين. وهو النموزج المثالي
لواقعية إشتراكية. نحن هنا نتحدث بالضرورة عن منهج فني ونسق إبداع لا تعني
بالمرة ولا تنبئ عن ميولات سياسية ولا توجهات فلسفية. إنما هي مناهج نقدية
لفهم إبداع وحيد حامد وفكره وصناعته لشخصياته.
وقد تجنب صناعة الشخصيات الرمزية التي تجلت في روايات نجيب
محفوظ منذ الستينات. وفضل عليها أنماط كاريكاتورية بعض الشيء للشخصيات
المساعدة في أفلامه (السنيدة) وهي شخصيات مرسومة بمنطق بارودي يوافق سخرية
المجتمع المصري عموما. بينما ذهب بأبطال أفلامه إلى نموذج مركب للبطل.
فالبطل عنده يجمع بين مواصفات البطل الملحمي والضحية. أو لنقل إن بطله وحيد
حامد يحمل صفات البطل الملحمي المعدلة والممتزجة مع الضحية.
فمثلاً البطل الملحمي في الغالب ملك أو أمير أو نبيل بينما
أبطال وحيد حامد فقراء ومعوزين ولصوص ومهمشين ولكنهم دائماً يتقدمون الصفوف
ويسعون للتغيير. كذلك فهو يصور أبطاله وقد وقع عليهم ظلم فادح فهو مزيج بين
البطل الملحمي والضحية. في «طائر الليل الحزين» سجين مظلوم هارب، وفي
«البريء» جندي فقير بالأمن المركزي يعاني الجهل والبراءة، وفي «الإنسان
يعيش مرة واحدة»، مدرس مقامر معاقب بالنقل، وفي «الإرهاب والكباب» يتحول
المدرس إلى مشاغب، وفي «المنسي» عامل تحويلة في أحد أكشاك السكك الحديدية،
وفي «الدنيا على جناح يمامة» سائق تاكسي، وفي «سوق المتعة» سجين، وفي «دم
الغزال» عدد من الأبطال والضحايا في ذات الوقت.
والبطل الملحمي يحمل قدرات عالية على المواجهة والتغيير
نراها في أبطال «غريب في بيتي» و«الغول» و«آخر الرجال المحترمين» و«اللعب
مع لكبار» و«مسجل خطر» و«اضحك الصورة تطلع حلوة». فكلهم وغيرهم يحملون
قدرات أعلى في مواجهة الظروف ومحاولاتهم تغييرها، بل يصرّون على إحداث
التغيير.
والبطل الملحمي مسافر دائماً من أجل قضيته ومحارب ومتواضع،
وهي ملامح نراها في أغلب أبطال وحيد حامد، بداية من شخصية إبراهيم الطائر
في «أحلام الفتى الطائر»، وفي «أنا وأنت وساعات السفر»، و«الدنيا على جناح
يمامة»، و«الوعد». فشخصيات أغلب أفلامه شخصيات متواضعة تحارب وتسافر من أجل
هدفها. ومعروف عنها المهارة في المواجهات وخفة الحركة وحتى لو لم يكن
محاربا بمعنى فيزيقي نجده مثل الاستاذ فرجاني (نور الشريف) في «آخر الرجال
المحترمين» وهو رجل يكتسب حب وتقدير الشخصيات المحاربة والمهرة واللصوص
فينضوون تحت لوائه، ويشكلون معه قوة قادرة على التغيير.
إذاً فبنية سيناريوهات أفلامه واقعية جديدة في أغلبها ما
عدا قليل من الرمزية مثل «الراقصة السياسي»، و«قط وفار»، أو الفانتازيا مثل
«معالي الوزير»، و«النوم في العسل»، فجميعها أفلام تجمعها قماشة الواقعية
المتسعة والتي تقترب ببساطة من حاجات المتفرج، ويتصدر هذه الحكايات
الواقعية شخوصاً تحمل مواصفات البطل الملحمي المعدل وفق نموذج عصري يناسب
الطابع العام للإنسان المعاصر، خاصة بعدما أدخل عليه كثيراً من مواصفات
الضحية الموجودة في الأدب الشعبي وخاصة الشفاهي منه، والتي ربما كانت السبب
وراء اقتراب أبطال أفلامه من قلوب جماهيره.
صارت توليفة وحيد حامد الفيلمية ككل التركيبات المصرية غير
المسبوقة والتي لا تشبه شيئا آخر. بطل له مكونات وأبعاد تتأرجح ما بين
البطل الملحمي وبطل السير الشعبية. وهو ما جعله أقرب ما يكون إلى رجل
الشارع المصري العادي. نجح وحيد حامد في إقناع مشاهديه الذين هم أشباه هذا
البطل بأنهم يمتلكون قوى خارقة وقدرات بطولية. ووضع هذا البطل أمام حدث
يشبه أحداثنا اليومية التي تمر بنا ولا نتوقف عندها. لكن بطل وحيد حامد
يتوقف غير قابل ولا قانع بالمرور أمام هذا الحدث العادي والمعتاد دون رد.
ومع أول رد فعل للبطل تنفجر سلسلة من الأحداث الدرامية التي تحمل مفاجآت
الكاتب وإبداعه في وجه البطل الذي توحد الجمهور معه ومع الحدث الذي وقع
فيه، قضية أصبح المشاهد طرفها الرئيسي بعدما تماهى مع أبطالها.
وربما اشتهر وحيد حامد بموقفه من جماعة الإخوان المسلمين.
لكن الحقيقة أن ذلك التصور ناقص مبتسر، فالكاتب منذ بداياته السينمائية
والتلفزيونية كان مهموماً بالشأن المصري ككل. متنقلاً ما بين جراح وآلام
هذا المجتمع. يتبنى قضاياه ويشخص داءه ويوجه كل أسلحته صوب عيوبه. وليس
موقفه من الإخوان المسلمين سوى حلقة في تطور موقفه العام من الفساد
المستشري في مصر والذي بدأه في «طائر الليل الحزين» كاشفاً أسوأ ما يسقط
المجتمعات الناهضة وهي فكرة غياب العدالة وسيطرة أصحاب النفوذ ومراكز القوى
على القانون. كان ذلك من أصداء الوضع العام في مصر وقتها. وهو ما عاد للعزف
على نغمته مرة أخرى وبمستوى أعلى من الكشف والمواجهة في فيلمه «البريء»
والذي ربما تسبب في تغيير الكثير من أسلوب وحيد حامد في الكتابة.
فمواجهات فيلم «البريء» للنظام العام واتهاماته التي طالت
مؤسسات الدولة أدت لتعثر عرض الفيلم الذي يعد علامة في تاريخه. لكن ما حدث
مع «البريء» لم يتكرر فيما بعد بنفس الدرجة. وهو ما يعني أن وحيد حامد قرر
الانتصار للعمل ولانتاج الأفلام على المواجهات التي تعطل العمل. فقد تعرض
الفيلم لتشويه محتواه وهو ما يحبط أي كاتب أو صانع أفلام. قوبلت مواجهته
لعيوب نظام الإعداد الأمني لعناصر الشرطة من المجندين باستياء المؤسسة
الأمنية واعتراضها، وعلى الرغم أن الإنذار الذي حققه هذا الفيلم تأكدت صحته
بعد حجب هذا الفيلم في السنة نفسها (1986) في أحداث (تمرّد) قوات الأمن
المركزي. إلا أن وحيد حامد اتجه لمعارضة الفساد في الطبقة الجديدة التي
كانت في بدايات تكوينها وظهورها نهاية سبعينيات القرن العشرين، في فيلمه
«أرزاق يا دنيا» حيث ظهرت بوادر هذه الطبقة، ثم تبعه بفيلم «الغول» الذي
أظهر تضخم نفوذ طبقة احتلت مكان مراكز القوى التي أشار اليها في فيلمه
«طائر الليل الحزين» والتي صارت الموجة الأعلى للفساد في مصر، خلال هذه
الفترة كان يتراوح ما بين طرح ما بدأ يظهر من تفكك قيم المجتمع المحافظ إلى
قيم المجتمع الاستهلاكي المتفسخة والتي ظهرت على مستوى الطبقة الوسطى في
فيلم «التخشيبة»، وكذلك في «أنا وانت وساعات السفر»، و«الهلفوت». من انهيار
للأخلاق والقيم وحلول قيم مادية وإنحطاط للضمير، ثم تغول الطبقة الجديدة
التي زاد نفوذها على ما بقى من أصحاب المواقف وحماة الضمير من رجل القانون
في فيلم «رجل لهذا الزمان»، وترتفع موجة الفساد الأخلاقي لتعلو إلى ممثلي
النظام العام للدولة في فيلم «الراقصة والسياسي».
ولم يكن وحيد حامد متشائماً برغم كل ما سبق. فلا يزال هناك
حماة للأخلاق وللضمير. وبرغم تفسخ المجتمع الذي رصدته أفلامه، إلا أنه يعود
للإشارة إلى حتمية وجود طاقة نور تتمثل في أصحاب الضمير والأخلاق ويمثلهم
الأستاذ فرجاني في «آخر الرجال المحترمين». كان فيلماً يميل للرومانسية وسط
أجواء شديدة السواد حملتها أغلب أفلامه وقتها. وفي ميدان التحرير وتحديداً
داخل مجمع التحرير حيث نموذج لكافة الآفات التي ضربت طبقات الشعب المصري
ومؤسساته وعلاقات الدولة بالمواطن، حيث بدأ وحيد حامد لأول مرة في طرح
نموذج المتدين المنافق الذي لا يحمل فكراً بل يحارب الفكر ويمثل المستوى
السطحي للتدين الظاهري الذي كان قد بدأ في الظهور متأثراً بعوامل عدة.
ومتوازياً مع تفشي النظرة الأمنية للدولة في معالجة قضاياها وذلك في فيلم
«الإرهاب والكباب»، كانت بعض أفلامه قد احتوت على مشاهد متعجلة لطوابير
الجماعات الدينية التي تظهر في الأقسام وسط المقبوض عليهم وفي المحاكم،
ولكنه لم يكن حتى يتوقف ليشير إلى هوية هؤلاء. فقط دائماً ما كانوا يظهرون
متجمعين. تظهر عليهم إشارات شكلية للتدين كاللحى والملابس القصيرة وعلامات
الصلاة في الجبين. المهم أنهم يظهرون كجماعة، تماماً كما سيطلق على المسلسل
الذي تحدث عنهم بتفصيل تاريخي فيما بعد، الى أن جعلهم يمثلون الضلع الثالث
في مثلث وضع الدولة في قاعدته وجعل ضلعها الثاني هو المنتفعين من طبقة رجال
الأعمال الفاسدين الذين تطوروا منذ ظهورهم العشوائي نهاية السبعينيات
ومرورهم بمراحل من التضخم المفرط كما في فيلم «المنسي» حتى صاروا في فيلم
«طيور الظلام» كيانا تحميه بنى اجتماعية وسياسية وقانونية ومؤسسية. ليتوغل
أكثر في أسباب ظهوره ومراحل تكوينه كما في فيلم «دم الغزال» الذي عرض كيفية
صناعة البيئة الآمنة لاحتضان ونمو هذه الجماعات.
لقد جعل وحيد حامد من أفلامه رأس حربة للهجوم على كل أشكال
الفساد التي تحيق بمصر منذ بدأ نشاطه في صناعة الأفلام الجماهيرية. وجه
سهامه بوضوح. وركز هجومه دون هوادة. كثيراً ما كان يغير استراتيجية الهجوم.
لكنه دائماً ما كان عدواً لكل أشكال الفساد. وما بلورته لموقفه من جماعات
الإسلام السياسي إلا محصلة لبحثه في أصل الأسباب وراء انحلال مكانة هذه
الدولة وانهيار قيم مجتمعها، والتي مر خلالها بمواجهات متعددة مع كل أشكال
الفساد والانحلال حتى أنه واجه مؤسسات الدولة ذاتها في وقت من الأوقات.
أجد من واجبي في نهاية هذه البانوراما ـ التي أقترب بها من
أسلوب ومنهج هذا الكاتب الكبير ـ أن أشير إلى إمكان إعداد دراسات متأنية
تتناول منهج وحيد حامد في معالجة المتغيرات الاجتماعية ذات المسحة
التاريخية في قوالب فيلمية أو دراما تلفزيونية، وما سيكون لها من أثر بالغ
في تطوير فن كتابة السيناريو للأعمال التي تهتم بالدراما التاريخية
والإجتماعية. |