برليناله 70: "بالأحرف الكبيرة".. والوجه المعاصر للسينما
الرومانية
أحمد شوقي
اعتدنا الحديث عن السينما الرومانية من مدخل الموجة
الجديدة، تلك الحركة التي بدأها مخرجون موهوبون مطلع القرن الحالي، كريستي
بيو وكرستيان مونجيو وكورنيليو بورمبيو تحديدًا، لتصير علامة مميزة لأفلام
شديدة الواقعية، منخفضة التكلفة، تستعيض عن الإمكانيات بنصوص مصاغة بعناية
مدهشة، وأداء تمثيلي يجعل من الحكايات الصغيرة في عهد الشيوعية ميكروكوزم
لما يمكن أن تفعله الديكتاتورية في أي مكان بالعالم.
إلا أن هذا الخطاب يتناسى، بوعي أو بدونه، أن تلك الموجة
انتهت عمليًا، يتبقى منها أفلام متناثرة تتم دائمًا مقارنتها بالأعمال
المؤسسة مع منح الأفضلية للأقدم، وأن السينما الرومانية حاليًا تمتلك موجة
جديدة من صناع أفلام ذوي أسلوب مغاير، رأس حربتهم هو رادو جود، بأعمال
متباينة الأسلوب بعضها نال تقديرًا عالميًا مثل "عفارم!" (جائزة الإخراج في
برلين 2015)، و"لا يهم إن انحدرنا في التاريخ كبرابرة" (كريستالة كارلوفي
فاري الذهبية 2018). والذي عاد إلى برلين الشهر الماضي بفيلمين دفعة واحدة،
أحدهما هو "بالأحرف الكبيرة
Uppercase Print".
هوس التاريخ.. بمعالجة حداثية
التاريخ له حضور دائم في سينما رادو جود، وإن كان اهتمامه
في الأفلام السابقة انشغل أكثر بماضٍ أبعد كالحروب العثمانية ومحارق
النازية، لكنه يعود في "بالأحرف الكبيرة" للحقبة المفضلة لدى مخرجي
رومانيا: حكم نيكولاي تشاوشيسكو، وإن كانت عودة حداثية الأسلوب، تختلف
كليًا في الشكل عن أفلام الموجة الجديدة، وإن كان المضمون بطبيعة الحال
متشابه.
الفيلم مأخوذ عن عرض مسرحي بعنوان "مسرحية وثائقية" كتبتها
جيانا كاربوناريو التي شاركت جود كتابة السيناريو، وفيه تروى حكاية صغيرة
عن طالب في السابعة عشر من عمره، قام عام 1981 بكتابة شعارات مطالبة
بالحرية، بالطبشور وبالأحرف الكبيرة، على جدران مدينته بوتوشاني، لتصيب
كتاباته السلطات الأمنية بالذعر، وتستنفر قواها حتى يتم القبض على الشاب
والتحقيق معه ومعه أسرته وأصدقائه حول فعلته "المشينة".
الملخص يوحي بفيلم مشابه لأفلام الموجة الجديدة، لكن واقع
الأمر أن رادو جود يتعامل مع الحكاية بصورة مختلفة تمامًا، يمتزج فيها كسر
الإيهام البريختي بالكابوسية الكافكاوية. لا أداء تمثيلي حقيقي للواقعة، بل
سلسلة من التفريغات لمحاضر الشرطة ونصوص التحقيقات وتقارير مراقبة الهواتف
والمنازل، يؤديها الممثلون بشكل مباشر في مواجهة الكاميرا، على خلفية ديكور
مسرحي يشير إلى معالم الحقبة التاريخية دون أن يحاول الإيحاء بالواقعية.
تتوازى المشاهد المؤداة مع مواد نادرة متنوعة، أتى بها
المخرج من أرشيف التلفزيون الوطني الروماني، تضم مزيجًا مما كان الناس
يشاهدونه في عهد تشاوشيسكو: تغني بالإنجازات، رقصات ركيكة بابتسامات مصطنعة
تملأ الوجوه، برامج خفيفة عن الرياضة والطهي، وحضور دائم لصورة واهمة برخاء
وسعادة عامة لو كانت حقيقية لما أُعدم الرئيس وزوجته بعد أعوام معدودة
رميًا بالرصاص، خلال ثلاثة أيام فقط من محاولتهما الهروب من الثائرين
ضدهما.
عما يفعله الأسلوب
اختيار المخرج الطابع البريختي يلعب أكثر من دور على صعيد
التلقي، بداية من الحفاظ على المسافة بين الجمهور والشخصيات؛ لا يرغب جود
أن نتماهى مع الحكاية بل أن نفكر فيها. كذلك يمنح الأداء المسرحي منزوع
الإيهام شعورًا صادقًا بأن الجميع عندما يتعامل مع السلطة، سواء كان متهمًا
أو مُحقِقًا أو مُحقَقًا معه، يغدو ممثلًا بشكل أو بآخر، يؤدي حوارًا سابق
التجهيز على مرأى ومسمع جمهور خفي، ثقيل الظل، كليّ العلم، اسمه النظام.
أما الدور الثالث ـ والأهم ـ في أسلوب رادو جود فهو منح
مساحات التفكير والمقارنة، التفكير في عبثية الاهتمام الأمني المفرط بواقعة
يمكن في سياق آخر اعتبارها مجرد نزوة تمرد من مراهق، والتي يترتب عليها
دخول السلطات في أدق التفاصيل من نوعية علاقة الشاب موجور كالينسكو بوالديه
المنفصلين، الهوايات التي يمارسها مع أصدقائه، وغيرها من التفاهات
الموثَّقة في سجلات رسمية.
مساحة المقارنة تأتي مع المواد الأرشيفية، التي لا يمكن مع
ركاكتها ألا تتخيل انغماس الجميع فيها، لا سيما ونحن نتحدث عن مطلع
الثمانينيات حينما كان الإعلام الرسمي هو الخيار الوحيد، حتى أن أهم اتهام
يوجه للشاب هو استماعه لإذاعة "أوروبا الحرة" الممولة أمريكيًا والتي تدعو
الرومانيين لمقارنة أوضاعهم المعيشية بما يحدث في الغرب.
تلك المقارنة تُنتج ذاك الشعور الكافكاوي بانعدام الأمل،
فماذا يمثله مراهق متمرد في مدينة هامشية حتى يتسبب القبض عليه أو حتى قتله
في هزة لهذا النظام العملاق؟ وما الذي يملكه المحيطون به سوى الاستسلام
للمصير رغبة في الأمان، ولو أدى الأمر لأن يشهد الأب ضد ابنه وينكل
المعلمون بطالب مراهق، لو افترضنا إنه ارتكب خطئًا فالواجب تقويمه لا
تدميره.
لوحتان ختاميتان.. الخلاصة
ينهي جود فيلمه بلوحتين متتاليتين، الأولى مُعاصرة نظريًا
(فالديكور المسرحي يلغي عنصر الزمن تلقائيًا)، فيها يتحدث رجال الأمن عن
ذكرياتهم حول الواقعة، مؤكدين أنهم تعاملوا مع موجور بمنتهى التحضر، وأنهم
لم يقوموا أبدًا بتعذيب الشباب بل كانوا يقومون بـ"حمايتهم"، مع تعمد عدم
الإجابة على اتهامهم بتسميم الشاب بالإشعاع، فقد توفي عام 1985 بلوكيميا
قيل أن سببها فناجين القهوة التي كانت تُقدم له خلال التحقيقات الدورية
التي استمرت شهورًا بعد الواقعة.
لا يهتم جود كثيرًا بصحة الاتهام، ففي النهاية هذا شاب ذكي
تم اغتياله وإن لم يسمموه. لكنه يهتم بوضع مرتكبي الجريمة في تكوين مستمد
من لوحة العشاء الأخير لدافنشي، ولكن بدلًا من الخبز والملح والنبيذ، تزدحم
المائدة بأطيب الثمار وزجاجات الكوكاكولا، فقد "حموا" الشباب من الرأسمالية
وقادوهم للقبور، ثم تمتعوا بثمارها دون ذرة ندم على ما فات!
اللوحة الثانية بمثابة خاتمة مسرحية (إيبيلوج) للعرض، فيها
نشاهد صورة الشاب الحقيقي وكتاباته الطبشورية من سجلات الشرطة، مجرد صور
صمّاء يعرضها جود دون صوت، لتصرخ برائتها بهول الواقعة. مجرد شخبطات على
مساحة محدودة وكأنها كتابات على لوحة أحد الفصول الدراسية، لكنها دخلت
ماكينة أمن تشاوشيسكو لتصير واقعة هائلة، صنع منها فنان موهوب مرثية
سينمائية لنشاهدها بعد أربعة عقود. |