الوعد تم، وتوقع هذا الناقد وسواه تحقق، إذ نال «ليس هناك
شيطان» للإيراني محمد رسولوف ذهبية المهرجان الألماني، وهي الجائزة القمّة
بين جوائز مهرجان برلين. الفيلم كما أشرنا أول من أمس كان آخر ما عرضته
الدورة السبعون للمهرجان الألماني العتيد من أفلام المسابقة التي بلغ عددها
18 فيلماً. وهو فيلم خرج من إيران بدون علم السلطات، بل تم تصويره، كما
تؤكد بعض التقارير، من دون علمها أيضاً، إذ إن المخرج رسولوف ممنوع من
العمل ومن مغادرة بلاده.
هناك أربع حكايات في هذا الفيلم الإيراني تدين كلها عمليات
الإعدام بحق مساجين جريمة بعضهم لا تعدو اختلاف الرأي. حكاية موظف مسؤول عن
تنفيذ الإعدام بشد يد الجهاز الذي سيقوم بالمهمّة. وحكاية الحارس الذي يهرب
من السجن حتى لا ينفذ حكماً بسجين، ثم حكاية جندي نفذ حكم الإعدام بحق رجل
لجأ إلى منزل عائلة خطيبته، وأخيراً الفتاة التي تكتشف أن والدها بالتبني
نفذ حكم الإعدام بأبيها الحقيقي.
في نهاية كل حكاية، يسجل المخرج موقفه من السلطات والقانون
المتعسف الذي تتمسك به. ومع كل حكاية نفهم اختيارات المخرج الذكية، لأنه
إذا ما كان صنع هذا الفيلم من دون علم السلطات، فإن هذا يفسر القصّتين
الأخيرتين اللتين تدوران في الريف البعيد.
ما ساعد رسولوف أيضاً حقيقة أن اختار أربع حكايات، كل واحدة
تشكل فيلماً قصيراً بحد ذاته، وتم تقديم طلبات التصوير بأسماء مخرجين
آخرين، قبل أن تؤول الموافقات لمحمد رسولوف الذي صوّر كل فيلم على حدة،
وبشكل سري. حين أعلن رئيس لجنة التحكيم جيريمي آيرونز، فوز «ليس هناك شر»،
فوجئ الحضور باعتلاء ابنة المخرج باران رسولوف المنصة لاستلام جائزة أبيها.
هي إحدى ممثلات الفيلم، وصولها إلى برلين ما زال موضع تساؤل وتخمينات. لكن
الواقع هو أنها كانت هناك، ورفعت الجائزة بيدها، وقالت «هذه لوالدي».
الجدير بالذكر هنا أنها المرّة الثالثة التي يفوز بها فيلم
إيراني بذهبية مهرجان برلين. المرّة الأولى مُنحت الجائزة لفيلم أصغر
فرهادي «انفصال» في عام 2011، والثانية عندما فاز بها فيلم جعفر باناهي
«تاكسي» سنة 2015. ويلتقي فيلم محمد رسولوف مع فيلم باناهي من حيث إن
كليهما من أفلام المعارضة. ويتشابه وضع المخرجين ذاتيهما، إذ إن كليهما
ممنوع من العمل، ومن مغادرة البلاد، وكل منهما هرّب فيلمه إلى أوروبا من
دون علم الدولة، وفاز بجائزة برلين.
لكن فيلم رسولوف أفضل من فيلم باناهي من حيث حجم طموحاته،
كما من حيث إنه عمل أجرأ في نقده. على ذلك، هناك عدة هفوات، من بينها تفاوت
بين مستوى بعض الحكايات (الأولى هي الأقوى والثانية هي الأضعف).
المنافس الأول لـ«ليس هناك شيطان» تمثّل بفيلم «أبداً
نادراً أحياناً دائماً» للأميركية إليزا هيتمان. النقاد أحبوا الفيلم،
واعتبروا معالجته لحبكة قائمة على اكتشاف فتاة شابة العراقيل الموضوعة
أمامها حين تقرر إجراء عملية إجهاض. لا بأس بموضوعه الاجتماعي، ولا
برسالته، ولا حتى بتنفيذه من مشهد لآخر، وهناك قدر من الطزاجة في الطرح
والمعالجة. كل ممثلي الفيلم (بدءاً ببطلته سيدني فلانيغن) من وجوه جديدة أو
شبه قديمة لم تلعب أدواراً بارزة فعلياً من قبل.
لكن ما يحدث على صعيد المعالجة الفنية يفتت الجهد المبذول
لسرد حكاية بشكل مباشر، واندفاع حاسم صوب الوقوف إلى جانب الفتاة في سعيها.
فالتصوير تم في بنسلفانيا، ثم في مانهاتن، وهذا الاختلاف سُجّل بصرياً كما
إيقاعاً. على ذلك، معالجة الفيلم واقعية ونبرته مباشرة، ولا تحاول المخرجة
أن توهم بشيء وتتوجه لتقول شيئاً آخر.
جائزة أفضل مخرج ذهبت للكوري هونغ سانغسو، عن فيلم «المرأة
التي ركضت». ربما هو فيلم ذو مغزى، وبالتأكيد لدى مخرجه أسلوب عمل هادئ،
لكن الجائزة في غير محلها، لأن إخراج سانغسو محدود إذا ما نظرنا إلى القيمة
الفعلية لكاميرا لا تفعل سوى التصوير وممثلين لا يقومون إلا بالحديث.
جائزة أفضل ممثلة نالتها الألمانية بولا بير، عن دورها في
«أوندين». كما تقدم الحديث في أحد هذه التقارير، تؤدي بولا شخصية امرأة عصف
الحب بقلبها مرتين؛ الأولى عندما تركها من تحب، والثانية عندما عاد إليها،
ما جعل علاقتها بصديقها الجديد محط أزمة عاطفية. بير تمثل الدور بإقناع
وفهم كاملين، وهي سبق وأن ظهرت في فيلم سابق لمخرج هذا الفيلم، كرستيان
بتزولد، هو «ترانزيت»، حيث لعبت دورها بإقناع كذلك.
أما جائزة أفضل ممثل، فذهبت للإيطالي إليو جرمانو عن
«مخبوء» (توقعناها له منذ أن شُوهد الفيلم في اليوم الثاني من المهرجان).
في هذا الفيلم الذي حققه جورجيو ديريتي، لعب الممثل شخصية الرسام الغامض
أنطونيو ليغابو، الذي اعتبره البعض مبدعاً، والبعض الآخر وصف أعماله
بالسذاجة وما دون. يحكي الفيلم عن شخصية معقدة نفسياً ومعادية، وعلى قدر من
العنف الذي ينفجر لأدنى الأسباب ضرورة. جرمانو برع في الحركة وطوّع جسده
ليماثل هيئة الرسم الغريبة شكلاً ومضموناً.
إذن توزّعت الجوائز المذكورة أعلاه بين إيران غير الرسمية
(«ليس هناك شر»)، والولايات المتحدة («أبداً نادراً أحياناً دائماً»)،
وكوريا الجنوبية («المرأة التي ركضت»)، وألمانيا (الممثلة باولا بير)، ثم
إيطاليا (إيليو جرمانو).
باقي الجوائز تبدو كما لو سعياً لاستكمال دائرة أوروبية في
أساسها، فالأفلام السابقة كلها أوروبية (بما في ذلك التمويل الألماني لفيلم
محمد رسولوف)، والحال كذلك عند التوسع في ذكر جائزة المناسبة السبعين
لمهرجان برلين (جائزة خاصة هذا العام) نالها الفيلم الفرنسي «امحِ التاريخ»
للثنائي توستاف كرفرن وبنوا دلفين. كذلك تم منح جائزة أفضل سيناريو لفيلم
إيطالي آخر هو «حكايات رديئة» من إخراج الشقيقين داميان وفابيو د إينوشنزو.
ثم سقطت كرة أفضل تصوير في حضن الفيلم الروسي «د أ يو: ناتاشا» إذ فاز بها
مدير التصوير يورغن يورجز.
بالنتيجة، هذه أفضل الأفلام والاختيارات، باستثناء تلك التي
منحت الفيلم الكوري جائزة أفضل إخراج، كانت صائبة، خصوصاً وأن المستوى
العام والشامل لأفلام المسابقة هذا العام لم يكن بتلك الجودة التي اعتادت
عليها دورات برلين السابقة.
نذكر أن هذا ما قلناه في نهاية الدورة التاسعة والستين في
العام الماضي، التي بدت كما لو أن المدير السابق دييتر كوزليك لم يكترث
كثيراً وقد صدر القرار بإحالته إلى التقاعد. الفارق هنا هو أن الإدارة
الجديدة المؤلفة من رأسين (كارلو شاتريان ومارييت روزنبيك) ما زالت تجرب
وضعها الجديد، وواجهت أربع مشكلات أساسية:
1 -
المستوى العادي لمعظم ما اختارته من أفلام للمسابقة.
2 -
محاولة إرضاء المحتجين على رئيس لجنة التحكيم، الممثل البريطاني جيريمي
آيرونز، كونه صرّح بمعارضته لزواج المثليين قبل عدة سنوات.
3 -
ثم عملية إرضاء احتجاج آخر وُجّه هذه المرّة ضد الجائزة التي حملت اسم مؤسس
المهرجان طوال السنوات الماضية، وهو ألفرد باور، الذي فجأة، وبعد سنوات
خدمته والسنوات التي حمل المهرجان اسمه لإحدى جوائزه، تم الكشف عن أنه كان
موظفاً في أرشيف السينما تحت إشراف النازية.
4 -
الزج بعدد أكبر من المعتاد من المخرجات لإرضاء الحركات النسائية النشطة. في
هذا الصدد، فإن إليزا هيتمان الفائزة بـ«الدب الفضي» عن فيلمها «أبداً
نادراً أحياناً دائماً» هي المرأة الوحيدة بين المخرجات اللواتي فزن بجائزة
ما.
في النهاية، لا بد من العودة إلى محمد رسولوف، الذي
بالتأكيد سيواجه الآن احتمالاً كبيراً بسجنه. لقد خرق قرار المحكمة الذي
صدر ضده، وخدع السلطات، ووجد طريقة لإرسال الفيلم إلى برلين، وعرضه، ونال
عليه جائزة.
رسولوف ليس وحده الممنوع من العمل، لكنه النسخة الأخيرة من
التعسف الذي يصيب السينمائيين الإيرانيين تبعاً لقرارات الحظر على الإبداع
واختلاف الرأي. ولا ننسى أن قضيته تعود إلى عامين سابقين عندما عرض فيلمه
«رجل نزيه» في مهرجان «كان»، وما إن عاد إلى بلاده حتى تم سحب جواز السفر
منه، وما زال مسحوباً.
قبل إعلان الجائزة ببضعة أيام، استخدم رسولوف نظام
«سكايباك»، وتواصل مع صحافي من مجلة «ذا هوليوود ريبورتر» الأميركية. ستكون
هذه تهمة أخرى ضده، لكنه، وكما يقول في المقابلة، لا يهتم: «عندما تعيش في
ضغط ناتج عن نظام كالذي نعيشه في إيران، تجد أن عليك إما القبول وإما
الرفض. بالنسبة لي، لقد اتخذت قراري لإعلان موقفي». |