حملة 'وأنا أيضا' التي اجتاحت هوليوود توشك أن
تنتحر
العرب/ أمير العمري
تداعيات 'قضية وينستين' دعمت قوة المرأة وأثبتت أنها يمكن أن ترد
الصاع صاعين، وأنها انتزعت أول الخيط الذي يجب أن يقود إلى تحقيق
نوع من المساواة في هوليوود.
كانت الكلمة التي ألقتها أوبرا وينفري بعد أن تسلمت مؤخرا جائزة
خاصة تقديرا لمساهمتها في برامج التلفزيون في حفل جوائز “غولدن
غلوب”، كلمة شديدة التأثير، جعلت الحاضرين يقفون على أقدامهم
وينفجرون في التصفيق لعدة دقائق، كما تأثر بالكلمة ملايين
المشاهدين الذين تابعوا الحفل السنوي عبر شاشات التلفزيون، وأصبحوا
جميعا على يقين بأنهم أمام نقطة تحول كبير في تعامل هوليوود مع
المرأة، وأن ما وقع من تصد كبير لمزاعم التحرش الجنسي من طرف أحد
أقطاب صناعة السينما في هوليوود، وهو المنتج السينمائي هارفي
وينستين، لابد أن تنتج عنه ثورة لا تقل قوة عن “الثورة الجنسية” في
الستينات.
غير أن ما قالته وينفري، والذي جاء تتويجا لسلسلة اتهامات من طرف
أكثر من 100 سيدة، بينهن عدد كبير من نجوم السينما الأميركية، كان
في ظاهره دعوة إلى التحرر لكنه حمل في طياته نقيض ما كانت تحمله
الثورة الجنسية، أو أن هذا، على الأقل، كان رأي النجمة الفرنسية
ومعها حوالي مئة سيدة من الشخصيات العامة الفنية والسينمائية
والأدبية والصحافية في فرنسا.
بعد يومين فقط من كلمة وينفري التي رفعت أسهمها عاليا إلى درجة أن
كثيرين طالبوها بالترشح لرئاسة أميركا، انبرى المغني البريطاني
(الأسود) “سيل” لمهاجمتها بشدة ونشر صورتين لها مع وينستين إحداهما
لها وهي تميل ناحية الرجل وتبدو وكأنها تطبع قبلة على خده، وفوق
الصورتين كتب سيل “لقد كنت لعقود جزءا من المشكلة، والآن يعتقد
الجميع أنك الحل”، واتهمها صراحة بالتستر على ممارسات وينستين!
الرد الفرنسي
أما نجمة الشاشة الفرنسية كاترين دينيف (74 عاما) فقد فاجأت ضحايا
التحرش الجنسي، ودافعت عن حق الرجال في “مغازلة النساء”، أو إظهار
الانجذاب الجنسي نحوهن.
وتقدمت دينيف مجموعة من الممثلات والأكاديميات والكاتبات اللاتي
وقعن رسالة نشرتها صحيفة “لوموند”، يحذرن فيها من نزعة “التزمّت”
التي اندلعت شرارتها بسبب فضائح التحرش الجنسي الأخيرة التي وجهت
أساسا إلى هارفي وينستين رئيس شركة ميراماكس.
وقد جاء في الرسالة “إننا كنساء لا نعد أنفسنا ضمن هذه الحركة
النسوية، التي تتعدى إدانة إساءة استخدام السلطة إلى تبني كراهية
الرجال والحياة الجنسية. لقد عوقب رجال من دون محاكمة، وأجبروا على
ترك وظائفهم ولم يفعلوا شيئا سوى لمس ركبة شخص ما أو محاولة اختلاس
قبلة”.
وأوضحت الرسالة أن “الاغتصاب جريمة، لكن محاولة إغواء شخص ما حتى
بشكل مستمر أو علني، ليست جريمة، ولا يجب أن يتعرض الرجال لهجوم
شوفيني متعصب”. ودفعت كاتبات الرسالة بأن هناك حالة جديدة من
“التزمّت” أو ما يشبه “النزعة التطهرية” تنتشر على قدم وساق في
العالم، وإنه في الوقت الذي يكون فيه من الضروري والقانوني فضح
إساءة استخدام السلطة من جانب أي شخص، إلا أن الاتهامات المستمرة
خرجت عن نطاق السيطرة.
وكان أكثر ما يلفت النظر في رسالة كاترين دينيف وشريكاتها، تحذيرها
مما يمكن أن تؤدي إليه مثل هذه الاتهامات من المساس بالحرية
الجنسية التي تم اكتسابها منذ عقود.
من جانبها خرجت نجمة السينما الفرنسية بريجيت باردو عن صمتها لتعلن
معارضتها لحملة “وأنا أيضا”، وقالت إنها تعرف أن الكثير من النساء
يذهبن إلى المنتجين بغرض إغرائهم للحصول على أدوار في السينما ثم
يمكن لأي واحدة أن تتهم منتجا بغرض تحقيق الشهرة.
ودافع الممثل أليك بولدوين عن المخرج وودي ألين بعد أن ظهرت ابنته
بالتبني ديلان مجددا على شاشة التلفزيون وأعادت تكرار اتهاماتها له
بالتحرش بها وهي صغيرة، وأعربت ثلاث ممثلات ممن عملن مع وودي ألين
عن اعتذارهن لديلان وتعهدن بعدم تكرار التجربة وهو ما اعتبره
بولدوين في معرض دفاعه عن ألين، شيئا سخيفا بعد أن تم التحقيق
بالفعل في تلك الاتهامات وثبت أنها ليست صحيحة!
وينستين نفى الاتهامات التي وجهت إليه مؤكدا أنه لم يمارس الجنس مع
أي امرأة من دون موافقتها، لكنه مع هذا اعترف بأن سلوكه “سبب
الكثير من الألم”، إلا أن مساعدته السابقة زيلدا بيركنز خرجت عن
صمتها وخرقت اتفاقا للتسوية مع الرجل حصلت بموجبه على 330 ألف
دولار مقابل عدم الإدلاء بما يمكن أن يدينه، وقدمت شهادة دامغة
قالت فيها إنها لمست سوء السلوك الجنسي من قبل القطب الهوليوودي
معها في أول يوم التقت به وجها لوجه بينما كانت تعمل بمكتب شركة
ميراماكس في لندن، وأضافت أنه خرج من غرفة المكتب، وعاد إليها
بملابسه الداخلية، ثم سألها عما إذا كان يمكن أن تدلك له جسمه.
كان يكفي أن يقدم سبايسي اعتذاره الشجاع هذا لكي ينتهي الأمر، خاصة
وأن الموضوع لم يصل إلى مستوى الاعتداء، وبعد أن اعترف أيضا
بمثليته الجنسية. لكن في ضوء هستيريا الفزع الجنسي التي انتشرت في
هوليوود أقدم المخرج ريدلي سكوت على القيام بما لم يفعله مخرج من
قبل في تاريخ هوليوود الحديث
التطهير والعقاب
لم تعرف هوليوود مثل هذه الحملة المسعورة منذ الحملة المكارثية في
الأربعينات والخمسينات حينما كان يجري التفتيش في عقول كتاب
السيناريو والمخرجين بحثا عن أي دلائل تشير إلى اعتناق أصحابها
أفكارا شيوعية وصفت بأنها “نشاط معاد للمصالح الأميركية”، وهو ما
يهدد الآن بتفجير هوليوود من داخلها.
وعلى سبيل المثال: الممثل الكبير كيفن سبايسي (58 عاما) الحاصل على
أوسكار أحسن ممثل، يضطر إلى تقديم اعتذار علنيا بعد اتهامه بمحاولة
التحرش الجنسي في أيام شبابه بممثل طفل، وكان الممثل أنتوني راب،
الذي كان يبلغ من العمر 14 عاما آنذاك، قال إن سبايسي دعاه إلى حفل
وأنه كان مخمورا على ما يبدو حينما وقعت هذه الحادثة المزعومة.
وقال سبايسي، الذي كان عمره آنذاك 26 عاما “بكل صدق لا أتذكر هذا
الموقف.. لكن إذا كنت قد تصرفت بهذه الطريقة كما يصفها راب فإنني
أدين له بأصدق اعتذار“.
كان يكفي أن يقدم سبايسي اعتذاره الشجاع هذا لكي ينتهي الأمر، خاصة
وأن الموضوع لم يصل إلى مستوى الاعتداء، وبعد أن اعترف أيضا
بمثليته الجنسية. لكن في ضوء هستيريا الفزع الجنسي التي انتشرت في
هوليوود أقدم المخرج ريدلي سكوت على القيام بما لم يفعله مخرج من
قبل في تاريخ هوليوود الحديث، على قدر علم كاتب هذا المقال.
كان ريدلي سكوت قد انتهى تماما من عمل المونتاج لفيلمه الجديد “كل
أموال الدنيا” الذي قام ببطولته سبايسي. ولكن بعد انفجار فضيحة
وينستين ونشر القصة التي رواها أنتوني راب، قام ريدلي سكوت
باستبعاد المشاهد التي يظهر فيها الممثل الكبير من الفيلم، رغم أنه
لم يكن قد بقي على موعد عرض الفيلم ليلحق بترشيحات الأوسكار، سوى
أسابيع، واتصل سكوت بالممثل كريستوفر بلامر (87 عاما) لكي يقوم
بالدور بدلا من سبايسي.
كلمات منمقة
وفي خطوة وصفت بأنها “ضربة استباقية” نفى الممثل الأميركي مايكل
دوغلاس مزاعم تحرش جنسي بامرأة قبل أن تظهر القصة علنا في وسائل
الإعلام، وقال إنه “شعر بالحاجة إلى الحديث عن الموضوع ومشاركة
مخاوفه قبل أن تنشر تفاصيل القصة”، مضيفا أن “موظفة سابقة لديه
تتهمه بالقيام بإيحاءات جنسية أمامها قبل أكثر من 30 عاما”. وأنها
تزعم بأنه “حاربها” كي لا تتمكن من الحصول على وظيفة أخرى بعد أن
طردها من وظيفتها، مشيرا إلى أنها “تدعي” بأنه كان يستخدم كلمات
منمقة ليشدها.
أصبح استخدام “كلمات منمقة” لجذب النساء تهمة يمكن أن تدمر سمعة من
توجه له، كما أصبح من الممكن اتهام أي رجل يبتسم بطريقة مغوية في
وجه امرأة يقابلها في مكان عام، بـ”محاولة التحرش الجنسي”، أو
بإصدار “إيماءات جنسية” خاصة لو كان من المشاهير. فقد امتلأت صفحات
الصحف بالاتهامات التي أصبحت مادة تروج للصحيفة، وبعد أن كانت مثل
هذه الاتهامات المرسلة لا تلقى في الماضي أي اهتمام خاصة وأنه لم
يتم حتى الآن استجواب هارفي وينستين أو مقاضاته ولم يصدر حكم
بإدانته!
اليوم أصبح كثير من العاملين في صناعة السينما يخشون الاتهام من
قبل أي امرأة، داخل أو خارج المجال، تصادف أن يكون أحدهم قد التقى
بها في الماضي، لكي يصبح محروما من العمل ويخرج بالتالي من عالم
السينما، ويحرم الجمهور من كثير من المواهب المشهود لها، في سابقة
ليس لها مثيل من قبل!
قوة المرأة
في خضم هذه الموجة الهستيرية من الاتهامات، اضطر الممثل الأسترالي
جيوفري راش (الحاصل على أوسكار أحسن ممثل عن دوره في فيلم “شاين”
1996) إلى التخلي عن رئاسة أكاديمية السينما والتلفزيون في
أستراليا بعد أيام من تلقي إحدى الفرق المسرحية في سيدني شكوى بشأن
قيامه قبل عامين ببعض “السلوكيات غير الملائمة” أثناء قيامه بدور
الملك لير في مسرحية شكسبير الشهيرة.
وقد نفى راش نفيا قاطعا هذه الاتهامات، لكنه أصر على التخلي عن
مقعده قبل حفل توزيع الجوائز السنوية التي تمنحها الأكاديمية
الأسترالية على غرار جوائز الأوسكار، موضحا أنه تخلى عن هذا المنصب
حرصا على “عدم الربط بأي حال من الأحول، بين هذه الاتهامات التي
نشرتها بعض وسائل الإعلام، وزملائي من العاملين في مجال السينما
والتلفزيون”.
أما مدير ستديو شركة أمازون، روي برايس، فقد أرغم على القيام
بإجازة مفتوحة (طريقة مهذبة لصرفه عن العمل) بعد أن اتهمته إيسا
هاكيت منتجة سلسلة “رجل في القلعة العالية” التلفزيونية، بمحاولة
التحرش بها مرارا، هذه الاتهامات التي قيل إنها وقعت قبل عامين،
أصبحت علانية بعد أن تجرأت هاكيت وقصت قصتها على وسائل الإعلام في
ضوء فضحية “نساء وينستين” وبعد ذلك بساعات قليلة أعفي الرجل من
منصبه رغم نجاحه في رفع أسهم الشركة.
هذه التداعيات التي خلفتها “قضية وينستين” دعمت دون شك قوة المرأة،
وأثبتت أنها يمكن أن ترد الصاع صاعين، وأنها قد انتزعت أخيرا أول
الخيط الذي يجب أن يقود أيضا إلى تحقيق نوع من المساواة في
المكافآت والأجور بين النساء والرجال العاملين في هوليوود وفي
أوساط صناعة السينما عموما.
ولكن من ناحية أخرى، جعلت هذه الهجمة الشرسة على “الرجال” الأمر
أكثر تعقيدا وحساسية في مجال علاقات العمل داخل الوسط السينمائي
بين الرجال والنساء، بعد أن أصبحت هناك قوة هجومية يمكن أن تشن
هجمات مفتعلة حول اعتداءات لم تقع أصلا بغرض الابتزاز، في مواجهة
الطرف الأضعف أي الرجال الذين وضعوا في موقف الدفاع، بعد أن أصبحت
الكثير من النساء يفتشن في دفاترهن القديمة بحثا عن أي تصرف كان
يمكن أن يكون مقبولا في الماضي، أو على الأقل يمكن التغاضي عنه،
لكنه أصبح من الممكن الآن استخدامه، إما للحصول على تعويضات مالية،
أو من أجل تشويه سمعة نجم من النجوم كما حدث في حالة داستين هوفمان
الذي نفى اتهامات من جانب ثلاث نساء، لأفعال هامشية تعود إلى عام
1980!
والقصة لم تنته بعد بل نحن مازلنا في بدايتها.
ناقد سينمائي من مصر |