بعد انقطاع 13 عاماً عن السينما، يعود المخرج اللبناني أسد
فولادكار بفيلم "بالحلال" الذي عُرض الأحد الفائت في مهرجان دبي
السينمائي ضمن أمسية غالا (خارج المسابقة) حضرها المخرج المقيم في
مصر وفريق الممثلين. ثلاث نساء ينتمين الى بيئة بيروتية اسلامية
يرصد مخرج "لما حكيت مريم" قصصهن الصغيرة، من زواج وطلاق وخناقات
وكلّ ما يحدث بين لحظة التعارف والانفصال، حيناً داخل جدران الشقق
وأحياناً على مرأى من الجميع. بأسلوب كوميدي ساخر خفيف ولطيف،
يقتحم "بالحلال" خصوصيات ما يُمكن اعتباره نموذجاً للعائلة المسلمة
الملتزمة تقاليد دينها وأعرافه. مقابل المنحى السائد في التلفزيون
الذي يقضي بعدم ربط الشخصيات بهوية دينية معينة، يتعامل الفيلم مع
المسميّات، مبلوراً مفهوم الحلال ببساطة في الطرح تخاطب الجمهور
العريض.
■
في جديدك، "بالحلال"، تخاطب مجتمعاً يدرك جيداً حميمية الموضوع
ودقّته...
-
نعم، هذا صحيح. لو توجّهتُ إلى جمهور آخر، لتبيّن أنّ غاية الفيلم
كشف الأسرار. أما إن توجّهتُ إلى هذا الجمهور، فهذا يعني أنني
أتكلّم وإياه، وهنا الفارق. المسألة دقيقة، حتى طريقة صناعة القصة
ترخي شعوراً بالمسؤولية. فلو قدّمتُ الفيلم بطريقة محض سينمائية،
لأطلَّ مَن يقول إنني أشتكي من هؤلاء الناس وأنتقدهم، والأمر عندي
مختلف تماماً. الموضوع هنا فَرَض الطريقة، فالفيلم يتناول تيمة
"عارية"، فكان من الضروري التنبّه إلى كيفية مقاربته. إننا في
مجتمع يطلق الأحكام ويعاقب. شدّدتُ على السلاسة ليصل يطريقة لا
تُساء فهمها.
■
فكرة الفيلم تدور في رأسكَ منذ سنوات. ما الذي حال دون تنفيذه،
وماذا تغيّر الآن؟
-
المال حال دون ذلك. الفيلم في البال منذ نحو الثماني سنوات، ولم
أستطع تأمين موازنته. صادق الصباح هو المنتج الأساسي، وكلانا أراد
أن يجد له سوقاً في الخارج. لم نشأ أن يلاقي بعض الصدى المحلّي ثم
يتلاشى. أردنا مُنتجاً لا يساهم في الإنتاج فحسب، بل يضمن الوصول
إلى الجمهور الغربي. كانت تجربة رائعة بالنسبة إليّ، كمخرج وكاتب
سيناريو، التعامل مع مساهمين من ألمانيا. استطعتُ انتقاد نفسي. ما
رأيته كوميدياً لم يكن بالنسبة إلى الآخرين كذلك. لم يكن النقاش
بيننا هادئاً طوال الوقت. تمسّكتُ بأمور، في مقابل أمور أخرى
وجدتُني أسلّم بها جدلاً. حاولتُ الدفاع عن اقتناعات في الفيلم لم
ترق الجهة المنتجة، وفي النهاية توصّلنا إلى أن أُصغي لما يُقال.
حين علمتُ أنّ منتجين غربيين سيساهمون في تمويله، اضطررتُ إلى بعض
الاختصار والتعديلات. ثمة معلومات معروفة لا أجدني مضطراً إلى
إعادة كتابتها.
■
لماذا اخترتَ الدين تيمة الفيلم؟ أين استفزّك حتى رأيتَ أن تصوّر
فيلماً عنه؟
-
حسناً، ما السؤال الآتي؟! (ضحك). حياتنا بأسرها قائمة على الدين.
الأغلبية تتوجّس من كونكَ مسلماً أو مسيحياً في لبنان، أما في مصر،
فيُنظر إليك على أنّك المسلم. نحن شعوب تتباهى بالديموقراطية طالما
أفرادها جميعهم من لون واحد. حين يحضر الطرف الثاني، نفقد
ديموقراطيتنا. قد يسأل البعض لماذا الجنس؟ الجنس موضوع الحياة
الأساسي، والإسلام لا يعتبره عيباً، بدليل أنّ ثمة كتباً تفسّر طرق
ممارسة الجماع وبالتفاصيل. يشترط الشرع على الرجل المتزوّج بأكثر
من امرأة، العدالة في تحقيق اللذة بينهنّ. تنسج مجتمعاتنا علاقات
خاصة بين النساء لا يكاد يخترقها أحد. النساء في مجلسهنّ مقرّبات
بعضهنّ من بعض، حدّ كسر الحواجز والتفوّه بما يخطر من هواجس وأفكار
ونكات. في صغري، كنتُ اخترق مجلسهنّ من غير قصد، وأجد في حديثهنّ
جرأة لا يمكن أن يتقبّلها الخارج. ذاكرتي هذه، حاضرةٌ هنا. كانت
هناك حكاية رابعة في الفيلم لكنني تخليتُ عنها، حول شخصية شابة
محجّبة تتفوّه بألفاظ إباحية وتنطق بمفردات جنسية أمام النسوة.
أخبرتُك، لم أرد أن يُساء فهمي جرّاء الإسقاطات.
■
أليس الأمر نفاقاً؟ هذا الفارق الرهيب بين ما يجري في الداخل وما
يظهر إلى الخارج؟
-
لا أعتبره نفاقاً. النساء لسن ملزماتٍ الإفصاحَ عن شخصية الداخل،
فالآخر ليس معنياً بها. في الخارج ترى النساء يُشبهن الهيئة
الواحدة. كذلك الرجال في الأماكن الرسمية. ثمة دائماً حدودٌ
وضوابط. الداخل عالمٌ آخر. منزل المرأة المحجّبة مملكتها وحرّيتها
وانفتاحها المطلق، على عكس ما يُشاع بأنّ الرجل مالك منزله
(...).
الإسلام لا يحرّم الجنس، والبشر غير قادرين على التخلّي عنه. يسود
في المجتمعات حديثٌ عن إمكان "تزبيط الجنس بالحلال"، وطالما الفرص
متاحة، فما المانع؟ ما يفعله "داعش" اليوم أنّه يستعمل الدين
بأشكاله الخطرة، فيستغلّ المسلّمين به ويخاطب فيهم الغريزة لحملهم
على غايات أخرى.
■
لم أعرف أنّ النسوة ينتمين إلى الطائفة الشيعية، ظننتهن من بيروت...
-
في النصّ الأصلي، هنّ من الشيعة. ولكن، في الفيلم كما هو الآن،
يوجد سنّة وشيعة. لم أرد تسليط الضوء على الشيعة كطائفة في ذاتها.
ثمة ذكر لزواج المتعة للقول إنّ الأمر عند السنّة يكاد تكون
متشابهاً. لم يعن لي إظهار المذهب لئلا ينحرف التفكير بالقصة إلى
نقاش حول عادات السنّة والشيعة. ليس هذا موضوع الفيلم. المسألة أنّ
الطرق مقفلة ولا بدّ من البحث عن مَخرج "بالحلال".
■
لم ألمح تركيزاً لافتاً على فكرة المدينة. في مَشاهد، تغيب الصور
السياحية فتبدو البيئة منغلقة بعض الشيء، حتى من خلال المباني.
-
الستائر موجودة على كلّ مباني لبنان تقريباً. الأمر شبيه بحياتنا.
هكذا نحن، نمارس يومياتنا من خلف الستار، محجِّبين منازلنا
ومدينتنا ووجودنا.
■
ماذا تغيّر بين المرحلة التي كنتَ فيها ولداً تُصغي إلى حديث
النسوة، واليوم؟ هل تطوّر المجتمع بنحوٍ ما؟
-
الناس لا يتغيّرون. بعض المجتمع يتغيّر، لكنّ عالم الداخل الذي
حدّثتكَ عنه لا يزال هو. لن تشعر المرأة بحرّيتها إلا مع مَن هم
مقرّبون منها. عموماً، لا تزال المرأة المسلمة في الداخل غيرها حين
تخرج إلى المجتمع. الإسلام يمنح الأم مطلق الصلاحيات في منزلها. هي
الأمّ والزوجة والقرار والقوّة. من هنا، قرارات الفيلم في أيدي
النساء، إلى درجة أنّها تزوّج زوجها إن أرادت.
■
اخترتَ البدء بمشهد تلامذة في الصفّ يتساءلون عن كيفية الإنجاب.
هذا الغموض لا يلفّ أولاد المجتمع الإسلامي فحسب، بل كلّ المجتمعات
تقريباً. ما رمزية البدء بهذا المشهد؟
-
إنه مشهد حقيقي. المعلّمة تشرح للأولاد كيفية إنجاب طفل، فتصيبهم
بالخوف وتترك الفتيات مذعورات. معلّمات المدارس جزء من هذه العقدة.
ماذا نعلّم الأجيال وكيف؟ الأم التي اختارت في النهاية أن ترقص
لزوجها، تركت خلفها أولاداً يسيرون على هذه الطريق.
■
هل تنتمي إلى المجتمع الذي صوّرته؟ أحاولتَ البقاء على مسافة؟ وهل
من الصعب أن ينتمي المخرج إلى المكان - موضوع الفيلم؟
-
بالطبع أشعر بالانتماء، وهذا ما سهّل عليَّ العمل. الواقف في
الخارج لن يدرك متى يؤذي ومتى يجرح ومتى يقول الحقيقة. أنا أدرك
هذا جيداً. لم أقدّم الفيلم بغرض الانتقاد. هو رسالة حبّ لهؤلاء
الناس ولقدرة كلّ منهم على إيجاد سبل تخوّلهم الخروج من المشكلة.
لا بدّ من حلّ دائماً. حتى المرأة التي زوّجت زوجها، حين وجدت أنّ
الأمور تُفلت من يدها، قررت في النهاية حماية زواجها. هل هم ضحايا؟
لا أعرف. لا أستطيع إدانتهم أو الحُكم عليهم. جميعنا ضحايا
مجتمعاتنا، وليس الأمر محصوراً بالمجتمع الإسلامي. المشكلة أننا لا
نتعلّم من أخطائنا.
■
بُعدك من السينما طوال سنوات وعملك في التلفزيون لم يجعلاك تتأثر
بنوعية المادة التلفزيونية السائدة.
-
أحياناً عليكَ أن ترمي أسلحتكَ وتتناول أسلحة أخرى. لا يمكن أن
ترتدي لباساً واحداً في مكانين. حين أعمل في التلفزيون، أرتدي
لباسه، وحين أعود إلى السينما، أجد كثيراً من الصعوبة، فلا أنفكّ
أنتقد نفسي. تساءلتُ إن كانت الكوميديا التي أقدّم كوميديا
تلفزيونية أو سينمائية. في كلّ مشهد صوّرته، شعرتُ بالخوف. أخافُ
من تأثير التلفزيون فيَّ، لذا كنتُ مصرّاَ على أن يبقى الألمان
قربي.
■
ألا تخشى اتهامكَ بتسليع الإسلام ضمن صورة معيّنة وتصديرها إلى
الغرب؟
-
لا. ليس في الفيلم أيّ إساءة. بالعكس. سيكتشف الغرب أنّ المسلمين
أيضاً يريدون الحبّ. تلاحقهم المشكلات لأنّه ينقصهم ويفتقدونه.
المعضلة بالنسبة إليهم لم تعد تقتصر على ما يحدث في إسرائيل. كلّ
ما في الأمر أنّ المسلمين يحاولون الإحساس بالحبّ بالطرق التي
يرونها مناسبة.
■
سيُعرض الفيلم في مهرجاني ساندانس وروتردام، ما تعليقك وفيلمك
الطويل الثاني يشارك في هذين المهرجانين؟
-
مسرور جداً. في رأيي، صناعة الدراما أسهل. من السهل أن تُبكي
الجمهور، ومن الصعب جداً أن تحضّه على الضحك ويبقى الموضوع محافظاً
على رصانته.
hauvick.habechian@annahar.com.lb
"على
حلة عيني" أفضل فيلم في مهرجان دبي
دبي - هـ. ح.
مهرجان دبي السينمائي حضن هذه السنة أكثر من أي وقت مضى المواهب
الفتية الناشئة في العالم العربي. "على حلّة عيني"، للتونسية
الشابة ليلى بوزيد أكبر مثل. هذا العمل الذي عُرض للمرة الاولى في
مهرجان البندقية، شقّ طريقه الى المهرجان الخليجي وفاز بآراء
ايجابية. تجري حوادث الفيلم في الفترة التي سبقت الثورة التونسية.
انها حكاية المراهقة فرح التي تحبّ الغناء، لكن ما تغنّيه لا
يتناسب مع الجوّ السياسي السائد في تلك المرحلة، فيتم اعتقالها
تعسفاً، علماً انها تصطدم أيضاً بأهلها وبمحيطها وحتى بنفسها.
بوزيد، وهي ابنة المخرج التونسي الشهير نوري بوزيد، تحملنا الى صيف
2010، فنكتشف تلك الثورة التي لم تولد بعد ذلك، انها تظهر تحت جلد
البشر وفي بؤبؤ عيونهم. "على حلة عيني" فيلم بثلاثة فصول: العائلة
والمجتمع والدولة. بالنسبة إلى فرح، كلّ فصل من هذه الفصول يشكّل
عائقاً ينبغي القفز فوقه.
تروي بوزيد لـ"النهار" انه عندما اندلعت الثورة، قالت لنفسها انها
ستتمكن أخيراً من التطرق الى عهد بن علي والتكلم عن الدولة
البوليسية والمراقبة والبارانويا التي كانت سائدة تحت حكمه. جاء
الفيلم من رغبتها في التأريخ لتلك المرحلة وللجوّ الضاغط الذي كان
يعيشه التوانسة طوال سنوات: "هذا الجوّ جعلنا نشعر بالاختناق ولم
يكن ممكناً تحمله. هكذا انطلقت فكرتي الاولى، ومنها أردتُ أن أروي
حكاية، عمودها الفكري هو العلاقة بين أمّ وابنتها. انها قصة مراهقة
حرّة جداً في رأسها، من نوع الحرية التي لا حدود لها، وسنجدها فجأة
في مواجهة مع عائلتها أولاً، ومجتمعها ثانياً، ونظام البلد ثالثاً".
يطرح الفيلم الأسباب التي أدت الى الثورة وينتهي قبل اندلاعها. ولا
يخلو من الصراع بين الأجيال. من الواضح ان خوف الأجيال السابقة
يتسلل الى الأجيال القادمة، من خلال حرص الأمّ على ابنتها ورغبتها
في حمايتها. الثورة بالنسبة إلى بوزيد كانت مهمة لأنه كان هناك
غليان عند الشباب. الوالدان في الفيلم يحاولان حماية إبنتهما، ذلك
انهما مرّا بهذا كله، ويعرفان جيداً الى أين يؤدي. بيد ان الأمّ
ترضخ لمشيئة ابنتها. "أرى في تلك الخطوة اللقاء المنتظر بين جيلين.
ثمة نقطة تلاقٍ كنت أريد التركيز عليها. وأعتقد ان هذه الأجيال
التي تلاقت هي التي صنعت الثورة. الثورة لا تعتمد فقط على مشاركة
الصغار في السنّ أو العمّال أو الطبقة الوسطى. على الجميع أن يمدّ
اليد اليها، ويجتمع حول قضية واحدة. نرى في الفيلم بوضوح اننا كنا
أمام خيارين: إمّا أن ندع التاريخ يكرر نفسه بلا توقف، وإما أن
نتحمل نتائح الرغبة الوليدة في التحرر".
أرادت بوزيد التطرق الى كلّ شرائح المجتمع التونسي. تخبرنا أن كلّ
شي في تونس يحمل دلالات مزدوجة، ينطوي على لبس وليس بالضرورة أسود
أو أبيض. "خذ الشرطي مثلاً: فهو ليس شريراً فحسب. لديه أيضاً مشاعر
تجاه أمّ فرح. من خلال بنية السيناريو، أردتُ أن أستعيد ماضي الأمّ
ايضاً، وأن أقدم بانوراما عن الشخصيات الثانوية الوافدة الى الفيلم".
تعترف بوزيد بأنها ترددت لوهلة قبل اسناد دور البطولة إلى فتاة،
ولكن ما حسم خيارها ان الفتيات عرضة أكثر لضغط المجتمع والأهل،
يصعب عليهن الخروج ليلاً والأهل يعارضون خياراتهن أكثر مما يعارضون
خيارات الابن.
استطراداً، تروي بوزيد انه في المرحلة السابقة، حتى قبل ان يضرب
الإرهاب تونس، كانت هناك عيون تراقب المرء باستمرار ومن المستحيل
ألاّ يشعر بها. وكي ترسم ملامح تلك المرحلة، انطلقت من معطيات
تعرفها شخصياً: مثلا اكتشافها ذات يوم ان أحد أعضاء نادي
السينمائيين الذي كانت عضوة فيه، شرطي وظيفته التجسس على الأعضاء!
"أيام بن علي، كلّ شيء كان تحت مراقبة شديدة، وكان يمكن المضايقات
أن تتمادى أكثر مما نراه في الفيلم. هنا، الأشياء تصل الى خواتيمها
لأن الأمّ تعرف أحد النافذين في الدولة". |