لسنا ندري بالضبط عدد الأفلام العربية، من طويلة أو قصيرة، روائية
أو وثائقية، التي أُرسلت منذ بدايات هذا العام إلى لجان الاختيار
في التظاهرات المختلفة للدورة الثامنة والستين لمهرجان كان
السينمائي الدولي، كي تجد طريقها إلى العرض في هذه التظاهرة أو
تلك. لكننا نعرف في المقابل، ومنذ الساعة التي أُعلنت فيها برامج
التظاهرات وتحددت الاختيارات النهائية، أن عدد اللعنات العربية
التي انصبّت على رؤوس «كان» وأصحابه يفوق عدد الأفلام المرسلة
أضعافاً مضاعفة. فما من صاحب فيلم اقتنع، كالعادة، بأن ليس هناك
مؤامرة ما –«صهيونية» من فضلكم، على الأرجح!– خلف هذا الاستبعاد
المقيت للسينمات العربية. ويزيد من بلة طين هذه الدورة، معززاً
الاتهامات بالتصهين، عاملان، أولهما تذكر العديد من السينمائيين
والصحافيين العرب أن رئاسة لجنة التحكيم منوطة هذه المرة «بمخرجين
يهوديين لم يخفيا أبداً انتماءهما إلى تقاليد هذا الدين وتراثه»،
هما الأخوان إيثان وجويل كون، وثانيهما –وهذا أمر لا يقل فداحة عن
الأول في رأي موجهي الاتهامات الصاخبة- كثرة عدد الأفلام اليهودية
والإسرائيلية المشاركة في التظاهرات المتعددة... طبعاً نعرف أن هذا
كله ليس جديداً، لكن الجديد فيه هو خلو المهرجان الكانيّ فعلاً من
أيّ حضور عربي لافت، باستثناء فيلم روائي طويل وحيد هو المغربي «حب
مفرط» لنبيل عيوش الذي يعرض ضمن إطار تظاهرة «أسبوعي المخرجين»...
وحتى هذا الفيلم، على رغم موضوعه المراكشي ونطقه بالعربية وإصرار
مخرجه في أحاديثه الصحافية على أنه فيلم ينتمي إلى العالم العربي
والسينما العربية، يمكن اعتباره إلى حد كبير فيلماً فرنسياً.
فالحقيقة أن المركز الوطني للسينما الذي كان عيوش طلب منه الدعم
للفيلم، رفض دعمه، ما اضطر صاحب «يا خيل الله» و «علي زاوا»،
المعتبرين من أكبر نجاحات السينما المغربية، مادياً ونقدياً
ومهرجانياً، للجوء إلى شركات إنتاج فرنسية، كما إلى تولي إنتاج
الفيلم وتمويله بنفسه ولو جزئياً.
إذاً، سيتمثل العالم العربي وسينماه، التي اعتادت أن تكون وافرة
الحضور في دورات «كان» السابقة، بفيلم روائي طويل هو المغربي «حب
مفرط»، إضافة إلى عدد محدود جداً من الشرائط القصيرة سيكون من
أبرزها اللبناني/ القطري «موج 98» للسينمائي اللبناني الشاب إيلي
داغر، الذي يخوض المسابقة الرسمية -التي تعتبر أعلى التظاهرات
بالنسبة إلى الفيلم القصير- بهذا الفيلم التحريكي الذي لا يتجاوز
طوله الأربعة عشر دقيقة، ما يسجل أول حضور حضور سينمائي لبناني على
هذا المستوى منذ مشاركات الراحل مارون بغدادي وفوزه أوائل سنوات
التسعينات. فإذا أضفنا إلى هذا الحضور المزدوج، وجود الموريتاني
عبد الرحمن سيساكو رئيساً للجنة تحكيم تظاهرة «سينيفوناسيون»
الفرنسية العالمية، والتي تعتبر منذ سنوات التجديد الشبابي الرئيسي
في «كان»، يمكننا أن نقول إن السينما العربية حضرت على أي حال.
خارج الشاشات
بيد أن الحضور العربي سيكون أوسع من هذا بكثير. ليس على الشاشات
الرئيسية بالطبع، ولكن على الهوامش وفي المطاعم والمقاهي، حيث من
المعروف أن كتلة الصحافيين والنقاد والسينمائيين العرب، تعتبر من
أكبر الكتل القومية في «كان» بعد الفرنسية والإيطالية، ومن الأكثر
صخباً. وكذلك من المعروف أن عدداً كبيراً من محطات التلفزة العربية
ترسل أطقمها مع الكاميرات لتسجيل وقائع المهرجان، ولا سيما حضور
النجوم فيه، مع إطلالات خجولة بين الحين والآخر وكلما اقتضى الأمر،
على النقاد وآرائهم. وكل هذا يجعل الحضور العربي ملموساً، كما يوفر
فرصاً للتبادل بين المعنيين العرب باتت نادرة في هذه الأيام. وهذا
التبادل غالباً ما تحضنه نصف دزينة من أجنحة عربية في القرية
العالمية وسوق الفيلم، أبرزها بالطبع أجنحة دبي وأبو ظبي وقطر.
وفي انتظار بدء المهرجان والتعرف إلى تفاصيل نشاطات الأجنحة، يمكن
الافتراض منذ الآن أن من بينها بالتأكيد نشاطاً يبدو مميزاً هذا
العام لجناح دبي سيتحلق من حول فيلم مي المصري الجديد، وهو
روائيّها الأول بعد مسار وثائقيّ مميز، «3000 ليلة». وهذا الفيلم
الذي كان قُدّم للعرض في واحدة أو أخرى من تظاهرات الدورة، كان من
المتوقع -بعد استبعاده منها جميعها، على رغم أن أعضاء كثراً في
لجان الاختيار أبدوا إعجاباً كبيراً به، على ذمة أصحاب الفيلم على
أي حال- أن يعرض في احتفال خاص في المهرجان من قبل جناح دبي، على
اعتبار أن دبي مساهمة في إنتاجه. لكن الفكرة سرعان ما استُبعدت
ليكتفى بعرض مقاطع منه تمهيداً ليكون عرضه الافتتاحي العالمي
لاحقاً في دبي نفسها... ومهما يكن في هذا السياق، لن يخلو الأمر
بالطبع من عروض عربية في سوق الفيلم وما شابه، لأفلام سوف تجتذب
المعنيين العرب وبعض الأجانب بالتأكيد، ومن ضمنها أفلام مغربية
جديدة أُنتجت بدعم من المركز الوطني للسينما في أول موسم له منذ
سنوات لا يكون مركز التحرك والنشاط «الكانيّ» فيه تحت رئاسة الناقد
نور الدين صايل الذي أحيل إلى التقاعد من رئاسة المركز، ليكتفي
بترؤس مهرجان مراكش، ما يعني أن مشاركته في «كان» ستكون للتعاقد
بصدد أفلام عالمية جديدة تعرض في الدورة المقبلة للمهرجان المراكشي
الذي يعتبر منذ تسلم صايل إدارته واحداً من أبرز المهرجانات
السينمائية العربية.
هامشيات من مراكش
الحديث عن مراكش يعيدنا هنا بالطبع إلى فيلم نبيل عيوش، المشارك في
«كان» بفيلمه الجديد «حب مفرط»، الذي صوّر تحديداً في مراكش نفسها
وعن أوضاع اجتماعية يرصدها علماء الاجتماع فيها: أوضاع تتعلق هنا
بأربع فتيات لا يجدن أمامهن لتأمين لقمة العيش إلا التحول إلى
فتيات هوى، في ظل أوضاع اجتماعية وعائلية تطبق على هذا النوع من
الفئات الشعبية غير تاركة لها أي مخرج آخر. صحيح أن الفيلم ينطلق
من بعد روائي يتحلق من حول الفتيات الأربع، لكنه -وفق المعلومات
المتوافرة عنه منذ بدء تحقيقه في المدينة المغربية الحمراء في
تشرين الأول (اكتوبر) الفائت- يتجاوز هذا البعد الروائي كثيراً
بحيث يبدو في أحيان كثيرة أشبه بعمل وثائقي سوسيولوجي يرصد هذه
الهوامش الشعبية بعدما كان عيوش، وعلى الأقل في فيلمين سابقين له،
قد رصد في المرة الأولى أطفال الشوارع وحياتهم البائسة والأخطار
المحدقة بهم («علي زاوا»)، ثم في المرة الثانية («يا خيل الله»)
الشبان من سكان العشوائيات في الدار البيضاء واشتغال المتطرفين
الإسلاميين بتحويلهم قنابل موقوتة وإرهابيين. ونعرف أن عيوش في
الحالتين السابقتين معاً انطلق من الواقع الاجتماعي البائس ليحقق
سينماه، بل إنه بالنسبة إلى «يا خيل الله»، انطلق من الاعتداء
الإرهابي الحقيقي الذي اندلع في الدار البيضاء نفسها العام 2003
وأسفر عن قرابة خمسين قتيلاً، ليقدم موضوعاً يتساءل فيه عما هو
كامن خلف الإرهاب ولماذا ثمة شبان يحولون أنفسهم آلات قتل جماعية
باسم الدين. إذاً هذه المرة في «حب مفرط»، غاص عيوش في هوامش أخرى
وفي واقع آخر، حيث إنه وعدداً من العاملين معه، أجروا -كما قال هو
في تصريحات صحافية- أبحاثاً وتحقيقات ميدانية تواصلت نحو ثمانية
أشهر استنطقوا خلالها العشرات من فتيات الهوى وعلماء الاجتماع وحتى
أفراد العائلات، بغية التعرف على ما أودى بهن إلى هذا المصير، وما
موقف عائلاتهن منهن، وأي مستقبل مرسوم لهن. وتقول المعلومات إن هذا
كله يشكل الخلفية الاجتماعية لفيلم ربما ستكمن جرأته الكبرى في
أصابع اتهام يوجهها لمجتمع رأى الفيلم فيه عائلات تقوم بتشجيع
بناتها على ممارسة الدعارة لمجرد البقاء على قيد الحياة وتأمين
لقمة العيش!
فهل يمكن القول أمام هذه الصورة للفيلم، التي نكتفي هنا بنقلها فقط
عما توافر من معلومات، من دون أن نكون شاهدنا الفيلم طبعاً، إن
جرأته هي ما حال دون دعم المركز الوطني للسينما؟
هذا سؤال فضّل نبيل عيوش ألاّ يجيب عليه أمام الصحافة التي لم
تتوقف عن سؤاله عن الأمر منذ شهور. علماً بأن المركز قرر في
المقابل تقديم دعم سخي للفيلم التالي لعيوش، وهو فيلم خيال علمي
بعنوان «رازيّا»، تدور أحداثه في زمن مقبل، ويحاول أن يقدم -كما
يقول عيوش نفسه- ما يعتبره صورة لما ستكون عليه أوضاع العالم
العربي خلال الأزمان المقبلة. ومهما يكن من أمر هنا، يقول نبيل
عيوش الآن أنه منصرف كلياً للفيلم المقبل، لأنه يعول عليه كثيراً
بعدما غرق طويلاً في السينما الاجتماعية، والسياسية كذلك إن ذكرنا
هنا فيلمه قبل السابق «وطني»، الذي جعل منه قبل «يا خيل الله»
مباشرة مرافعةً شديدة الجرأة حول القضية الفلسطينية والصراع العربي
الإسرائيلي.
بعد أيام، في «كان»، من المؤكد أن نبيل عيوش سوف يكون واحداً من
نجوم السينما العربية الأساسيين، هو الذي لا يخفي أبداً تفضيله
«كان» على أي مهرجان سينمائي آخر، على الرغم من اعتياده عرض أفلامه
في العديد من المهرجانات. ففي «كان» قبل ثلاث سنوات، فاز فيلمه «يا
خيل الله» بجائزة فرانسوا شاليه بعدما عرض في تظاهرة «نظرة ما». و
«كان» بالنسبة إليه هو أولاً وأخيراً «نافذة يطل منها السينمائي
على العالم، ويطل منها هذا الأخير على السينمائي». أما اليوم، في
«أسبوعي المخرجين»، فإن فيلم عيوش الجديد سيتنافس مع ستة عشر
فيلماً آخر في هذه التظاهرة التي تعتبر من الأهم في «كان»، من
ناحية القيمة الفنية، حيث يعرض فيها كبار أعمالاً جديدة لهم، فيما
يأمل آخرون أن تكون طريقهم إلى الشهرة والعالمية. ومن «الكبار»
الذين يعرضون هذا العام في «أسبوعي المخرجين»، الفرنسي فيليب غاريل
(«ظل النساء» في الافتتاح) والبرتغالي ميغويل غوميس («ألف ليلة
وليلة» في أكثر من ست ساعات) والياباني تاكاشي مييكي («ياكوزا
آبوكاليبس») والبلجيكي جاكو فان دورميل صاحب «اليوم الثامن» الفائز
بالسعفة قبل سنوات في جديده «العهد الجديد الجديد». أما من بين
الأقل شهرة فهناك مخرج تركي يقدم فيلمه الأول (دنيز إرغوفن «موستانغ»)
وأخرى تشيلية (مارسيا تامبوتس حفيدة الدكتاتور المخلوع بينوشيت
التي تعرض فيلما عن أليندي!) بين آخرين.
سيساكو رئيساً لمحكّمي مسابقة «سينيفونداسيون»
قد لا تكون مسابقة «سينيفونداسيون» كبيرة الأهمية بالنسبة إلى
«الجمهور العريض» والصحافة العالمية في مهرجان «كان»، غير أنها
بالنسبة إلى السينمائيين الجدد، لا سيما منهم سينمائيو البلدان
الفقيرة، تكاد تفوق في أهميتها المسابقة الرسمية نفسها. وذلك
بالتحديد لأنها تعتبر ممراً رئيسياً إلى دخول عالم السينما وتحقيق
المشاريع. هي ممر فتحته فرنسا منذ سنوات أمام أصحاب المواهب، وأثبت
فاعليته إلى حد ما خلال السنوات الماضية. وفي تظاهرة هذا العام، ها
هم مجموعة من السينمائيين الشبان الآتين من مدارس سينمائية منتشرة
في أرجاء عدة من العالم، يعرضون نحو ثمانية عشر فيلماً قصيراً -
والبعض متوسط الطول - تكشف في مجموعها عن حساسيات سينمائية جديدة
وتكاد تقول لنا ما الذي سوف يحدث في سينمات العالم خلال السنوات
التالية.
تأتي أفلام دورة هذا العام من إيران والأرجنتين والولايات المتحدة
وبريطانيا وإسبانيا وروسيا وفرنسا والتشيلي وكوبا وروسيا وغيرها
حاملة عناوين وأفكاراً همها أن تضخ جديداً في شرايين السينما
الشابة. أما اللجنة التي ستفصل بين هذه الأفلام والحساسيات فهي هذا
العام برئاسة السينمائي الموريتاني عبدالرحمن سيساكو الذي يعتبر من
أبناء «كان»، على الأقل منذ عام 1993 حين عرض فيلمه القصير
«أكتوبر» في تظاهرة «نظرة ما» وفاز بجائزتها. بعد ذلك عاد سيساكو
مراراً وتكراراً إلى «كان» مشاركاً في كل مرة بتظاهرة مختلفة حتى
انتهى به المطاف في العام المنصرم 2014 إلى «المسابقة الرسمية»
بفيلمه الأشهر «تمبوكتو» الذي لم يتوقف منذ ذلك الحين عن التجوال
بين المهرجانات ونيل الجوائز.
وبين «أكتوبر» و«تمبوكتو» حقق سيساكو على التوالي: عام 1998
«الحياة على الأرض» الذي شارك في «أسبوعي المخرجين» في «كان»،
لتتلوه عام 2002 مشاركة في «نظرة ما» بالفيلم الذي حققه أصلاً
للتلفزة الفرنسية «في انتظار السعادة»، ليصل إلى المسابقة الرسمية
- إنما من دون أن يتبارى فيها - عام 2006 بفيلم «باماكو» الذي أثار
يومذاك ضجة سياسية كبيرة.
عبدالرحمن سيساكو الذي كان قبل شهور قليلة هذا العام، السينمائي
الأفريقي الأول الذي يحصل على جائزة «السيزار» - وهي المعادل
الفرنسي للأوسكار الأميركية - تحديداً عن «تمبوكتو»، يعتبر اليوم
الأكثر حضوراً وشهرة بين رهط من السينمائيين المنتمين إلى بلدان
أفريقيا السوداء «الفرانكوفونية»، وريثاً لبعض الأسماء الكبيرة من
أمثال سمبان عثمان وسليمان سيسي وجبريل ديوب، وهو مثلهم جعل من
الهم الأفريقي همه الخاص وموضوع سينماه الرئيسي، بما في ذلك مسائل
مثل فساد الطبقات الحاكمة وهجرة الشبان وصولاً إلى قضية الإرهاب
المتطرف كما في «تمبوكتو».
ولد سيساكو عام 1961 في مدينة كيفا الموريتانية، لكنه ترعرع ودرس
في مالي قبل أن يعود لفترة إلى موريتانيا يتوجه بعد ذلك لدراسة
السينما في معهد «الفجيك» الشهير في موسكو. وهو عدا أفلامه التي
أشرنا إليها أعلاه، حقق الكثير من الأفلام القصيرة بدءاً من عام
1989، مثل «اللعبة» الذي صوره في تركمانستان
و «صبرية» الذي صوره عام 1996 في تونس، و «روستوف لواندا» الذي قدم
فيه نوعاً من البورتريه لمناضل أنغولي التقاه في موسكو. كما أنه
شارك بأفلامه في الكثير من المهرجانات الأخرى غير «كان» وفاز
بجوائز في ميلانو وموسكو وغيرهما. |