هوليوود إذ ترى بعين واحدة
أحمد عيساوي*
لم يتوقّف فيلم "قناص أميركي"
American Sniper،
المرشّح لنيل ست جوائز أوسكار؛ من بينها أفضل فيلم، عن إثارة الجدل في
الوسط السينمائي. وارتفعت الأصوات التي تدين العرض بوصفه شكلاً من أشكال
الإسلاموفوبيا وتصويراً نمطياً للإنسان العربي في دنيا هوليوود.
الفيلم يحكي قصة القناص الأميركي كريس كايل (برادلي كوبر، مرشّح لجائزة
أفضل ممثل) الذي شارك في احتلال العراق في أربع جولات منذ العام 2003، حين
قرّر الذهاب الى "أرض الشرّ" للدفاع عن وطنه بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر
والهجوم على سفارات واشنطن في تنزانيا وكينيا؛ ليعود بحصيلة 255 ضحية
"قنصها"، حسب اعترافه. فيما أكّدت القوات الأميركية أنّ كايل حصد أرواح 160
عراقياً.
تتوجّه الانتقادات بشكل رئيسي إلى مخرج الفيلم كلينت إيستوود، لإصراره على
تجسيد صورة القناص بشكل ملائكي. صورة المواطن الأميركي الذي يتوجّس من كل
ما حوله ليحمل السلاح مرغماً ويقطع آلاف الأميال في مهمة مقدّسة لقتال
"المسلمين الأشرار" الذين يريدون نشر "الفوضى والإرهاب".
في "فلاش باك" يتقدّم الفيلم، نرى تأطيراً واضحاً لمشهدين، كان القصد من
ورائهما مسرحة الأحداث بشكل يخدم الوجهة الدعائية لمروّجي فكرة "الحرب على
الإرهاب". في المشهد الأول، يعود المخرج إلى طفولة كريس وتربية والده الذي
يعلمه كيفية الدفاع عن الذات بعد أن يقوم بتقسيم العالم إلى أخيار وأشرار.
"ما
زالت هوليوود تبحث عن مبررات أخلاقية لهمجية الأفعال الأميركية في
أفغانستان والعراق"
في المشهد المقابل، يصوّر لنا المخرج طفلاً عراقياً مع امرأة، ويستعدّ
لإلقاء قنبلة على جنود أميركيين؛ لكن سرعان ما يعاجله كريس بقناصه ليقتله.
ولا يتوقّف كاتب السيناريو هنا، بل يذهب إلى ما بعد القتل، إذ تبدو نشوة
القتل نصراً إضافياً وانتقاماً طبيعياً لكل الجنود الذين ماتوا على يد
العراقيين.
الشتائم والأوصاف المقيتة للعراقيين بعد التصفية الجسدية والتي أُريدَ لها
أن تكون وسيلة لخلق المعادل البصري والسمعي، الذي يؤثر بالمتلقي ويطبع
وجدانه بصورة الجندي الأميركي المعذب نفسياً وجسدياً في دفاعه عن شعبه
ووطنه، تأتي في سياق تنميطي أحادي يرى في العراقي المسلم العربي وحشاً ويغض
النظر عن عشرات آلاف الضحايا.
التنميط العنصري الذي يخشى صوت الآذان فيطرب لسماع صوت الدبابات. التنميط
الوقح الذي يصوّر آلام عائلات الجنود الأميركيين وخوفهم على أبنائهم
ليستجدي تعاطفاً مبنياً على الأكاذيب ويتجاهل ما مرّ به المواطن العراقي من
قتل وتهجير وتعذيب في السجون.
لا يجد الفيلم حرجاً في الانسياق نحو مغالطات كبيرة. ولا يبدو أن المشهد
العام للإنسان العراقي قد فتح ثغرة على هامش التعاطف الأعمى مع القناص
الأميركي الذي يصرّ في أحد مقاطع الفيلم أثناء لقائه بطبيبه النفسي على
صوابية فعل القتل؛ إذ يرى أن مزيداً من التصفية سيشفي غليله وينتقم
لزملائه.
وحتى الساعة ما يزال الفيلم يثير بلبلة كبيرة في الأوساط الإعلامية
الغربية. صحيفة "ليبيراسيون" خصصت له نهاية الأسبوع الماضي غلافها. شقيقة
ضيا بركات، الشاب الذي قتل في جريمة "شابيل" هيل، انتقدته على "سي إن إن"،
و"نيويورك بوست" خصصت لنقده وردود الفعل عليه هامشاً كبيراً.
والحال أنّ هوليوود ما زالت تبحث عن مبررات أخلاقية تسوّغ همجية الأفعال
الأميركية في أفغانستان والعراق وتكرّس أشخاصاً مهووسين بالقتل وتجعلهم
أساطير وطنية تحاكي عنصرية وعقدة التفوق الاميركي.
ولا يبدو أن شيئاً ما سيحول دون تعاطف جزء كبير من الرأي العام الغربي مع
شخصية القناص القاتل خاصة أولئك الذين يحكمون على المشهد انطلاقاً من
يوتوبيا الشر (العرب والمسلمين) والخير (الرجل الأبيض الذي يدافع عن وطنه
وشعبه ضدّ الأشرار).
* كاتب من لبنان
ذاكرة الأوسكار: يا له من جنون
إسلام السقا
مرّت "جوائز الأكاديمية الأميركية" بعدّة مواقف دخلت التاريخ لأسباب
مختلفة. ومع تسارع العد العكسي للحفل السابع والثمانين لتوزيع جوائز
الأوسكار هذا العام، نتناول الأرشيف الأكثر جدلاً في عمر الجائزة،
للتعرف إلى جانب مختلف حظيت من سيرة الرجل الذهبي.
***
على الرغم من اعتبار ألفريد هيتشكوك واحداً من أعظم المخرجين في تاريخ
السينما؛ إلا أنّ "سيّد التشويق" لم يحصل على جائزة أوسكار واحدة طيلة
حياته. تبدو هذه من النقاط السوداء في تاريخ الأكاديمية، التي غالباً ما
تفشل في اكتشاف الموهبة الحقيقية في وقتها المناسب. مع أن الكثيرين اعتبروا
أن المشكلة كانت لدى هيتشكوك نفسه، إذ إن عبقريته سبقت زمانه، ولم يستطع
معاصروه فهمه أو تقدير إنتاجه.
لكن الأكاديمية لاحقاً منحته جائزة شرفيّة تقديراً لإنجازاته في عالم
السينما بعد فشله في الحصول عليها في خمسة ترشيحات. جاء هذا التكريم
متأخراً جداً. بل إنه جاء لحفظ ماء وجه الأكاديمية لا غير، وقد وجدها
الجمهور طريقة سيئة للاعتذار، ولعل خطاب هيتشكوك نفسه لحظة استلام الجائزة
هو خير دليل على ذلك.
إذ بعد تمهيد جميل من روبرت وايز، يتقدم هيتشكوك نحو منصة الخطاب ليستلم
جائزته في ليلة العاشر من نيسان/ أبريل 1968. تأسرنا مشيته الوقورة
المعروفة. يصل إلى مكبّر الصوت، ينحني قليلاً، يقول كلمتين: شكراً لكم. ثم
يرجع خطوة إلى الوراء ليشتعل المسرح ضحكاً، وينظر إلى روبرت وايز، قبل أن
ينحني مجدداً ليقول كلمة إضافية. لكن الصوت كان قد كُتم، فنسمع الكلمة
الأخيرة من إضافته؛ لندرك أنه عاد ليقول "شكراً جزيلاً في الحقيقة"، ثم
يرحل.
سُجّل هذا الخطاب بأنه الأقصر في تاريخ المسابقة. بينما نال هيتشكوك لاحقاً
تكريماً كبيراً من جمهوره، الذي اعتبره أحد أهم المراجع في عالم السينما.
***
عشية الحفل الخامس والأربعين لتوزيع "جوائز الأكاديمية" سنة 1973، أعلن
مارلون براندو نيته مقاطعة الحفل، وإرسال ساشين ليتلفيذر بدلاً عنه.
ساشين ممثلة غير معروفة، وكانت رئيسة "لجنة الدفاع عن صورة الأميركيين
الأصليين في الولايات المتحدة" آنذاك. وفي ليلة الحفل، أعلن روجر مور وليف
أولمان اسم براندو كفائز بجائزة أفضل ممثل عن دوره الشهير في فيلم "العرّاب".
توجّهت الأنظار نحو الفتاة الهنديّة ذات الشعر الداكن الطويل وهي تصعد
السلالم.
يقدّم مور الجائزة لها، لكنها ترفضها بإشارة حاسمه فاتحة كفّها باتجاه
التمثال الذهبي. تقف أمام مكبّر الصوت لتلقي خطابها، فتقول: "أنا هنا هذا
المساء لتمثيل مارلون براندو، والذي طلب مني أن أخبركم.. أنه يعتذر جداً عن
قبول هذه الجائزة الكريمة، والسبب في ذلك هو طريقة معاملة الهنود الحمر في
السينما".
يبدأ بعض الحضور بإصدار أصوات تدل على اعتراضهم، عندها نظرت ساشين نحو
الأرض وقالت: "المعذرة لو سمحتم"، فبدأ بعضهم بالتصفيق تشجيعاً لها. أكملت
خطابها باقتضاب مؤكدة أن وجودها هنا لم يكن تدخّلاً منها.
أعقب هذا الموقف موجة كبيرة من الانتقادات الموجهة لبراندو، الذي بقي
منعزلاً عن وسائل الإعلام بعد هذا الحفل، وأجرى عدداً قليلاً جداً من
اللقاءات التلفزيونية. إذ تحدّث عن كونه أراد منح مجتمع الأميركيين
الأصليين فرصة العمر، بالظهور وتوجيه رسالتهم لأكثر من 85 مليون متابع تلك
الليلة، والاستفادة من منصّة ترفيهية من أجل تحقيق عدالة اجتماعية.
ما زالت الانتقادات توجّه لبراندو حتى هذه اللحظة، رغم اختلاف أسبابها مع
الزمن. لكن يبقى هذا الحدث، ورفض براندو للجائزة، الأمر الذي لم يتكرر مع
أي فنان بعده.
***
في ختام سنتهم الدراسيّة الخامسة في جامعة هارفرد، كان المطلوب من طلّاب
مادة كتابة السيناريو تسليم أعمالهم عند نهاية الفصل. يتقدّم شاب بملف
يتكوّن من 40 صفحة إلى البروفيسور، ويقول له: اسمع، لربما أنا كنت فاشلاً
في فصلك، لكن اعتبر هذه مقدمّة لعمل أكبر.
يمارس البروفيسور أنتوني كوبياك طريقة معيّنة لمعرفة السيناريو الجيّد من
السيئ. يقوم بقراءة الصفحة الأولى، ثم الصفحة التي في المنتصف. يدّعي أنه
يستطيع تمييز العمل الذي يكون قادراً على التقاط الحوارات الإنسانية
ومشاعرها. عندما قرأ الملف ذي الأربعين صفحة، قال في نفسه: هذا العمل لم
يلتقط السلوك الإنساني فحسب، بل إنه عمل حقيقي للغاية.
عندما تستقبل عملاً مكتوباً على يد ممثلين، فأنت لا تتوقع الكثير من
الإبهار. لكن في حالة التعاون الشهير بين مات ديمون وبن آفليك في كتابة
سيناريو فيلم "غود ويل هانتينغ" كان الأمر مختلفاً. شابان بدأا حياتهما
الفنيّة بكتابة الفيلم الذي حاز جائزة أفضل سيناريو أصلي في الحفل السبعين
من "جوائز الأوسكار" سنة 1998. كان ذلك عندما شهد عشّاق السينما
أكثر الخطابات طفوليّة عبر تاريخ المسابقة.
حصد الفيلم ما يزيد عن 226 مليون دولار عند نزوله إلى صالات السينما حول
العالم. وحصل من خلاله الممثل الراحل روبن ويليامز على جائزة أفضل ممثل
بدور مساعد. وقد بدا الأمر مربكاً نوعاً ما: من الذي قاد الآخر نحو القمّة
في ذلك العام تحديداً؟ روبن أم الصديقان بن ومات؟
لدى مشاهدة لحظة استلام بن أفليك ومات ديمون لجائزتهما، ندرك أن لا معنى
للتساؤل السابق حول من الذي قاد من. حضر الشابان إلى الحفل وقد اصطحب كل
منهما والدته، كانت هذه العلامة الأولى على طفوليّة ما سنراه.
في لحظة إعلان المقدّم عن أسماء الفائزين، يثبت كلاهما على وضعيته في
محاولة لاستيعاب ما جرى. ثم ينتقل كل منهما إلى أحضان والدته. يقفان، ليجدا
روبن ويليامز ينتظرهما إلى جانب الكراسي الحمراء.
يصل بن أفليك إلى المايكروفون بمشية غريبة مترددة بشكل واضح. لا يصدّق بعد
أنه قد فعلها أخيراً. يبدأ خطابه بالكثير من التلعثم. بينما يقف مات
بجواره، ممسكاً التمثال الذهبي بقبضته اليمنى وكأنه يمسك مضرب بيسبول.
يتحرك يميناً ويساراً، اجتاحته طاقة لا يخفيها طويلاً. إذ قام بمقاطعة
صديقه أثناء خطابه، وقاطعه الآخر بدوره. وتستمر هذه المداخلات، ويبدأان
بالصراخ، وينفجر الجمهور بموجة من الضحك.
في تلك الليلة، عاود روبن ويليامز معانقتهما عندما حصل على أول جائزة
تقدمها له الأكاديمية عبر مشواره الفني كله.
***
في عام 1994، شهد أهل السينما أحد أشد النهائيّات ضراوة بين ثلاثة أعمال
تتسابق على لقب أفضل فيلم لتلك السنة. الفيلم الأوّل كان "فورست غامب" بطولة
توم هانكس، أحد الأفلام القليلة التي لا تستطيع أن تجد من يكرهها. ثم كان
فيلم المخرج كونتين تارانتينو، "بلب فيكشين" والذي كتبه بنفسه، ليكون أحد
أهم أفلام التسعينيات. ثم فيلم "شاوشانك ريدمبشن" والمقتبس عن رواية لستيفن
كينغ، ويحكي قصّة آندي، الذي يضطر إلى القيام بأعمال لا يريدها في السجن.
في الحفل، لم يكن أحد قد انتبه بعد إلى "شاوشنك ريدمبشن". فرغم ترشحه لسبع
جوائز أوسكار، لم يحصل على أي منها. في الحقيقة، لم يشتهر الفيلم إلا بعد
إطلاقه رسمياً بنسخة الدي في دي. الآن هو رقم 1 في أفضل 250 فيلم على موقع
IMDb.
بالمثل، ترشّح فيلم تارانتينو إلى سبع جوائز أيضاً، لكنه حصل في النهاية
على جائزة واحدة، أفضل سيناريو أصلي، الذي هو أفضل جزء في الفيلم، وقد
استحق عليه الجائزة فعلاً.
أمّا "فورست غامب" فقد كان فيلماً ذا شعبية كبيرة. وقد استحق توم هانكس
جائزة أفضل ممثل بدور رئيسي لأدائه المذهل في الفيلم للسنة الثانية على
التوالي بعد دوره في "فيلادلفيا" العام السابق، ليصبح الشخص الرابع في
تاريخ الأوسكار الذي يحقق هذا الإنجاز.
استمر الفيلم في حصد الجوائز بناءً على تصنيفه كفيلم دراما وكوميديا في
الوقت نفسه. نال أفضل فيلم، مخرج، ممثل، سيناريو، مونتاج ومؤثرات.
عندما أُعلن عن اسم الفائز في فئة أفضل ممثل، كانت الشاشة تعرض وجوه
المتنافسين الخمسة. لا أحد منهم يشكّل وجوده صدفة. نتحدث هنا عن مورغان
فريمان، بول نيومان، جون ترافولتا، نايجل هوثورن.
"والأوسكار تذهب لـ: توم هانكس". ترتفع موسيقى الفيلم الأسطورية. يقف هانكس
ليقف معه الحضور كله. يقدم خطاباً طويلاً مؤثراً امتلأت أثناؤه عيناه
بالدموع. وتخلل صوته حشرجة خفيفة، وكأنه على وشك البكاء. لكنه ما زال
قادراً على إلقاء دعابة أو اثنتين. ويُنهي: "هذه اللحظة خالدة إلى الأبد،
ولا يمكن لها أن تتلاشى، أبداً".
* مخرج من فلسطين |