يوميات “كان” السينمائي الدولي
2008... ( 10 )
السينمائيون شاركوا فيها
والمهرجان توقف بعد 3 أيام بسببها
“كان”
يحتفل بمرور 40 عاماً على أحداث 1968
كان
-
محمد رضا
احتفل مهرجان كان السينمائي في دورته الحالية بمرور 40 سنة على
أحداث سنة 1968 بطريقته وهي: إعادة عرض بعض الأفلام التي كان المهرجان
برمجها للعرض في مسابقة ذلك العام لكنها لم تشهد فرصتها آنذاك بسبب حصول
اضطرابات أدّت الى تعطيل فيلم ثم امتدت لتعطيل الدورة بأسرها.
ففي العاشر من مايو/ أيار من ذلك العام، ومن دون سابق إنذار
فوجىء المتواجدون وهم على أهبة مشاهدة فيلم للإسباني كارلوس ساورا عنوانه
Peppermint Frappe
باعتلاء
كل من جان لوك غودار وفرنسوا تروفو وكلود ليلوش ولوي مال ورومان بولانسكي
(وكلّهم مخرجون كانوا في بدايات الطريق حينها) المنصّة وإلقاء كلمات تأييد
للحركة الطلابية التي كانت دخلت شهرها الثالث في فرنسا ذلك العام.
ساد الهرج والمرج وفي إحدى المرّات سقط البعض على البعض الآخر
حين تدافع المحتجّون ثائرين على موقف المهرجان السلبي مما يدور.
سبب ثورة 1968 الرئيسي بدأ باحتجاج المثقّفين والطلاب في فرنسا
على حكومة شارل دي غول التي أقدمت على عدد من الإجراءات كان من شأنها لو
طبّقت وضع النظام التعليمي ضمن مزيد من القوانين المحافظة التي تجعل حرية
التعبير ذاتها مقيّدة. وكان أحد الإجراءات التي أقدمت عليها الحكومة عزل،
رئيس متحرف السينما الفرنسي، جورج لانغلوا لأجل تعيين سينمائي من الحكومة
المحافظة عوضاً عنه. وهنا تتضّح حقيقة مهمّة: ميول تروفو اليمينية (او ربما
هي أكثر من مجرد ميول) لم تمنعه من تسريب الخبر الى رفاقه السينمائيين
فقاموا بالاحتجاج على القرار بإطلاق مظاهرة قادها جان-لوك غودار واحتوت حين
انطلقت على نحو مائة فرد لكنها سريعاً ما استوعبت بضعة ألوف من الطلاب
وهواة السينما، مع رسائل تأييد تم إرسالها من قبل ألفرد هيتشكوك وتشارلي
تشابلن وجان رنوار وروبرتو روسيلليني (وهم أبطال لدى مخرجي موجة السينما
الجديدة، مثل تروفو وكلود شابرول وغودار على أي حال).
قاد غودار المظاهرة الى أن واجهها رجال البوليس الفرنسي
بالقوّة. تحطّمت نظارة غودار الطبيّة وشج رأس زوجته ما دعاه الى الطلب من
المتظاهرين التوجّه الى السينماتيك فرنسيز ( تلك التي أدمن على مشاهدة
الأفلام فيها السينمائيون الفرنسيون من أمثال تروفو وغودار) وتعطيل عروضها.
أمر سارع الجميع الى تنفيذه. وبعد ثلاثة أشهر امتدت الثورة التي كانت
انتشرت بين قطاعات طلابية أكثر الى مدينة “كان” التي كانت تقيم مهرجانها
الحافل وأدّت الى إيقاف المهرجان السينمائي المعروف بعد ثلاثة أيام من
بدايته.
احتفاء المهرجان الفرنسي تم عبر عرض مجموعة الأفلام التي كان
المهرجان سيعرضها ولم يتمكّن من ذلك بسبب المظاهرة الحاشدة التي عطّلته كما
كانت عطّلت عروض السينماتيك قبله وهذه الأفلام هي فيلم كارلوس ساورا
المذكور أعلاه وفيلم فرنسي بعنوان “24 ساعة في حياة امرأة” أخرجته دومينيك
ديلوش، والفيلم الروسي “أنا كارنينا” لألكسندر زارخي كما الفيلم البريطاني
“الأيام الطويلة تموت” لبيتر كولنسون كما عرض فيلم “13 يوم فرنسي” لكلود
ليلوش الذي كان من بين مقتحمي صالة المهرجان في ذلك اليوم المشهود من
تاريخه.
لكن ما حدث بعد الثورة بين اثنين من قادتها هما جان-لوك غودار
وفرنسوا تروفو لم يُصنع عنه فيلم حتى الآن. أحداث تلك الفترة التي انتهت
بادعاء كل فريق أنه هو الذي انتصر في تلك المواجهة (الحقيقة أن الحكومة
انتصرت من حيث أنها التزمت بمعظم قراراتها، لكن الثائرون يستطيعون القول
إنهم جلبوا الى البلاد ريح تغيير وإن فرنسا، بحق، لم تعد، بعد تلك الأحداث
كما كانت قبلها) أنهت كذلك فترة صلح مرحلية بين المخرجين حدثت حينما اشتركا
في الاحتجاج على الحكومة. ذلك أنه قبل ثورة 1968 بدأت بوادر خلافات كبيرة
تنشب بين الاثنين يعود معظمها الى اختلاف المنظور السياسي بينهما.
غودار كان يسارياً ماركسياً، وتروفو كان ليبرالياً يُحسب على
يسار الوسط. هذا لم يمنع الثاني من الاشتراك في التظاهرات الباريسية ولا
-لاحقاً- في اقتحام قصر المهرجانات في “كان”، لكنه كان مستاء أشد الاستياء
من خطب زميله الثورجية.
الشقاق الحقيقي بين المخرجين بدأ خلال ذلك العام. تروفو كان
معتدلاً في موقفه من الحكومة يأمل فقط في إعادة تعيين لانغلوا وغودار كان
يهاجمها من دون هوادة قاصداً إزالتها. تروفو لم يكن مستعداً لمواجهة
البوليس وغودار كان يعتبر البوليس جزءاً من النظام وهو يريد أن يواجه كل من
يقف في طريق تلك الثورة.
اتسعت هذه الخلافات وشملت قيام كل منهما بوصف الآخر بكلمات لا
نستطيع نشر بعضها هنا. ما نستطيع نشره هو أوصاف مثل “كاذب” و”خائن” و”مخطىء”.
وزاد الطين بلّة أن كلاً منهما، في الأعوام اللاحقة أخذ ينتقد فيلم الآخر
بعبارات قاسية.
لكن الاثنين حافظا، كل على نحو منفرد، على إعجاب السينمائيين
العالميين سواء أكانوا من الجيل الأكبر او الأصغر. الإيطالي برناردو
برتولوتشي لا يخفي تأثره بأفلام غودار، بينما يرفع الأمريكي آرثر بن قبّعته
لفرنسوا تروفو. كما أن تأثيرهما معاً وتأثير سينما “الموجة الجديدة” في
مطلع الستينات، أي قبل أن يتفشّى الخلاف كان شديداً حتى بين المخرجين
الأمريكيين الذين بدأوا عملها في السبعينات من فرنسيس فورد كوبولا الى جورج
لوكاس مروراً ببرايان دي بالما وجونثان دامي. أما ستيفن سبيلبرغ، فقد دعا
فرنسوا تروفو لبطولة فيلمه “لقاءات قريبة من النوع الثالث” لإظهار تقديره.
قبلة
مادونا بمليون دولار في مزاد لمكافحة الإيدز ب “كان”
شهدت مدينة “كان” وعلى هامش مهرجانها السينمائي عشاء خيرياً
نظمته المؤسسة الأمريكية لمكافحة “الأيدز”
amFAR
حضره مشاهير العالم ونجح في جمع أكثر من عشرة ملايين دولار وهو
مبلغ قياسي.
ومن المشاهير الذين شاركوا في المزاد الذي ذهب ريعه للجمعية،
مغنية البوب الأمريكية مادونا التي قامت بإفراغ كامل محتويات حقيبتها
الجلدية المرصعة بالألماس من تصميم دار “شانيل”، بالإضافة إلى تقديم غيتار
كان ضمن جولتها الغنائية “اعترافات” لتجمع مبلغ 550 ألف دولار.
ومن ضمن المحتويات مرآة ومشط للشعر ومطري للشفاه.
ومازحت مادونا الحضور مطالبة إياهم بالتبرع بسخاء وعدم الإنقاص
من شأنها.
أما المشرفة على الحفل الخيري فهي الممثلة الأمريكية شارون
ستون أحد أبرز المشاهير الناشطين في الدفاع عن حقوق مرضى الايدز، فقد حاولت
دفع الجمهور للمطالبة بقبلة من مادونا ضمن المزايدات، مذكرة الحضور بأن
الممثل الحائز على أوسكار جورج كلوني باع قبلتين العام الفائت مقابل 700
ألف دولار.
وعلقت مادونا مازحة “ذلك رخيص الجميع قبّل جورج كلوني”. وقالت
إنها لن ترضى بأقل من مليون دولار مقابل قبلة واحدة، وفق وكالة “أسوشيتد
برس”.
وكان العشاء الخيري افتتح بتعهد ستون بمبلغ 100 ألف دولار
لأبحاث الايدز المتعلقة بالأطفال، مطالبة الحضور بالتبرع بسخاء، وخلال
دقائق نجحت في جمع مليوني دولار.
ومن المشاهير الذين باعوا مقتنيات خاصة بهم خلال الحفل الخيري
شارون ستون حيث دُفع خلال المزايدة مبلغ 786 ألف دولار لسيارتها البورشيه
الكلاسيكية موديل عام 1976. كذلك من المشاهير الذين شاركوا في المزاد،
الراقصة ديتا فون تيس، التي قدمت جواربها، حاصدة77 ألف دولار.
بين
الأفلام
3 أفلام تبحث عن المجهول والأمل الضائع
*
Headless
Woman
امرأة بلا
رأس
يمكن إطلاق العنوان على حال الفيلم أيضاً. إنه بلا رأس ولا
أطراف ولا يعرف أحد ما المواصفات التي وجدتها لجنة الاختيار كافية لاختيار
هذا الفيلم في المسابقة، بينما هناك أعمال أفضل منه معروضة في أقسام أخرى،
او ربما تكون رفضت لإتاحة المجال لهذا الفيلم.
إنتاج أرجنتيني/ إسباني/ فرنسي من كتابة وإخراج لورسيا مارتل
صوّرته بكاميرا ذات نظام عريض مناسب للرغبة التي تعتري الفيلم في إظهار
أجواء الحياة المختلفة ووضع شخصياتها، خصوصاً شخصيّتها الأساسية، في وسط
تلك الأجواء.
تبدأ القصّة ببطلة الفيلم (ماريا) وهي تقود سيّارتها في سرعة
كبيرة على الطريق الريفية الموصلة الى البلدة التي تعيش فيها بينما يصدح
الراديو بموسيقا عالية. فجأة يرن جرس الهاتف النقّال. تنحني جانباً
لالتقاطه وفي لحظة ترتطم بشيء. توقف السيّارة وكلّها اعتقاد بأنها ارتطمت
بإنسان، لكن المرمي على قارعة الطريق وراءها هو كلب. بعد ذلك هو محاولة
المخرجة تصوير قناعة بطلتها بأنها قتلت شخصاً وكيف أن هذه القناعة مترسّبة
في البال على أساس أنها تأنيب ضمير. لكن لا زوجها ولا أحد الأصدقاء ولا
الشرطة نفسها وجدت ما يدل على أنه في ذلك اليوم تعرّض أحد لحادثة سير على
تلك الطريق.
خلال ذلك فإن غاية المخرجة الأرجنتينية هي البحث في الحياة
الأسرية لتلك المرأة التي تؤديها مارتل كامرأة حائرة وهائمة بين أفكارها
المشوّشة. حيرة وهيام نراهما منتشران على شؤون الفيلم المختلفة كما لو أن
المخرجة وجدت الفكرة ولم تجد السبيل الصحيح لسردها والقدرة على الربط بين
الحادثة وبين ما يقع في محيط البطلة العائلي في ذلك الوقت.
الفيلم عبارة عن لقطات مثرثرة صورياً وحوارياً وسلسلة من
المواقف التي يبكي فيها هذا على كتف ذاك مع بعض المشاهد التي توحي بأن حياة
بطلة الفيلم كانت متهاوية قبل الحادثة وليس من بعدها فقط.
في فيلميها السابقين “الفتاة المقدّسة” و”لا سيينيغا”، شاهدنا
المخرجة وهي تبحث في أواصر العلاقات الأسرية لكن هذين الفيلمين كانا أفضل
من هذا العمل لمجرّد أنهما كانا أوضع في معالجة هذا الجانب او سواه.
**
Palermo
بالرمو
لأول مرّة أسمع فيها ضحك مشاهدين في الصالة المكتظّة على ما
يدور على شاشة فيلم من إخراج الألماني فيم فندرز. لكن الضحك انطلق في مشهد
يقول “هذه البلدة تقع على سفح الجبل”، عبارة ما كان ضرورياً أن تذكر لأن
اللقطة كانت أظهرت أنها فعلاً تقع على سفح جبل. لكن الضحك ازداد بالقرب من
نهاية الفيلم حينما بات واضحاً أن دنيس هوبر (في شخصية ملك الموت) ليس
مقنعاً في تشخصيه، بينما يعاني ممثل باسم كامبينو من سوء الأداء أساساً،
وكلاهما في مشهدهما الذي يجمع بينهما قبل دقائق من نهاية الفيلم، تحت وطأة
حوار يدعو فعلاً الى الضحك. لكن هذا، في نهاية الأمر، فيلم من إخراج فيم
فندرز. المخرج الذي يقصد أعماله كل من يريد الجمع بين جماليات السينما
ومضامينها. كيف يمكن أن يحدث له ذلك وهل الفيلم من الرداءة بحيث يستخرج
الضحكات عوض التأمّلات؟
بطل الفيلم، كامبينو، مصوّر فوتوغرافي معروف ينتقل الى مدينة
بالرمو الإيطالية فيجد فيها الحياة البسيطة والأليفة التي لم يتعوّدها في
مدينته. لكن انتقاله اليها ليس محض مصادفة ولا اختياراً سياحياً، بل نتيجة
ظروف خاصّة. هذا الرجل يتحدّث الى والدته الغائبة طوال الوقت بصوت ينتشر
فوق الفيلم تراءت لبطله هذه الأم (كما تفعل أكثر من مرّة) او لم تفعل. وهو
رجل ربما مات فعلاً حين حدث بينه وبين سيارة أخرى صدام كبير، وربما لم يمت
ولم يقع ذلك الصدام أساساً. ثم هو رجل يتحوم حوله الموت أينما ذهب. شبح
لرجل يرتدي عباءة رمادية ويحمل قوساً ونشاباً يطلق سهامه باتجاه البطل كلما
سنحت له الفرصة. لا أحد سوى البطل يعرف ذلك وهو لا يستطيع التعبير عنه.
حينما يلتقي بفتاة مستعدة لتصديقه، تزداد ضربات السهام عنفاً وتبدأ بإصابته
مباشرة إنما من دون أن يموت.
الفيلم يعكس مزيجاً من تشتت البال والحيرة في الشأن والتردد
بين الحياة والموت أمر مطلوب في مثل هذه المعالجة، لكن أن يكون الفيلم نفسه
مزيجاً من هذا التشتت وأن يخفق المخرج في وضع مسافة مطلوبة بين ما يعرضه
على الشاشة وبين معالجته لهذا الوضع فإن الأمر يصبح أصعب من أن يحتمل
خصوصاً وأن الفيلم يقضي الوقت في تكرار سائد للمواقف ذاتها.
****
O
Horten
أو هرتن
هذا الفيلم النروجي تحفة صغيرة تتمتّع بكل ما أخفق الفيلمان
السابقان في توفيره: الفن في البساطة والمضمون في العمق من دون افتعال او
سقوط تحت عبء المرغوب في تقديمه. إنه حكاية اجتماعية حول رجل اسمه أو هرتن
(بارد آو) وصل الى سن التقاعد كسائق قطارات. لا تزال لديه رحلة واحدة عليه
القيام بها قبل أن يُحال رسمياً الى مكتب التعويضات، لكنه في ذلك اليوم
بالتحديد يخفق في الظهور في الموعد المناسب قبيل انطلاق القطار بعدما جيء
بغيره.
هذا لا يسعده او يرضيه لكنه مقبول لدى محيطه العملي الذي يكن
له احتراماً كبيراً. السبب الذي من أجله لم يستطع أود (كما يرمز حرف أو) في
الظهور صبيحة ذلك اليوم يعود الى ليلة غريبة قضاها في غرفة في منزل عائلي
من دون دراية أحد سوى طفلها. حدث ذلك حينما لم يستطع أود دخول البناية التي
دعي لحفلة على شرفه تقام في شقّة منها. اعتقد أن الطريقة المثلى هو الدخول
الى نصف ملاصق بدا تحت الترميم ثم دخول واحدة من شققها لكي يخرج منها الى
الجانب الآخر. لكن حين دخل تلك الشقّة وأصحابها نائمون، شاهده صبي في نحو
العاشرة من عمره وطلب منه أن يبقى جالساً في غرفته الى أن ينام. أود لم
يجلس في تلك الغرفة حتى نام الطفل فقط، بل حتى وقع هو نفسه في النوم
واستيقظ صباحاً ليتسلل قبل أن يشاهده باقي أفراد العائلة الذين استيقظوا
قبله.
هذا فصل نموذجي من المشاهد من حيث قدرته على إثارة اهتمام
بشخصية رجل وحيد في مجتمعه وغريب في عالمه. بعد ذلك هناك أكثر من موقف ساخر
ينتهي -ايضاً- بالتسلل هرباً لأن الهروب هو الأمر الوحيد المتاح بالنسبة
الى رجل يجد أن حياته بعد التقاعد أصبحت جديدة جدّاً عليه (عنوان الفيلم
الأصلي: الحياة الغريبة لأو هرتن). إنه واقع في الشق بين الرغبة في
الاستمرار وبين الماضي. ومثل بطل “بالرمو” يستذكر والدته لكنه ليس مريضاً
بتلك الذكرى ولا هي فعل نفسي يؤثر في شخصيّته على غرار ما حاول فندرز
الإيحاء به. ما يبدأ بسلسلة من المواقف التي لا تبدو متّجهة لتشكيل قصّة
حقيقية، يتحوّل الى عمل مناخي يتأمّل في الشخصية ويمهّد لعدد من القصص التي
تلتقي ثم تتفرّق من حوله. هذا ثاني فيلم أشاهده للمخرج بَنت هامر بعد “قصص
مطبخية” قبل نحو ثلاث سنوات (ورابع أعماله) وهو يبني أفلامه، كما يبدو هنا،
من مواقف غريبة، لكنها ليست غريبة لدرجة أنه يصعب تصديقها، بل غريبة على
نحو يرتبط بالعالم المنفرد الذي يعيش كل منا فيه بتصوّراته ومفاهيمه.
أوراق
ناقد
السينما
والمدينة: علاقة أسعار
لو أن “كان” كان مهرجاناً عربياً لوجدنا أن آخر ما يمكن أن يقع
للمدينة التي يحدث فيها هو هذه الموجة الموازية لفترة إقامته من الغلاء.
مهرجاناتنا السينمائية من القاهرة الى دبي وأبوظبي ومراكش
ودمشق وقرطاج وبيروت وسواها العديد، وعلى اختلاف أحجامها وأنواعها، لا
تُقام لكي يرفع هذا المقهى سعر فنجان القهوة مرّة كل عام. ولا لأن يفرض هذا
الفندق رسوماً جديدة لجانب رفعه سعر الإقامة فيه، ولا لكي يأخذ التاكسي ما
يُتاح له من أجر لقاء ذات المسافة بين المدينة والمطار.
الفارق هو أن المهرجان العربي لا يزال واحداً من المظاهر
العديدة التي يعيشها الإنسان العربي، وليس المناسبة الاقتصادية الرئيسية
التي من الممكن استحواذها لتحسين إيراد المدينة. الى ذلك، كل المهرجانات
المذكورة تقع في العواصم العربية ما يجعل المهرجان جزءاً من نشاطاتها وليس
هناك سوى القليل من المهرجانات التي تقع في مدن صغيرة بحيث يصبح المهرجان
الكيان الرئيسي في حياتها تتمحور الأشغال من حوله. حتى ولو افترضنا أن
مهرجان الإسكندرية، مثلاً، كان أكبر وأهم مما هو عليه الآن فإنه من المشكوك
في أمره أن يرتفع سعر كل أدوات الحياة في الفترة التي يقام فيها هذا
المهرجان.
لكن مدينة كان جعلت من المناسبة الفنية في نصفها والتجارية في
نصفها الثاني مناسبة للربح. وهو ليس ربحاً فردياً حين يكون المستفيد كل
قطاع ممكن. وليس ربحاً موسمياً حين نعلم أن المدينة تشهد أكثر من مهرجان
كمهرجانها السينمائي ترتفع خلالها أسعار المشتريات علي نحو شبه أتوماتيكي
وتنخفض بعد كل مهرجان الى حد هو لا يزال مرتفعاً.
هذه المدينة تستفيد كثيراً من مهرجاناتها المقامة فيها والناس
هنا قد يتأففون من اضطرارهم لمواجهة حركة سير شديدة، لكنهم يدركون تماماً
أن المهرجان الواحد إنما يساعد جيوب المدينة أيّما مساعدة. هذه الشقّة التي
استأجرتها ب 2800 يورو، او ذاك الفندق الذي نزل فيه زميل ب 240 يورو في
الليلة (فندق من نجمتين يوفّر على حد قول الزميل ثلاثة في سبعة أمتار للنوم
وإفطار بسيط من نصف رغيف وزبدة ومربّى وفنجان قهوة او شاي) تصبحان عماداً
اقتصادياً لمالكيها. ولا تخفي السيدة المسنّة التي تملك الشقّة وشقّتين
أخريين قامت بتأجيرهما بسعر مشابه حقيقة أن الأسعار لا تعرف انخفاضاً
لمعدّل أقل ب 20 في المائة مما هي عليه حالياً الا شهرين في العام. تقول
ذلك وهي تخبرني بنفس الرمق أنها ستنطلق لقضاء إجازة في سويسرا. إجازة أفهم
أنها ستستخدم فيها ما جنته من إيراد شقّة واحدة.
المفارقة هنا هي أن الغلاء في العالم العربي مرتبط بقواعد
الاستهلاك وارتفاع الأسعار والطلب على البضائع والسينما لم تتحوّل بعد الى
بضاعة استهلاكية ولو كانت لأصيبت. لكن حتى ولو أصيبت لن تُصاب على أغلب
اليقين بما يوازي ما تصاب به مدينة كان من عوارض تضخّم.
م.ر
الخليج الإماراتية في 25
مايو 2008
|