أحب التنويه، إلى أنني بدأت الكتابة عن السينما مع بداية الثمانينات من القرن
الماضي، وكان الفنان الكبير صلاح أبوسيف، هو أول مخرج أحببت أن أبحث في تاريخه
وأحرص أن أشاهد جميع أفلامه، المتوفرة في تلك الفترة على أشرطة الفيديو، ونجحت في
ذلك.. فشاهدت الكثير من أفلامه، وقرأت الكثير عن مشواره وأفلامه، وهو ما ساعدني
وحفزني، للكتابة عنه، ليكون هذا البحث (الدراسة)، أول مبحث طويل أعمل عليه، وأنشره
في الصحافة المحلية.
وبالرغم من أن هذه الدراسة، جاءت مع باكورة اهتمامي بالكتابة عن السينما، والتي ـ
بالطبع ـ قد اتصفت بعدم التمرس والخبرة في شئون الكتابة، إلا أنني قررت أن أنشرها ـ
في هذا الكتاب ـ كما هي، وكما نشرت في الصحافة المحلية، مع بداية الثمانينات من
القرن الماضي.
*****
في عام 1996، فقدت السينما المصرية أحد أبرز عمالقتها في الإخراج السينمائي، عندما
توفي المخرج الكبير صلاح أبوسيف إثر مرض عضال عن 81 عاماً.. هذا المخرج الفذ والذي
يعد من بين أبرز المخرجين الرواد الذين أرسوا قواعد وتقاليد للسينما المصرية منذ
البدايات الأولى، واشتهر بأفلامه الواقعية، بل أصبحت أفلامه تمثل مدرسة سينمائية،
لها مناهج وملامح ومراحل واختبارات، كما أنه استحق بجدارة لقب أبو الواقعية في
السينما المصرية.
والواقعية عند صلاح أبوسيف تعني أن ترى الواقع وأن تنفذ ببصرك وبصيرتك في أعماقه
وأن تدرك وتعي جذور الظاهرة، لا أن تكتفي برصد ملامحها فقط. وهذا بالضبط ما جسده في
أفلامه الكثيرة والمهمة.. فهو صاحب أفلام: ريا وسكينة، الفتوة، شباب امرأة، بداية
ونهاية، القاهرة 30، الزوجة الثانية، السقامات، البداية.
نال صلاح أبوسيف شهرة عالمية، إضافة إلى شهرته في العالم العربي، بل أنه من أبرز
المخرجين العرب شهرة في العالم. فقد اشترك بأفلامه في الكثير من المهرجانات
السينمائية الدولية، مثل مهرجانات كان وبرلين وموسكو وكارلو فيفاري وفينيسيا
وفيفاي. كما حصل على جوائز وشهادات تقديرية منها. وعرضت معظم أفلامه في الكثير من
أسابيع الفيلم المصري والعربي في العالم. هذا إضافة إلى الجوائز المحلية الكثيرة
التي حصلت عليها أفلامه.
وقد أمدت أفلام أبوسيف ـ بريادتها وثرائها الفني ـ النقاد بمادة متجددة للدراسة
والتحليل، فأصبحت أفلامه بمثابة المعايير التي تقاس بها جودة الأفلام الجديدة، وهي
ـ بالطبع ـ معايير على قدر كبير من الدقة والصدق والحساسية، تمنح الناقد قدرة على
الحكم بنزاهة.
بعد رحيل هذا الفنان الكبير، ترى من الذي سيخلفه فنياً. صحيح بأن أبوسيف فنان لا
يمكن تعويضه، بكل ما قدمه من رؤى فنية وأسلوب سينمائي وابتكارات ووجوه جديدة في
مجال السينما، وبالتالي لابد أن يكون له تلاميذ حرصوا على مواصلة الدرب الذي بدأه.
وفي الوسط السينمائي المصري هناك طابور طويل من المخرجين الذين تخرجوا من مدرسة
صلاح أبوسيف، وحاولوا محاكاة البعض من أفلامه فنياً. فهناك أشرف فهمي الذي أعاد
إخراج فيلم (لك يوم يا ظالم) في فيلم بعنوان (الوحش داخل إنسان). وعلي عبد الخالق
الذي قدم محاكاة لرائعة (الفتوة) في فيلم (شادر السمك). وعاطف الطيب الذي أطلق اسم
حسن على بطل فيلمه (سواق الأتوبيس) تيمناً وتبجيلاً لأستاذه الذي قدم (الأسطى حسن)
منذ أكثر من ثلاثة عقود. وكما انطلق محمد خان، مستكملاً توغل أبوسيف في أحراج
المدينة، اتجه هاشم النحاس من خلال الفيلم التسجيلي، إلى النفاذ ببصره وبصيرته في
أغوار الواقع. وهناك الكثير من اللمحات والإسقاطات الفنية التي تناثرت هنا وهناك في
أفلام مخرجي السينما المصرية الجديدة (الواقعية الجديدة)، أبرزهم عاطف الطيب، محمد
خان، خيري بشارة، داود عبد السيد. صحيح بأن هؤلاء المخرجون قد خطوا لأنفسهم طريقاً
جديدة في التعبير عن الواقع، إلا أنهم لا ينسون فضل أبوسيف وتأثيره عليهم، فهو الذي
علمهم السينما في بداياتهم الأولى.
هذا هو صلاح أبوسيف، الذي نحن بصدد تناول سينماه، في هذا الكتاب.. والذي رحل تاركاً
لنا، تاريخ فني طويل وحافل بالإنجازات السينمائية، ستظل محفوظة في ذاكرة الجمهور
وذاكرة السينما على السواء.
ولا يمكنني أن أنسى طبعاً، الإشارة إلى أنني استفدت كثيراً من التقرب من فن هذا
المخرج الكبير، وقد جعلني أبحث أكثر عن مخرجين آخرين، في السينما المصرية طبعاً،
يعتقدون (من اعتقاد)، بأن الفن هو طريق للتطور والإرتقاء بالمجتمع، ورفع المستوى
الفني والثقافي للمتلقي.
شكرا كثيراً فناننا الكبير صلاح أبوسيف.. |