في فيلم حكاية بحرينية..تناسل الحب فأنجب إبداعاً و
رسالة
كتب : علي الستراوي
في ثالث تجربة سينمائية للمخرج بسام الذوادي، وباكورة إنتاج الشركة
البحرينية للإنتاج السينمائي، عرضت الشركة النسخة التجريبية من فيلم
''حكاية بحرينية'' تأليف الكاتب والروائي فريد رمضان وإخراج المخرج القدير
بسام الذوادي وتمثيل طاقم من الوجوه البحرينية المبدعة. وبين أحلام صغيرة
تريد أن تخرج من قمعها نحو عالمٍ جديدٍ، ونحو حب انشغلت به، فناضلت نحو
الإمساك والتعلق بأذياله، في بيت حمل صراعات مكتظة وفي أزقتها كبر الحي،
بأحلام هؤلاء المفتونين بالحرية، وبالبوح المسجون بين أقفاص صدورهم، صراع
سجّلته العيون قبل الذاكرة، فكان هذا البيت الصغير المكتظ بأحزانه، هو واحد
من البيوت المجاورة لبيوت الحي الفقيرة في مدينة المحرق، و التي رأت في
تحديها ذلك الشعور المشحون بالانعتاق، نحو عالمها الكبير.
ونحو كل جهات الدنيا، تظل الصورة عالقة بواقعها المر، وبيثيمتها الاجتماعية
بين حلم تجره نحو واقع تحاول الهروب منه، صراع مرير عكسته حالة الفقر التي
عاشها أهل البحرين في تلك السنين التي شكّلت بوادر الروح المتحدية،
والمنشغلة بحفر أحلامها في واقع صخري مؤلم، تعصر قلبها تارة بحسرة وأخرى
بحلم منتظر، لعله يستطيع أن يقودهم نحو تحقيق أحلامهم التي يُصرون على
التمسك بها، نحو أمل أكبر وحياة أفضل مما هم عليها.
شجون انطبعت على أسرار أطفال الحي وعلى فتياته اليافعات الناظرات للحياة
بشغف مستطير، إنه الحلم العربي الأكبر، أرق سجل لنا ذاكرته بين الحب
والحياة المقترة، بين عجلات سريعة الدوران في ركب الحياة الجديدة، بحثاً عن
الانعتاق.
''المحرق'' سرة المكان المتصلة بالحب
في اختيار المؤلف مدينة ''المحرق'' كمكان للحدث الذي دارت على أرضه أحداث
الفيلم، قد ربط المؤلف بين هذا المكان كتاريخ وبين ساكنيه كواقع وجزء مهم
من هذا التاريخ، لمرحلة شكّلت النواة الأولى للتغيير في البحرين خاصة،
والخليج كعموم، بظهور أول بوادر الثروة الاقتصادية، في اكتشافات عدة وأهمها
البترول .
هذه المرحلة التي بدأت عام
,1967
حتى مرحلة السبعينيات، وهي المرحلة التي اخذت من قبلها أرهاصات عدة لمرحلة
جديدة، شهدت قيام دول عدة، نهجت ديمقراطية التغيير. فيلم »حكاية بحرينية«
ينقل لنا الصورة لواقع أُسري مكتظ بجوعه وبأحلامه، نحو البحث عن حرية أوسع
تقوده نحو الصراخ الكبير، فيلم اجتمعت فيه كل الوجوه المبدعة ذات الخبرة
أمثال: عبد الله ملك، وعبد الله وليد، ومريم زيمان، وفاطمة عبد الرحيم،
وماجدة سلطان، وجمعان الرويعي، ومبار ك خميس، ويوسف بوهلول، وعبد الله
السعداوي، وابراهيم الغانم، ولطيفه مجرن، ومن الوجوه الشابة أحمد الفردان،
وفاء مكي، عبد الله بحر، فهد مندي، شذى سبت، أحمد عقلان، حسن الماجد،
والطفل نديم زيمان، وشيماء جناحي، وعبد الرحمن محمود، وجاسم حداد.
هذه الأسرة التي شكلت دراما هذا الفيلم، كانت قديرة في حمل هذه الرسالة
الفنية، بقيادة المخرج المبدع بسام الذوادي.
وعبر المكان الذي استضاف وجوه هذا الصراع الاجتماعي تشكّلت كل أرهاصات
حكاية الفيلم هذه الحكاية التي شكّل محور بطولتها ثلاث نساء هن: الفنانة
مريم زيمان في دور ''لطيفة'' و الفنانة فاطمة عبد الرحيم في دور ''فاطمة''
و الفنانة ماجدة سلطان في دور ''شريفة'' وفي الجهة الأخرى من الرجال كان
هناك الرجل القاسي والزوج الشرس في إدارة أسرته الذي قام به الفنان ''مبارك
خميس'' والأخر الشاب المحب لفاطمة ''حمد'' الذي قام بلعب دوره الفنان جمعان
الرويعي.
حلم أُناس كبروا بهتافات الرفض، وبين عجلات ناصرية وقومية عربية، حملت
الشارع العربي نحو التغيير ونحو تسجيل المواقف، هتافات لم تصمت في ظل
حناجر، كسرت خوفه، فخرجت للشارع تعلن حبها وبين شعور لم ينفك لحظة عن تسجيل
ذاكرتنا بحياة الفقر القاسية التي انبتت بذور شذاها في الحلم الكبير، حلم
الأمة المنتظر.
المظاهرات أكتظ بها الشارع العربي من المحيط الى الخليج، فليس غريباً أن
تكون البحرين أول المنتمين لهذا التغيير، فالتاريخ يؤطر ويسجل ما لهذه
الجزيرة من مواقف تذكر.
البيت أول الخيوط الدرامية
في هذا البيت كانت الأم لطيفة وبناتها الثلاث، وطفلها وزوجها المتسلط
''عبدالله'' يعيشون تحت قسوة هذا الزوج العصبي المزاج، شرس الطباع
والمعاملة، يعامل زوجته لطيفة، وهي التي تصغره سناً بعقلية رب البيت الذي
لا يسمح فيه لأحد أن يجادله، زوّج ابنته ''فاطمة'' لزوج لاتحبه، ولاتستسيغ
معاشرته، أدت هذه الزيجة لانتحار فاطمة البنت الكبرى للزوج من أم أخرى غير
لطيفة، وحاول أن يمنع ابنته من تزويجها لمن تحبه فرفض لكونه شيعي، وهم سنة،
فأدى هذا المنع لهروب ابنته الصغرى مع من تحب، وهنا تكبر المأساة وتكون
الضحية ''لطيفة''، حيث يفرغ الزوج القاسي كل غضبه عليها معتبراً تربيتها
هي السبب في هروب البنت، وتظل المأساة تشغل واقع ذلك الطفل الصغير المهتم
بتربية الحمام وبواقع حياته المُرّة في ظل قسوة ابيه وهيمنته على كل شيء،
تظل عيناه تُحدقان في كل شيء، ويظل الخوف يلاحقه، نفسه تقول: كيف لي أن أقف
أمام تسلط أبي، وكيف لي أن أرفض هذا الظلم؟
هذه المرحلة من القسوة امتدّت في جراحها منذ منتصف الستينات حتى بدء حتى
منتصف السبعينيات، وفي رحيل جمال عبد الناصر، كرمز نضالي حلمت به لطيفة
وحلم به كل حر، لطيفة لم تستطع الصمت عندما سمعت بوفاة جمال عبد الناصر،
خرجت مع الخارجين، وعبرجنازة وهمية بكوا لرحيل جمال.
ظل البيت واسع الأفق وظلت ملامح تلك المرحة التاريخية عمرا جديدا للطيفة،
ولسكان الحي من المحرق، مرحلة تجاوزت حدودها الأقليمية لتقول: لنبني ونرفض
ماهو مُظلم.
الدراما هي الحدث المهم لأي عمل فني
من خلال ما جسدته القصة من واقع اجتماعي مؤثر، ذو ابعاد في المحيط الصغير
والكبير للإنسان، يتضح لمن شاهد فيلم ''حكاية بحرينية'' أن المؤلف وظّف كل
الأجواء عبر سيناريو الفيلم، مستفيداً من أهم مرحلة شكّلت تغيراً في
الذاكرة التاريخية للإنسان البحريني، عبر كل المتغيرات التي تزامنت
بظهورالطفرة الاقتصادية وبالتغيير العربي، حيث ثورة يوليو، وتأثيرها
وخطابات الرئيس جمال عبد الناصر على الشارع العربي، يقابله ما أصاب الإنسان
العربي من خيبة في نكسة يوليو67م، والخوف الذي صاحبه بعد هذه الهزيمة
وتقديم عبد الناصر استقالته عن الرئاسة، وخروج الناس تطالب ببقائه في جميع
الأقطار العربية، هذا الحلم الكبير والهاجس المهم جسده الروائي فريد رمضان
عبر ثيمة اجتماعية وسياسية فتح أفقها عبر ذلك الإنسان البسيط الذي لا يحمل
من الدنيا سوى عرق جسده، وعبر وجوه تشكّلت بالحب، رافضة واقعها، مستفيدة من
الصحوة العربية، سيناريو وفق فيه رمضان كمؤلف روائي، وكان شاهدا حيا لحقبة
زمنية لا زالت آثارها ملتصقة بواقع الأمة.
هذا السيناريو هو من الأهمية لأي عمل يُراد منه النجاح، واعتقد - ولستُ
جازماً- بأن النجاح الذي قد يصاحب الفيلم هو وجود تلك الثيمة الإنسانية في
تلك المرحلة التاريخية، وهي مرحلة مشحونة بالدراما القادرة على إبراز
حيويتها من خلال المشهد السينمائي.
فالوجوه التي انحشرت تحت قمع الرجولة الجاهلة، هي الوجوه التي تعيش الان
بين ظهرانينا، وهي التي قد أفلحت في رسم كل معالم هذا الوطن ''البحرين''
الجميلة بالحب وبناسها الذين لم تفصلهم الوجوه المذهبية، والدليل، تضحية
البنت الصغرى السنّية وهروبها مع حبيبها الشيعي، وأيضاً الألم الذي حمله
ذلك الإنسان البحريني من أصل يهودي، عندما اتُهم بخيانته، وبأنه يهودي،
فقال: صحيح إني يهودي، ولكني بحريني، ولدت هنا وسأموت هنا ولا أعرف غير
البحرين وطناً، هذه المقاربات الإنسانية هي الجدل الجميل في الطرح عبر
سيناريو الفيلم ''حكاية بحرينية'' وهي ثيمة قل من يثيرها عبر الفن
السينمائي، وهي جرئة حميدة وظّفها المؤلف لتقول أن شعب البحرين شعب واحد لا
تقسمه الانتمائات.
الذوادي .. إبداع متجدّد
عبر القيادة الإخراجية، لم يكن الذوادي منفصلاً عن المخرجين العرب
والأجانب، ولن أقول أنه تجاوزهم، بل استفاد منهم فإبدع في إخراجه لعمله
الثالث من الأفلام الروائية، فالحكاية لم تنته عند الذوادي، لكنها متصله
بعمر البحث عن الإبداع، جميل أن نشاهد هذا التطور الملحوظ عند الذوادي
وجميل أن يظل هذا التحدي مقروناً بواقع الفعل، فهو إبداع متجدّد، وأصيل في
جذوره العربية.
محمد حداد والموسيقى التصويرية
لقد أسند المخرج الذوادي، لقيادة موسيقى الفيلم التصويرية، للموسيقارالشاب
محمد حداد، والذي بالفعل، حلّق بنا نحو ذلك الحنين، ذلك العمر من الحكايات
الجميلة، فقاد موسيقى الفيلم نحو بر الأمان، ظل الشجرة الواقفة بأحلامها،
عبر موسيقى اخذت بالفيلم نحو ناصية مهمة ومكملة للإنجاز البحريني.
الممثلون ..
في توزيع الأدوار، كانت المفاجأة، حيث أن جميع الفنانين من شباب ومخضرمين
قد انخرطوا في حكاية بحرينية، نحو إصرارهم في تقديم ما عندهم حيال هذه
التجربة، فمن بين هذا الحب برزت كعادتها الفنانة ماجدة سلطان ''شريفة''،
ذات الصورة المرحة التي حملتها عبر طيات عباءتها، إنها صورة أهل البحرين
الطيبين على سجيتهم، فهي الأسطورة في بعد انكي، وهي حاتم الطائي في وليمة
الناس، زادها بسمة وزعتها هنا وهناك، وامتدّت حتى أهدتها الصورة الجميلة أن
تزوج ابنتها بجذع نخلة، ما أعذب هذه البساطة القانعة بكل ما هو جميل، وماهو
مفتاح للحب، إنها مفتاح هذه الحكاية، وكل المفاتيح قد اتضحت في ظل إبداع
مريم زيمان وفاطمة عبد الرحيم ويوسف بوهلول، وعبد الله ملك، والوجوه الأخرى
التي قدّمت عبر هذه الحكاية كل ما عندها، فكانت خير سفراء قادوا العمل
الفني نحو بر الأمان، نحو كل البيوت المفتوحة بقلوب ساكنيها، إنها جدلية
الروح للروح ، وذاكرة الحلم والحياة، فالحكاية بما حملت هي جزء من حكايات
كثيرة عرفها وطننا، وكل حكاية لها صداها في الروح والذاكرة.
وبين الألم والواقع المرير، تظل الحكاية في حروفها واقع لحلم كلما صعب،
كلما قربت حلقاته من الانتصار، هكذا جسّد حلمه بسام الذوادي ومن خلفه فريد
رمضان، فكبرت الحكاية مع كل هؤلاء المخلصين والمبدعين، ليقدموا فيلماً
ثالثاً في تجربة الذوادي كمخرج، فاتحاً لشراكة سينمائية بحرينية، هاجسها
الصوت الشبابي والمضحي بالجهد والتعب، فالحكاية، حكايتنا التي سجّلت
السينما أول خيوطها نحو الحلم، ونحو مسألة الروح عن غاياتها وعن عمقها
المدفون في جدل لاينتهي حتى يبدأ، بين وجود كل هؤلاء الفنانين، ولدت حكاية
فريد والذوادي، وكانت حكاية الكل في جدلها. فلكل من شارك في إظهار هذا
العمل الفني للسينما، رسالة عانقت فينا حبهم وطمأنتنا أننا في البحرين، هذه
الجزيرة المعطاء، يتناسل فيها الحب والإبداع.
وتظل الرسالة التي لوحت بمنديل عطائها، هي رسالة كل الناس في حزنهم وفرحهم
هم مثابة القلب، أبناء هذه الأرض الطيبة.
الوطن البحرينية
في 16 سبتمبر 2006 |