منذ
عامين تقريباً، وحين عرض المخرج
السينمائي البحريني بسام الذوادي ثاني إنتاجاته
السينمائية،
فيلم «زائر»، وهو ما يمكن اعتباره ثاني الإنتاجات السينمائية البحرينية
كذلك، سألت الذوادي ما إذا كانت
هناك أية مشروعات مستقبلية لمزيد من الإنتاجات، وما
إذا كانت مدة انتظار المشاهد البحريني ستطول ليشهد
انتاجاً سينمائياً بحرينياً أو
«ذوادي» آخر.
حينها
وعدني الذوادي كما وعد كل محبيه
بمشروع ثالث وبفكرة تختمر في ذهن فريد رمضان، صديق
عمره وكاتبه المفضل، الذي أبدع معه كل أعماله
السابقة تقريباً. حينها كذلك وعد
الذوادي بألا
تطول مدة الانتظار لتصل الى ما يقرب 13 عاماً كما حدث بين أول
إنتاجاته «الحاجز» وثانيها «زائر».
فعلاً وفى الذوادي بوعده، إذ إنه وفي مطلع
العام الجاري،
وحين لم أكن أتوقع، تلقيت مكالمة منه أخبرني فيها عزمه ابتداء تصوير
فيلمه الثالث «حكاية بحرينية» الذي كان مقرراً له،
منذ سنوات، أن يقدم تحت اسم
«أحلام صغيرة»
وهو الاسم الذي وضعه له كاتبه فريد رمضان، حين ألف قصته في العام .1997
هذه القصة التي اعجب الذوادي بها وأراد
تحويلها إلى فيلم سينمائي منذ
البداية، وكيف
لا، وكاتبها هو رمضان المعروف ببراعته في رسم صور حية ناطقة مفعمة
بالحياة لكل حدث وقصة يريد
تناولها في أي من رواياته، ما يغري بتحويلها الى عمل
سينمائي يكاد
نجاحه يكون مضموناً. الظروف حينها لم تسعف الاثنين لعمل ذلك الفيلم
وتأجل المشروع، كما يؤكد رمضان، أكثر من مرة، ليأتي
«زائر» ويسبقه في الظهور، وليظل
«احلام صغيرة»
حلماً في نفسيهما، الذوادي ورمضان.
اليوم، والفضل، يعود إلى
الشركة
البحرينية للإنتاج السينمائي، يظهر المشروع إلى النور بعد طول انتظار من
رمضان الذي ترجم صوره المكتوبة
لأخرى مرئية في سيناريو محبوك بدا في الفيلم هو غاية
في البلاغة والتعبير عن كل ما أراد نقله من معان
وقيم. والذوادي الذي يقدمه اليوم
في صورة تحفة
سينمائية بحرينية ثالثة، إن شاء لنا تسميتها كذلك، على الأقل لما
تتميز به من نضج وبراعة إخراجيين. وكثيرون من حملة
الهم السينمائي، الذين يشكل هذا
العمل محاولة
مبشرة لمن يطمحون منهم إلى أن تحتضن البحرين صناعة سينمائية جادة، هي،
وإن قيدتها الإمكانات المادية المتواضعة، فإنها
أولى بها دون كثيرات سواها من دول
المنطقة
لناريخها الحافل في المجال السينمائي.
في «حكاية بحرينية» يرسم رمضان
صورة جميلة
ودقيقة للبحرين في فترة تاريخية حاسمة ومهمة ومفعمة بكثير من التفاصيل
التي صاغت تاريخها آنذاك. الفترة
التي يتحدث عنها رمضان تقع بين منتصف الستينات من
القرن الماضي حتى بدايات أو منتصف السبعينات وهي
فترة دراماتيكية ذات اهمية كبرى في
عمر الأمة
العربية، تحفل بكثير من الإنجازات والانتصارات من جانب وبأكثر من ذلك من
الاخفاقات والانكسارات التي تبدو
تأثيراتها واضحة حتى اليوم على الجسد العربي
المشوه. ولأن
التاريخ يعيد نفسه، بدا واضحاً كيف أن إرهاصات تلك الفترة وانعكاساتها
تكاد تتناسب مع الفترة الحالية
ومع واقع العرب عموماً ثم مع جزء كبير مما تعيشه
البحرين
المعاصرة من حوادث وتجليات.
أبطال القصة هم أسرة ترسم حياتها الحوادث
السياسية
الساخنة حينها وما يصاحبها من أوضاع اجتماعية بدت ذات تأثر كبير بمجريات
الحوادث. ثلاث فتيات وفتى صغير ثم والدة على قدر
عال من الثقافة والحماس اللذين
يتناسبان مع
مستوى تعليمها ووضعها الاجتماعي والحدث السياسي الساخن آنذاك، وأخيراً
أب قاس ما هو إلا نتاج مجتمع
الستينات والسبعينات البحريني.
البطل الرئيسي في
هذا الفيلم،
قد يكون خليفة الفتى الصغير الذي يبدو وكأنه الراوي لمجريات الفيلم أو
عين الكاميرا التي تراقب الحوادث
وتحكي التفاصيل وتتابع الشخصيات. ومنذ البداية
نشاهده وهو عائد من الشاطئ، المكان الذي يتردد عليه
باستمرار مع صديقه سالم لينشدان
فيه شيئاً من
الحرية التي يفتقدانها في الحواري والأزقة والمنازل القديمة، وهي
الحرية المحاصرة بقسوة الأب وضعف الأم التي لا تملك
سوى لسانها تدفع به أذى هذا
الأب وقسوته
عن جسد الصغير. منذ البداية كذلك يبدأ خليفة سرده الحوادث حين يعود من
الشاطئ ليرى فاطمة، أخته، من أم
ثانية، وهنا تفصيل جميل أبدعه رمضان، فوالدة فاطمة
بحسب القصة من الرفاع، وذلك كما يرد على لسان إحدى
شخصيات الفيلم متحدثاً عن فاطمة
بأنها «بنت
مبارك من زوجته الرفاعية»، أما والدة الفتى فهي «عجمية» من المحرق وهي
الزوجة الثانية لوالده.
يمكن كذلك اعتبار فاطمة هي بطلة القصة، ولعلها والدة
خليفة، أو شقيقته الكبرى، وربما هي بطولة مشتركة
تتشارك فيها النساء الثلاث، ويظل
خليفة يراقبها
عن بعد. مهما يكن من أمر، فأن هذه الشخصيات النسائية الثلاث تتفق في
أنها جميعاً شخصيات متمردة أبت إلا أن تكسر الأغلال
والقيود من حولها وتتغلب على كل
الإنكسارات
والهزائم. عودة الى فاطمة، تجبر هذه الفتاة على الزواج ممن لا تحب، في
حين تحرم ممن اختاره قلبها ويظل مخلصاً لها حتى
النهاية، ليخطا معاً اسطورة حب
بحرينية
رائعة. تمكنت الفنانة فاطمة عبدالرحيم والفنان المبدع جمعان الرويعي من ان
يعيشا قصة الحب هذه بشكل صادق ومقنع ونجحا في ان
يشدا اعصاب المتفرج لمعرفة
نهايتهما. على
الاخص الرويعي الذي قدم عدداً من المشاهد الرائع المؤثرة والمعبرة
بصدق عن حالة الإنكسار الشامل التي يعيشها والتي
استطاع نقلها بتحكمة البارع في
عضلات وتقاسيم
وجهه.
فاطمة عروس متزوجة حديثاً، نراها في أحد مشاهد الفيلم
الأولى وهي تركض هاربة من بيت زوجها، يعقوب ابن
عمها، الذي أجبرها والدها وربما
اعراف مجتمعها
على الزواج منه على رغم نفورها منه. وهو نفور عاطفي، وجسدي، وإنساني،
استطاع الذوادي أن يقدمه عبر عدد
من المشاهد بدت على مستوى عال في الإخراج أولاً ثم
في الأداء وأخيراً في الجرأة، لا تجد الفتاة لها
ملجأ آخر سوى لطيفة زوجة أبيها،
الصدر الحنون
والمرأة التي تحمل جرأة لم تبدُ معهودة من نساء جيلها. تحميها الأخيرة
بكل ما تملك وتقف في وجه يعقوب
الذي يلحق بالفتاة في المشهد الأول محاولاً إعادتها
إلى المنزل. بل إنها تقاوم عم فاطمة، الذي يتطاول
عليها وعلى بناتها بالضرب، حتى
يعود رجل
البيت، زوجها مبارك، الذي كانت تأمل منه دفع الأذى عن أسرته لكنه يخيب
ظنها حين يشد فاطمة من شعرها، ثم يلقي بعباءتها
فوقها في مشهد بدا أبلغ من أي كلمات
في تعبيره عن
جزء مما عانته كثيرات من النساء في تلك الفترة.
هكذا تصل فاطمة إلى
طريق مسدود
وإلى حيث لا يمكن لأي أحد أن يرد عنها الأذى، المتمثل في عنف زوجها
النفسي والجسدي، وقسوة والدها ووحشيته، ثم إجحاف
المجتمع، وقبل كل شيء ألم الحب
ومعاناته،
حبها لحمد الذي يبدو وكأن لا مفر منه إلا بالموت. تقرر الانتحار وإنهاء
حياتها البائسة، وتختار الموت حرقا وأمام عيني
زوجها الذي لم يحرك ساكناً ويهب
لإنقاذها وهو
يرى النيران تشتعل في جسدها الشاب، بل ترك الأمر لشقيقه
الأصغر.
بطريقتها الخاصة تتمرد فاطمة على واقعها الأسري والاجتماعي، لتترك حمد،
حبيبها الذي تصبح حادثة الانتحار
هذه منعطفاً حاداً يعيد بعده تشكيل حياته. يحدث
للشاب انقلاب جذري بعد هذه الحادثة القاسية على
قلبه إضافة إلى استشهاد صديقه برصاص
الشرطة إثر
خروجه في إحدى المظاهرات السياسية، هذا عدا عما أحدثته هزيمة العرب في
حرب 67 من مرارة في نفوس العرب أجمعين، خصوصاً من
الناصريين وحملة الهم السياسي
أمثاله.
يترك حمد السياسة والمظاهرات الداعمة للنضال العربي، ويكفر بالشعارات
والعمل النضالي، ويتجه لإدمان
الكحول، ونراه في كثير من المشاهد متسكعاً في الطرقات
حاملاً زجاجة الخمر مشعلاً سيجارته التي لم يكترث
في كثير من المشاهد حتى لأن يذر
رمادها.
في الفيلم حكايات كثيرة وتفاصيل لا تنتهي يستعرض رمضان من خلالها
تأثيرات النكسة على جميع طبقات
المجتمع البحريني آنذاك. لعل أبرز هذه الحكايات تلك
التي تروي قصص النساء الثلاث، فاطمة، ولطيفة زوجة
ابيها الناصرية التي تقضي وقتها
في الاستماع
للأغاني العربية التي تبثها إذاعة صوت العرب، والتي تهدي بعضاً منها
للزعيم جمال عبد الناصر. هذه المرأة هي الأخرى تحمل
روحاً متمردة على واقعها، كروح
فاطمة تماماً،
لكنها تعبر عن تمردها ذاك بطريقة أخرى إذ نراها، وحين تسمع خبر وفاة
عبد الناصر، وهي تخرج من دون وعي
منها في الشارع لتشارك في جنازة وهمية أقامها له
أهالي المحرق، هذا عدا عن مقاومتها الدائمة لظلم
زوجها وقسوته بلسانها، الذي صرحت
لابنها بأنها
لا تملك سواه.
منيرة، الأبنه البكر لطيفة، هي أيضاً نموذج نسائي
ثالث يتمرد على واقعه، حين تنشأ بينها وبين شاب من
الجيران علاقة عاطفية، يرفض لها
الأب أن تتم
لاختلاف مذهب محمود الشيعي عن مذهب الأسرة السني. حين تجد الفتاة نفسها
وكأنها تسير مرغمة لواقع يشبه واقع شقيقتها
المتوفاة، تقرر ان تتمرد على على كل شيئ
فتهرب مع
حبيبها إلى حيث يمكن لهما أن يحصلا على حرية القرار بالآقتران ببعضهما على
اقل تقدير.
فاطمة، لطيفة، ومنيرة ... ثلاث نساء حملن أحلام صغيرة جاءت قصصهن
معبرات عن حال مجتمع بأكمله، مجتمع صغير حمل أحلاما
صغيرة، عملت كل الإفرازات من
حوله سواء تلك
القومية منها أو المحلية على تشكيل نفوس أبناءه وإعادة صياغة تركيبته
الاجتماعية. هن نساء متمردات رفضن قيود مجتمعهن،
وكانت إرادتهن أقوى من كل شيئ،
ولذا أبين إلا
أن يحطمن الأغلال وينتصرن لكرامتهن المهدورة، كل بطريقتها، تماما كما
كان واجبا ان ينتصر مجتمعهن لكرامته المهدورة بفعل
الهزيمة.
ثلاث نساء أبدعت
أدوارهن كل من
مريم زيمان في دور لطيفة، وزيمان غنية عن التعريف، ومواهبها في
الأداء الصادق والمعبر معروفة للجميع. ثم تأتي
فاطمة عبدالرحيم في دور فاطمة،
وعبدالرحيم هي
الأخرى ممثلة لا تقل تألقا وتميزا عن سواها من الفنانات ممن سبقنها
سناً وخبرة، وقد تمكنت من أداء الدور بشكل رائع
ومقنع للغاية. كذلك تتألق شيماء
جناحي في دور
منيرة، الفتاة الصغيرة المتمردة، وشيماء رغم كونها تقف أمام الكاميرا
لأول مرة، إلا أنها تبدو ذات حضور
قوي، وتبدو وكأنها هي أيضا في واقعها متمردة بشكل
كبير على سنوات عمرها القليلة وعلى خبرتها البسيطة
في مواجهة الكاميرا. بالطبع بدا
تمردها ذاك في
تمكنها من أداء الدور المسند إليها بكل براعة، قد تكون ملامح وجهها
ساعدتها الى حد كبير، فالجرأة التي كان واجبا ان
تحملها وان تقنع الجمهور بها بدت
واضحا في
عينان واسعتان تحملان كثير من التحدي والاصرار، هذا عدا عن كونها على قدر
من الجمال وذات مستقبل فني يبعث على التفاؤل.
الذوادي كذلك تألق في هذا العمل
بشكل مختلف
ومميز تماماً، إذ إنه وإضافة لاخراجه الرائع وتمكنه من نقل صورة رائعة
للصور العبقرية التي رسمها رمضان
في روايته والسيناريو الذي أبدعه. اضافة لكل ذلك
تمكن الذوادي
وباستخدامه لأسلوب اللقطة المقربة في التقاط كثير من المشاهد، من أن
ينقل للمتفرج كثير من انفعالات
ومشاعر الشخصية، وبالتالي يأخذه من كرسي المتفرج
لقلب الأحداث، ليجعله شاهدا متفاعلاً متأثرا بكل ما
يدور حوله.
الى جانب ذلك
تتميز موسيقى
الفيلم التي ابدعها الفنان البحريني الشاب محمد قاسم حداد، بقدرتها
المتناهية على التناغم مع كل أحداث الفيلم وتفاصيل
قصصه. الموسيقى كانت قادرة في
كثير من
المشاهد على نقل كثير من انفعالات الشخصيات وعلى شد المتفرج بشكل كبير
لأحداث الفيلم.
بشكل عام، يقدم الذوادي ورمضان، والشركة المنتجة في هذا الفيلم،
تحفة سينمائية بحرينية مشرفة، وباكورة انتاج للشركة
البحرينية للانتاج السينمائية
تبعث على قدر
كبير من التفاؤل والأمل بعودة شيئ من الأمجاد البحرينية القديمة في
مجال الابداع الفني،، هو في واقع الأمر صحوة في
الإنتاج وصحوة في المعالجة نأمل لها
الاستمرار.
الوسط البحرينية
في 13 سبتمبر 2006 |