يحتضن القربة (الجربة) ويبث فيها أنفاسه، فرحه الممزوج بأحزانه. إيقاعات
الطبول المحمومة تشعل وجيب قلبه. يتمايل، يتراقص، ويغمض عينيه، ليبوح عنه
صوت المزمار... ربما يشكو، ربما يغني، يفرح، أو ربما ينشد قصيداً ويبث فيها
نجواه وبهجته... المزمار الذي حل بصوت حنجرته... إنه صوت الحياة منذ نشوئها
على الأرض، تميمة الخلود ضد الفناء. نغماته المتوالدة بين نغمتي الكلارينت
والأبوا وشيء من سليل الناي، القربة البابلية الغارقة في قدم حضارة «دلمون»
تصدح زغاريد وتناجي الحزن النبيل، تنادي الفرح من رحم الاحزان... هكذا نرى
«جاسم» في الدقائق الأولى لفيلم «الشجرة النائمة» يعزف... أتسمعون؟
لعل تلك المعاني تتجسد عندما نتأمل اختيار المخرج «محمد راشد بوعلي»
لموسيقى فيلمه، مع الموسيقار محمد حداد، لتكون بمثابة البطل الوجداني
المعادل للمأساة الواقعية التي تعيشها «أمينة» و «نورة» و «جاسم» و
«عبدالله»... في هذا العمق التأويلي، تكمن حتمية وضع صورة القربة على
الملصق الإعلاني (البوستر) للفيلم، كفاعل بصري يحيل إلى تخييل جدلي بين اسم
الفيلم (الشجرة النائمة) وصورة هويته الذهنية. وكأن تلك الشجرة مسكونة بصوت
الحياة المخزونة في بطن القربة. أو كأن صانع الفيلم يريد أن يقول: انتبهوا،
فمن هذه الشجرة ينثال صوت الحياة... أو حكاية الفيلم ترويها هذه القربة،
تحاول تفسير سر تعمير شجرة نائية في برية قاحلة، وسر منحها الحياة للبشر.
شجرة وطفلة وسر
هكذا، مزمار القربة في كفة، ومكونان أساسيان آخران اتخذا موضع العمود
الرئيس الذي بنى عليه، كاتب السيناريو فريد رمضان، هيكل الفيلم، في كفة
ثانية، أولهما: هذه الشجرة الوحيدة الأسطورية المعمرة، المعروفة في البحرين
باسم «شجرة الحياة»، التي اتخذت مكانة تشبه الملاذ المقدس ـ شعبياً ـ في
العراء. يأتي إليها الملتاعون ويقدمون إليها القرابين... بعضاً من الماء،
باعث الحياة التي تسري في عروقهم، يسقون جذورها ويستمدون منها الأمل وتحقيق
المنى... المكون الآخر: طفلة جميلة ترقد على سرير أبدي يختصر وجودها في عدم
قدرتها على تحريك أعضائها، لتتجمد في عالمها الطفولي بينما جسدها ينمو،
وتراقب محيطها بعينين حزينتين، يبثان أسى لكل من يقترب منهما، لكنها متشبثة
بالبقاء، تماماً كتلك الشجرة الرابضة في صحراء «الصخير» جنوب جزيرة البحرين.
يتماهى المُشاهد مع الإيقاع الهادئ لفيلم يحكي قصة حقيقية عايش المخرج
فصولها، وهو يراقب ما يدور أمامه طوال سني عمره، كما بين عند تقديمه للفيلم
أول مرة على شاشة مهرجان دبي السينمائي في ديسمبر/ كانون الأول 2014، منذ
مرحلة الطفولة حتى اكتمال وعيه بمأساة شقيقته النائمة تحت وطأة الشلل
الدماغي، بينما تختمر لواعج الألم المختلط بالأمل داخل والده ووالدته،
وتترسخ الحقيقة الماثلة أمامه، حيث يتمثل هو في شخصية «عبدالله»، رغم
اجتهاده للخروج بالفيلم من دائرة الذاتية، كما أوضح.
إذن الفيلم يروي قصة أمينة، الطفلة التي جلب قدرها الشقاء لوالدها
والمعاناة لوالدتها المكرسة نفسها للعناية بها، رغم توتر علاقتها بزوجها
الصامت. ومحاولة للتداخل البانورامي مع مكابدات أب وأم، عندما يشتد الألم
النفسي وتكبر حيرة السؤال: لماذا يحدث هذا؟. يقسّم المخرج والسيناريست
الفيلم إلى فصول خمسة، كحيلة سردية تحاول منهجة التراجيديا: الميت. الحي.
يخرج الحي من الميت. يخرج الميت من الحي. البرزخ. وبقدر ما تحمل آلية
التقسيم هذه، وظهور العناوين على الشاشة من تخييل لحظي، بقدر ما تتلاشى في
السرد الفيلمي، بما يحيلها إلى عدم أهميته الموضوعية، بل تطغى عليها حذاقة
التصوير في الكوادر المؤسسة بانتباه وافر بكاميرا محمد مغراوي.
ثيمات وشخصيات أثيرة
وفي كل حال فإن المتابع لأفلام «بوعلي» القصيرة يجد أن ثيماته الدرامية
الأثيرة في «غياب» و«الشارة» و«كناري» و«تحت السماء» و«هنا لندن» قد امتزجت
ببعضها في خط متحد لتصب هنا في فيلمه الطويل الأول. ويجد أنه صهر هواجسه
الذهنية وحرفته الإبداعية في توليفة متجانسة، بعيدة عن الافتعال أو التضمين
المصطنع، وفق قوالب سردية تشير إلى لغة إخراجية خاصة تميل إلى الواقعية
السحرية.
حالات التوق للانعتاق من أوجاع المصير. العزلة والانتظار المشوب بالقلق
والصمت. الحنين لماض محمل بعبق التراث وأصالة الإنسان. مجابهة الموت
بالحياة... كل تلك الموتيفات، الوجدانية الإنسانية، الموشاة بشعرية شجية (Sentimentalism)
تتكرر في موضوعات أفلامه. وتتراءى بجلاء في ميزانسين التكوين النصي لها،
كخيار أساسي في سينوغرافية المشاهد.
شخصية «جاسم»... حيث دائماً وفي أكثر من فيلم من أفلام بوعلي يوجد بطل اسمه
(جاسم)، وبطلة اسمها (أمينة). هذا الجاسم دائم الصمت، قليل الكلام، ومشحون
بالمشاعر: يتأمل، يهذي، يحلق، يتوجع، ينظر في اللاشيء، تهيم روحه في حبيبته
أو أحبائه بعشق صوفي نبيل، يستدعي ماضيه ولا يبكي عليه بقدر ما يدفع
بالمتفرج للتأمل معه. وفي الفيلم يبرع جمعان الرويعي في تقمص هذه الشخصية،
ويؤديها بتأثير بالغ في كل المشاهد التي ظهر فيها، ولاسيما عندما أخذ يروي
لأمينة حلماً رآه في منامه... عندما أراد البوح والتنفيس عن روحه الملتاعة،
في لحظة فرح، لم يجد سوى التعبير بعزفه على القربة. وعندما فرح وأراد أن
يهدي زوجته الحبلى وجنينها القادم إلى الحياة هدية حب، عزف لهما لحناً على
مزمار القربة.
الأدب في قوالب سردية متداخلة
وعندما تأزم قادته الأقدار إلى موضع شجرة الحياة، وهنا سيعبر على ذهن
المتفرج طيف فيلم المخرج الأميركي تيرينس ماليك
Terrence Malick
المعنون كذلك بشجرة الحياة
The Tree of Life .
فكما خاض ماليك في الوجود وسر الحياة والموت، وتنقل بين أزمنة متداخلة وفتح
أسئلة عن الإرادة الإلهية والقدر، فعل «بوعلي» و«رمضان»، باعتبارهما
ثنائياً لا ينفصل في بناء الفيلم، بل ويذهبان إلى العمق الروحي والديني من
خلال شخصية «فردوس»، مريم زيمان، وإلى العمق العقلاني المجرد في شخصية
«سعود»، إبراهيم خلفان، وإلى الإيمان الشعبي بالأساطير من خلال دور إبراهيم
الحساوي وزوجته.
لكن يظل البعد الأدبي الشعري قوياً في تكوين الفيلم، وهو مستمد من الأدبية
التي يتمتع بها كاتب السيناريو الروائي «فريد رمضان» في أعماله الروائية
«البرزخ» و«التنور». فعلى سبيل المثال نقرأ ما يمكن أن نسميه ثنائية الموت
والشجر عند رمضان، في رواية «البرزخ»، التي أصدرها عام 2000 ما يلي:
(الشجرة الضاربة بجذورها في هذه الأرض، جذعٌ ميتٌ، أغصان عارية تتحرك برفق
كلما داعبتها الريح)، ثم نقرأ: (في الأفق تبدو مقبرة المحرق ناهضة بعظام
موتاها، وأنين قبورها عن سطح الأرض المنبسطة. من هنا، حيث دعابة المكان
المتسع لبضعة بيوت متناثرة حتى شاطئ البحر، والبساتين المتباعدة، في هذا
المكان المتسع يمكن لي أن أطلق أسر طفولتي).
وتمتد الأدبية الشعرية في مشهد تأخذ فيه نورة كتاب قصة (في الحديقة
الحجرية) لأمين صالح، وتشرع في قراءتها لابنتها الغافية: (شجرة..شجرتان
تثمران أحجاراً... أشجار، تحت الأشجار اجتمع المتنزهون... شجرة نفضت قامتها
فتساقطت الأحجار. أزاحت عن نفسها كل ما التصق بها من تراب، واكتست بالأوراق
الخضراء. وتراقصت الأعشاب، وارتدت الطيور أجنحتها الزاهية. لقد استعادت
الحديقة رونقها وبهجتها... شجرتان... أشجار... كان مهرجاناً عظيماً). تتجلى
طبيعية أداء هيفاء حسين وإحساسها بالشخصية وتمعن في ترجمتها بلغة جسدها
وتعابير وجهها وحتى بنبرة صوتها عندما أخذت تناغي أمينة: حبيبتي إنتي، قلبي
إنتي، حياتي...
في الفيلم تمتزج الواقعية بالحُلمية.. يقوم جاسم بتوصيل رجل (إبراهيم
الحساوي) وزوجته إلى شجرة الحياة، وبينما هو هناك مع الرجل الذي قام بسقاية
الشجرة، تحدث المعجزة مع نورة، إذ تتوهم أو تحلم بأن أمينة قد شفيت وقامت
تلعب في الحديقة بينما ماء المطر يبللها، تزامناً مع قيام الرجل بسقي
الشجرة، وهي التي رفضت محاولة علاج ابنتها بماء مبارك، فالمعجزات أكبر من
ذلك.
وأيضاً تختلط الواقعية بالتخيلية... قرب شجرة الحياة، نرى عبدالله حاسر
الرأس، يزف أخته أمينة وهي بملابس العروس البيضاء، كما في المشهد الافتتاحي
وهما متجهان إلى الشجرة، ومن بعيد، يتوقف جاسم عن العزف وتظل آلة الجربة
تخرج ما فيها من هواء بينما نورة تراقب معه ابنيهما.
وتلتحم الواقعية بالفنتازيا... في المشهد الأخير نسمع صوت الموسيقى يأتي من
الخارج، ثمة فرح، وجاسم يسأل: تسمعون؟. يخرج من المنزل ليتبع الصوت، فيجد
حفل زواج، وعندما يبدأ العازفون بدق الطبول يأخذ الجربة، ويبدأ بالنفخ،
فيخرج الصوت واضحاً قوياً، بينما سعود يبتسم، لأن العقل والمنطق الذي يدفعه
لعيش الحياة بكل ما فيها قد انتصر، ومن ثم يدخل جاسم حلقة الرقص مع
الراقصين والعازفين. فيما تقف نورة مع النساء ينظرن إليه يصفقن وتصفق معهن.
استمر جاسم بالعزف فرحاً في نشوة تامة ودموعه تملأ عينيه، وعندما شاهد ابنه
عبدالله ممسكاً بيد أخته أمينة التي أصبحت شابة، وهي في ملابس العروس،
ويتقدمان نحوه، واصل العزف بحرارة أكبر، كما ظهر في بداية الفيلم، عزف
حولهما ولهما ومعهما، فالحياة تنتصر بالبهجة من جديد.
إلى أي مدى نجح الفيلم في خلق رابط بين الشجرة والطفلة والماء والقربة وسر
الحياة؟، هذا التساؤل هو ما سيجد المشاهد نفسه واقعاً فيه تحت علاماته
الاستفهامية، وهو السؤال الذي سيترك طنيناً داخل أذن المشاهد، كلما سمع
مزمار القربة... أتسمعون؟ |