تبدأ، بعد ظهر اليوم،
العروض التجارية لعدد من الأفلام الجديدة، بينها: «عدّاء الطائرة الورقية»
لمارك
فورستر (تمثيل: خالد عبدالله وهامايون إرشادي وسعيد طغماوي) في
صالات «سينما سيتي» (الدورة)
و«أمبير سوديكو» و«غالاكسي» (بولفار كميل شمعون) و«غراند سينما أ ب ث»
(الأشرفية)
و«غراند سينما كونكورد» (فردان)، و«رامبو 4» لسيلفستر ستالون (إخراجاً
وتمثيلاً) في صالتي «غراند سينما أ ب ث» و«غراند سينما كونكورد».
هذا فيلم
جميل: بساطته تدفع المُشاهد إلى متابعة تفاصيل مضمونه العميق المنسوجة
بجملية
واضحة. سلاسته أفضل من أن يُكتَب عنها حرفٌ واحد. ممثلوه بديعون، صغاراً
وكباراً
على حدّ سواء، لأنهم ذهبوا بأدوارهم إلى أقصى حدودها التعبيرية
بعفوية وسلاسة،
جاعلين منها مرايا الذات والتحوّل المجتمعي وبؤس العيش في قسوة الآنيّ
والذاكرة
معاً. إضاءته مشوّقة باعتماد تلاوين متفرّقة لحالات وحكايات ومناخات.
توليفه سلس.
حبكته متينة. تقنياته الأخرى لا تقلّ أهمية عن قصّته ومسارها الدراميّ
وآلية
معالجتها
الفنية. موسيقاه جميلة أيضاً.
قوة
التعبير الجمالي
لكن، أيُعقل أن
يكون الفيلم كاملاً إلى هذه الدرجة، أم هي رغبة دفينة في ابتكار نمط ما
للتمتّع
البصريّ بأقدار أناس عانى بعضهم ضعفاً وباتوا على تخوم الوجع الدائم، وعاش
بعضهم
الآخر انكساراً وخيبة ووجعاً من دون أن يتخلّى عن المعنى
الأجمل والأسمى للصداقة
الحقّة؟ أأُبالغ إن قلتُ إن «عدّاء الطائرة الورقية» لمارك فورستر يكاد
يكون أحد
أجمل الأفلام القليلة التي شهدتها الصالات اللبنانية في العامين الفائتين،
أم إن
قوّة التعبير الدرامي، الذي أبدع في تقديم تلك الجماليات شكلاً
ومضموناً في وقت
واحد، لعبت دوراً بارزاً في جعل الفيلم أقدر على التأثير الانفعالي في ذات
المُشاهد؟ لا ضرر في شيء من المبالغة، ما دامت الكتابة هنا لم تبلغ بعد
مرتبة
القراءة النقدية المجرّدة، إلى حدّ ما، من أي عاطفة أو انفعال.
ذلك أن عدد الأفلام
القادرة على إثارة هذا الكمّ الهائل من المشاعر الذاتية، والمعروضة محلياً،
لا يزال
قليلاً، ما يدفع المُشاهد المهتمّ بالشأن السينمائي وبدلالاته الإبداعية
إلى قول
كلمة انفعالية، قبل أن يغرق في تعليق نقديّ «موضوعي». ثم إن
فيلماً يتوغّل في أعماق
التحوّلات السياسية والمجتمعية والثقافية والنفسية في أفغانستان، منذ ما
قبل
الاحتلال السوفياتي إلى ما بعد مرحلة «طالبان»، بهذه الشفافية الإبداعية
الجمالية
اللافتة للانتباه في رسم ملامح البيئة وتحوّلاتها، تحرّض
المُشاهد المهتمّ على
إبداء قول عاطفي، قبل أن تتمكّن منه لغة النقد.
غير أن لغة النقد لن تبتعد
كثيراً عن لغة العاطفة. فالفيلم جديرٌ بالمتابعة الجدّية القادرة على حثّ
المُشاهد
على طرح أسئلة متفرّقة، تنطلق من المعنى الإنساني للصداقة
والبنية النفسية والجسدية
للمرء، وتبحر في جوانب مختلفة من الحياة اليومية بمتفرّقات عيشها
وانقلاباتها
وتناقضاتها. والنصّ السينمائي، الذي اقتبسه السيناريست ديفيد بينيوف من
رواية خالد
حسيني، مشبع بهذا البهاء المفتوح على وحشية اليوميّ، وبهذا
القلق المرتكز على صدمة
اللحظة المنذورة للخيبة والانهيار. ذلك أن سلاسة السيناريو لا تلغي عمق
تناقضات
المجتمع والبيئة والذات الفردية والواقع الإنساني، في حين أن الواقع
الإنساني نفسه
مليء بالأسئلة الوجودية والفكرية والجمالية المُقدّمة بشفافية
ساحرة وببساطة تحتضن
في
طياتها عمقاً وتكثيفاً بصرياً ودرامياً. أما الشقّ السياسي، فحاضرٌ من دون
تنظير
أو
خطابية ساذجة. وأما الشقّ الإنساني، فقابعٌ في صلب الحبكة المشغولة أصلاً
على
أساس بسيط وعاديّ، حول صبيين صغيرين ارتبطا بعلاقة صداقة متينة
«إلى درجة الأخوّة»،
على الرغم من أن أحدهما ابن صاحب القصر (سنّي) والآخر ابن خادمه (شيعيّ)،
قبل أن
يؤدّي ضعف شخصية الأول إلى التنصّل من أحد مرتكزات الصداقة هذه، عندما
تخلّى عن
صديقه في واحدة من المحن الصبيانية التي أنزلت اللعنة على
الصداقة، تماماً كاللعنة
الحمراء التي مزّقت جسد أفغانستان وفتحت أبواب الجحيم كلّه على بلد عاش
تقلّبات
مدمِّرة منذ لحظة سقوطه في قبضة الوحش السوفياتي. أما «الطائرة الورقية»،
فهي
اللعبة التي جعلت أولاد كابول يتنافسون فيما بينهم من أجل
تحقيق انتصاراتهم الأخيرة
على بعضهم البعض، والتي وطّدت العلاقة القائمة بين الصبيين الصديقين
الأخوين حتى
اللحظة الأخيرة، وهي اللعبة نفسها التي شكّلت لحظة الافتراق العبثيّ الحاد.
إنها،
بمعنى آخر، الخيط الرابط مساراً دراميّاً مشبعاً بتحوّلات
المجتمع والناس
وبانقلابات القدر.
لعنات
إنها اللعنة نفسها التي لحقت بابن صاحب القصر، مع
أنه سعى في بلده الجديد (الولايات المتحدّة الأميركية) إلى
تأسيس مرحلة أخرى من
حياته، قبل أن يُعيده الماضي الأليم إلى متاهاته السحيقة وذنوبه القاتلة،
مضافاً
إليها ما آلت إليه أحوال الآنيّ، عندما باتت أفغانستان لعبة سائغة بين
أنياب وحش
اسمه «حركة طالبان»، الذي أحكم قبضته الدموية والإرهابية على
المجتمع والناس. إنها
لعنة الإثم المعلّق في الذات العاجزة عن التحرّر من بطش الإثم نفسه وقوة
تحطيمه،
إذا لم يغتسل المرء بلهيب ناره ويتطهّر من جحيم هذه اللعنة به (أي
بالجحيم). إذا
ظنّ أحدهم أن «عدّاء الطائرة الورقية» سياسيٌ بحت، فهو مخطئ،
إلاّ إذا اعتبر أن
السياسة فعل عيش وممارسة حياة وأسلوب تعاط وثقافة يومية ولغة حوار، لأن
الفيلم
الجديد للمخرج السويسري الأصل مارك فورستر يُصبح سياسياً بامتياز في هذه
الحالة،
لأنه نأى بنفسه عن السياسة المباشرة، ولم ينتقد الاحتلال
السوفياتي ونظام طالبان
بشكل مباشر، بل غاص في التشعّبات المعقّدة لتحوّل البلد وإفرازات هذا
التحوّل من
خلال قصّة صداقة حُكم عليها بالموت قبل أن يبعثها الموت حيّة من جديد.
هذا كلّه
بلغة سينمائية متماسكة، نصّاً وسياقاً ومعالجة وتقنيات. فالفيلم المستلّ من
وقائع
مُعاشة، والمشغول بحرفية لافتة للانتباه تشدّ المُشاهد إليها لساعتين
متتاليتين،
مسبوكٌ بقالب سينمائي جميل ومتماسك. والقصّة تكاد تكون عادية،
لولا قدرة الصنيع
الفني الإبداعي على معاينة أعوام مديدة من التناقضات. إنها قصّة ولدين
صغيرين عاشا
صداقة جميلة قبل أن يتعرّض أحدهما لاغتصاب مجموعة من صبيان
الحيّ المتسلّطين، لأنه
التزم دفاعاً قوياً عن صديقه وعن طائرته الورقية، أمام عينيّ هذا الصديق
العاجز عن
القيام بواجب الصداقة دفاعاً عمن ضحى بجسده وروحه من أجله من دون أن يتفوّه
بكلمة.
ولأن قوّة الصدمة زادته ضعفاً، لم يستطع ابن «الذوات» أن يتعايش مع خيبته
وألمه
وبؤسه
الروحي وشقائه النفسي، فسعى إلى التخلّص من ابن الخادم ووالده بكذبة أفقدته
آخر معاقل صموده أمام رياح المتغيّرات المقبلة بوحشية على منزله العائلي
وبلده. فقد
أدّى به غزو الجيش السوفياتي كابول إلى المنفى مع والده، حيث
جاهد الأب من أجل حياة
كريمة. لكن الماضي حاضرٌ ما دام المرء لم يتصالح معه من خلال المصالحة مع
الذات.
ذلك أن هذا الصديق القديم حافظ على الرونق الأجمل للصداقة، ولم يجد غير
رفيق عمره
الطفوليّ ملجأ لحماية ابنه من ورطة العنف الطالبانيّ الذي أودى بحياته لأنه
قرّر،
مرّة أخرى، أن يحصّن تلك الصداقة من خلال دفاعه المستميت عن
المنزل نفسه، أي عن
العائلة التي عاش في كنفها.
في الولايات المتحدّة الأميركية، جانبٌ آخر من
المنافي الأفغانية. فالتقاليد الاجتماعية والدينية صارمة،
والأب المثقف والثري
سابقاً أصرّ على ابنه أن يحترم تلك التقاليد، عندما لاحظ هيامه بابنة جنرال
أفغاني
سابق. لكن الحبّ أقوى من أي شيء آخر، والكتابة أداة إضافية منحت الشاب
زاداً
لمواجهة الأيام وتقلّباتها.
إنه فيلم عن الصداقة والحب والموت والمنافي والخراب
والخيبات. إنه عن أمور كثيرة أخرى، في السياسة والاجتماع
والعلاقات الإنسانية.
لكنه، قبل
أي شيء، فيلم عن معنى الكتابة السينمائية وعن آلية صنع جمالياتها.
السفير اللبنانية في 21
فبراير 2008
|