بحثاً عن ممثل عباس بيضون |
فيما اخذت الغيبوبة أحمد زكي راح الناس في التليفزيونات والاذاعات والصحف يقولون كل شيء عن النجم. في الجنازة قال احدهم ان لم يبق قول لقائل. لا تعرف حقاً إذا كنا استنفدنا حقاً خبر الممثل الراحل ولم تعد هناك زيادة لمستزيد. لا نعرف حقاً إذا كان الكلام بدأ في أحمد زكي اساساً، في أحمد زكي او سواه. فما نظنه احيانا صفوة القول ليس إلا الذكر المكرور المعاد، ثم ان ما يقال ليس دائماً مما يستحق الذكر وليس دائماً مرضياً او مفيداً، فثمة ما يمكن ان ندعوه تواتراً، اي كلاماً يجري فيه السابق على اللاحق، ويأخذ الجديد بتلابيب القديم. فلا نعلم إذا كنا حقاً احطنا بكل شيء أم اختصرنا المسألة كلها الى بضع صفات وبضع عبارات، حصرناها فيه حتى بات كل طارئ على الكلام لا يفعل سوى ان يعيد ويحسب انه هكذا قال المقصود والكافي. خذ مثلاً هنا الكلام عن الصدق والعفوية، اغلب الظن ان هذا ما يدرج قوله في كل فن وفي كل فنان، وهو لفرط ما يتواتر لا يتوقف عنده ويحسب قائلوه ان فيه الكفاية، وانه واضح بنفسه تام بها ولا يحتاج زيادة او تفسيراً. الحق ان ليس اصعب من ان نحدد الصدق والعفوية في اي فن، فالفن تمثيل والفن خلق والفن خيال والفن لعب، وهذه جميعها لا نعرف كيف تكون صدقاً وكيف تكون عفوية. والامر اصعب حين يتعلق بمهنة كمهنة الممثل، الممثل يؤدي كل شخص الا نفسه، فهو يخرج ليكون حيالها إنساناً آخر وسيجيد بقدر ما يتجرد من حاله وبقدر ما يتقمص غيره وبقدر ما يخترع من جسده وذاته جسداً ليس له وذاتا لسواه. كيف يسهل ان نتكلم في امر كهذا عن الصدق والعفوية، وفي مأثورنا ان الصدق صدق النفس وان العفوية ان يكون المرء نفسه بلا تقصد ولا ادخال ولا زيادة. مع ذلك لم نسمع في أحمد زكي كلمة في نعته كما سمعنا العفوية والصدق. وبعد هذا هل يكون في مقدورنا حقا ان نكتفي مما قيل ونظن ان لم يبق ما يقال. لا نعرف مع ذلك كيف يتواتر الكلام وكأنه موجود على نحو ما في وجدان عام، يخرج متطابقاً ومتردداً صانعاً بذلك نوعاً من خطاب مشترك وشبه شعبي حول الرجل. لا يخرج متكلم عن هذا النطاق ولا يقول عكسه، لقد غدا بداهة لا ترد ومضمراً في كل حديث. الغريب انني سألت ثلاثة مخرجين ممن اثق بجديتهم عن أحمد زكي، لم يكن للثلاثة قول واحد لكنهم جميعاً بدوا خارجين على <<الاجماع>> وحتى غير دارين به. الثلاثة قالوا انهم لم يجدوا فيه ممثلا خارقاً، احدهم قال انه في النهاية سليل المدرسة المصرية في السينما وهي مدرسة لا تزال مع تعديلات طفيفة في مناخ يوسف وهبي، الآخران قالا ببساطة انهما لم يحبا تمثيله المبالغ في تمثيله. احدهم قال ان التقليد ليس هو التمثيل وأن زكي في فيلمي ناصر والسادات دل فقط على موهبته في محاكاة الاثنين وليس هذا بالضرورة منتهى الفن بل ليست هذه هي السينما اليوم. ان اداءً كهذا ينتمي الى بدايات متخطاة والى تاريخ لم يعد راهنا. لا اتبنى حديث مخرجيّ الثلاثة لكني لا استطيع ان اتجاوز عنه، او رده لأقول ان الخطاب الذي نظن انه جمع فأوعى ليس تمامآً كذلك، فأيا كان نصيبه من الصحة فهو سريع وهو شعبي اي انه ابن المزاج والميل الى الاشتراك والتواطؤ بل التطابق، وهو بالتأكيد غير عالم ولا نقدي. لا اتبنى حديث او احاديث مخرجيّ الثلاثة لكني لا اخفي غبطتي بوجود نظر آخر، لكنه نظر غير مهتم فالثلاثة فيما اظن تعففوا عن قوله، ولعلهم لولا سؤالي لم يصرحوا به حتى لأنفسهم. إذا كان أحمد زكي مالئ الدنيا وشاغل الناس فليست هذه دنياهم ولا هؤلاء ناسهم، وسيتركون التليفزيونات والاذاعات والصحف لحالها. الارجح ان السينما هذه ليست سينماهم اساساً، السينما بالنسبة لهم في مكان آخر ومهما كثر اللاغطون في السينما المصرية وأحمد زكي فإن هذا لا يعنيهم اكثر مما تعني العمودية الشعراء الحديثين والرسم الكلاسيكي فناني اليوم. هل الامر هكذا؟ هو كذلك بالنسبة لهم. حين يقول لي مخرج احترمه ان هذه هي مدرسة يوسف وهبي لا اشك، انه لا يرى في أحمد زكي اكثر مما أراه أنا في محمد التهامي الشاعر المصري التقليدي. اشعر شخصيا بالظلم، ولا اعرف كيف اصف موقفاً كهذا، التهامي غريب في سربه وليس بالتأكيد طاغياً ولا سائداً، وليست هذه حال أحمد زكي. إذا كان أحمد زكي سليل يوسف وهبي فهذا يعني ان لا أمل في سينما لها ما لها وعليها ما عليها، ونظن ان تاريخها ليس واحداً، وانها بخطوة الى الامام وخطوتين او ثلاث الى الوراء فعلت شيئا. اشعر بالظلم، اظن ان أحمد زكي أُخذ بتاريخ للسينما موصوم، او اشعر على الاقل انه حوكم بدون عدل كاف ولا محاكمة كافية. مع ذلك، حين اذكر ان الرجل طالما وصف بشيء كالعفوية والصدق افهم ان كلاماً كهذا يمدح بلا مديح، او يمدح حين يظن نفسه يمدح. ما يمكن تعميمه الى هذا الحد لا تعود له صفة ولا نعرف اذا كان فيه بقية من معنى ليصح اعتباره مديحاً او نقداً. الأرجح ان العفوية والصدق ممدوحان في كل شيء. انهما من ثقافة كليشيه تقوم الالفاظ فيها بذاتها ولا تحتاج الى نعت او تفسير. ما أدراك ما مرجع ذلك في ثقافة لا تزال تمدح الفطرة والنسب الصريح والاصل ولا تقر بأن العالم يتجه عكس ذلك، اي يتجه اكثر فأكثر الى الارادة والهجنة والتركيب والتزاوج. ما ادراك ما تعني العفوية والصدق مثلاً إذا اطلقتا على العلم مثلا او على البحث او على التفلسف او حتى على الفن نفسه. نقاد من هذا الصنف لا ينتبهون ان كلاماً كهذا لا يستقيم مع تاريخ الفن ولا مفهوم الفن، إذ لا يمكننا ان نجد في تاريخ الفن مسار عفويات وصدقات، ومن ينظر في هذا التاريخ يجد ان الحيّز الأكبر هو للاجتراح والصناعة والتركيب. ثم اننا لا نعرف في مسألة الصدق إذا كان المقصود هو الاخلاق او الفن نفسه. نستغرب ان يكون هذا كلامنا في ثقافة قيل في بداياتها كلام من نوع <<اعذب الشعر اكذبه>>، ناهيك عن وصف القرآن للشعراء بأنهم في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون. اجتماعيات الثقافة لم يقل كل شيء إلا في حيّز التعازي وآداب الحداد واجتماعات الميديا والثقافة، ما يسميه رجيس دوبريه الميديالوجي يتجلى هنا في ابسط صوره وأكثرها مباشرة. الحقيقة انه لم يُقل شيء مهم على الاطلاق عن أحمد زكي ولا عن عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وسعاد حسني ومحمد عبد الوهاب. ما يقال الى الان هو غالباً في نطاق ذلك الخطاب المحصور الشعبي ولا يقال ابداً في سياق تاريخ فعلي للسينما والموسيقى. توفي أحمد زكي وهو يمثل دور عبد الحليم حافظ، ولعل في هذا اشارة مكتنزة. الاثنان استحقا تسمية فنان الشعب، تسمية تعني في الغالب تحول الفن الى طبقة وسطى جديدة ومتنامية. كما تعني مزاجاً انتقالياً يعكس ذلك التعاطي المعقد بين الريف والمدينة، كما يعكس التكوين الخليط الذي يصعب تحديده للمدينة العربية. كلاهما عبر عن دينامية جديدة لكنها واعية على نحو شقي لحدودها و<<معلقة>> في قيمها وحساسيتها. يهم كثيراً من هذه الناحية الخطاب الذي يتكون حول كل من الاثنين. قد يكون نعت <<الأسمر>> المنسوب لكليهما اكثر من ذكر للون، ففيه ما يُردّ الى الشعب، الى ابن البلد والى <<جماليات>> الوسط المديني الجديد. لم يكن لسمرة أم كلثوم مثلاً اثر في اسمها. اخشى ان ما نحتاجه فعلاً هو ان نعرف ما حدث في السينما المصرية وهل هي حقاً لم تغادر كثيراً نقلة السينما الصامتة الى الناطقة، ولم تغادر تلك الصوتية المفتعلة والأغراب التمثيلي اللذين ميزا اداء يوسف وهبي. هل نحن باختصار في ما قبل السينما ولا نزال نعدل ونبدل دون ان نعبر الى السينما حقا؟. كل ذلك بالتأكيد يحتاج الى تاريخ فعلي، تاريخ لا ارشيف، فالارشيفات كثيرة والارشيفيون كثر. مع ذلك فإن نظرة ترى اننا لم نغادر الى السينما هي نظرة لا تزال ترى السينما في مكان آخر، وأظن انها هي الاخرى باتت بائدة الى حد. لا نشك ان السينما قامت هناك كما قام بدرجات اقل أو أكثر المسرح والأدب، لكن النظر الى المثال الغربي على انه المعيار قد يؤدي الى ان نفترض، الى الأبد، اننا لا نزال قبل كل شيء. واننا لم نصل بعد لا الى السينما وحدها ولكن الى الرواية والشعر والمسرح والتصوير وكل فن آخر. ناهيك بالطبع عن الفلسفة والفكر والعلوم الإنسانية والحديثة حيث يمكن الجزم بلا حرج ولا تأنيب بأننا لم نخطُ بعد. شعور كهذا ينتابني حين أرى على الشاشة نور الشريف مثلاً وهو لا يكف كل حين عن أن يبتسم بعينيه المزمومتين تلك الابتسامة الطيبة وينطق بصوت وخشوع المثال النمطي لابن الطبقة الوسطى الطيب في قرارته، حتى ولو شطح قليلا. وما اسمعه دائماً هو تلك القرارة التي لا تتبدل والتي تكشف رغم المظاهر عن معدن اصيل. ينتابني حقاً الاحساس اننا لا نزال تقريباً قبل السينما وانني امام شخصية كراكوزية مضادة. فشخصيات الكراكوز في الاساس لعوب وشاطرة. شخصيات نور الشريف يتقدم صوتها عليها وتظهر دائماً تبعا لحقيقتها المفترضة وجوهرها الثابت لا ظرفها ولحظتها وتفاعلها مع نفسها وزمانها ومكانها. اقول عندئذ ان الشيء نفسه يحدث حين تعبر عينا وصوت محمود المليجي عن دخيلته الثابتة وتكشف للمتفرج حقيقته الباطنة التي يفترض انه يحاول ان يخفيها بأدائه. عندئذ تبدو السينما وكأنها تقدم جواهر وماهيات لا سلوكا وتصرفات وردوداً. افترض اننا هنا لم نتجاوز كثيراً بدايات السينما، او ان سينما الجواهر هذه لا تتطلب شخصيات وأدواراً، فهذه امثلة وتجسيدات. ما تتطلبه هو النمط والعبرة بل المحاكمة الاخلاقية الضمنية والممثل والتمثيل طارئان على النمط والعبرة والمحاكمة. المتفرج يرى حقيقة الممثل التي لا يراها هو، والمتفرج يتعامل مع هذه الحقيقة، اما التمثيل فهو <<الحكاية>> الضرورية لايصال كل ذلك وتجسيده. احسب ان الأمر كذلك حين نشاهد محمود ياسين، بل حين نشاهد فاتن حمامة ايضاً وشكري سرحان وما يمثله هؤلاء من اتجاه سائد في السينما المصرية، دعك بالطبع من يوسف وهبي وجيله. والسؤال إذا لم تكن هند رستم مثلاً استثناء او على الاقل شقاً في الجدار. إذا لم تكن شادية في بعض احوالها اختلافاً ما. إذا لم تكن سعاد حسني هي ايضا انعطافاً إذا لم يكن أحمد زكي في النهاية مثلاً آخر. اميل بدون علم وبمجرد انطباع الى حكم كهذا. اذا كان نور الشريف ومحمود ياسين يواصلان عماد حمدي فلأن السينما تربي الجمهور ايضا ولأن عماد حمدي راسخ في ذاكرة الجمهور السينمائية ونجاح الاثنين الكبير هو الدليل. ما يفعله الاثنان هو تمثيل التمثيل. هما لا يمثلان نفسيهما وان بدا انهما يكرران ويتكرران. يمثلان في الواقع نمطاً مما قبل السينما، لا يمثلان نفسيهما ولا يمثلان في الاساس، انهما يؤديان فحسب. صنيعهما قريب من صنيع دمى المسرح نفسها. هذا كله بعيد عن مدرسة في التمثيل تقضي على الفنان بأن يرجع الى ذلك <<التمثيل>> الدائم الذي يلامس تصرفاتنا في الحياة والذي لا يبدو عليه انه تمثيل فعلي اكثر مما يرجع الى المسرح الذي لا يزال يفسح للتمثيل حيّزا مستقلاً. تمثيل كهذا سرعان ما يستمد من الشخصية الاصلية للفنان نفسه ويستوفز هذه الشخصية بحيث اننا في الدور نفسه لا نزال نشعر الحضور الشخصي. كذلك هو الأمر مع مارلون براندو، وليس الأمر هو نفسه تماماً مع جاك نيكولسون الذي يستوعبه الدور بحيث لا نجد صورة او ذاكرة عن شخص الممثل نفسه، ما بين مثل نيكولسون وبراندو نجد انفسنا امام فنين إذن. الاول يشد باتجاه الدور والثاني باتجاه الشخص. أين هو أحمد زكي من كل ذلك، لا اظننا نعدل اذا وضعناه ببساطة في عداد نور الشريف ومحمود ياسين. مثّل أحمد زكي بدون شك بعضا من افلام النمط الدمية. كانت له ادوار ابن الشعب الطيب او الشرير المعلن، لكن هذا ليس حاله دائماً، فالسينما الجديدة في مصر ولو انها ورثت النموذج الشعبي ونموذج الطبقة الوسطى الرثة لم تكن سينما جواهر ولا انماط دمى. لقد وعت اكثر الالتباس الذي يتكون في داخل الوسط المديني وهو التباس سيكولوجي بقدر ما هو اخلاقي وسياسي. لا شك ان هذه السينما تعرضت ليساروية مضرة احيانا، لكنها ايضا كانت سينما الاحوال المعلقة والشخصيات القلقة المتنازعة. كان أحمد زكي بدون شك اعظم وأهم ممثلي هذه السينما وأدواره الاقوى هي ادوار النموذج الشعبي (الرث والمتصعلك والمتوسط) هذه الادوار لم يكن زكي فيها مؤديا فحسب بل فاعلاً، لقد اعاد الاعتبار للتمثيل بوصفه حقيقة لا قناعاً مكشوفاً وخادعاً للحقيقة. اعاد الاعتبار للتمثيل وأعاد الاعتبار للنموذج الشعبي نفسه فبكسر نمطيته وكراكوزيته اخرجه من واحديته وفتحه على صور وضروب لا تحصى. من هنا غزارة ادوار أحمد زكي الذي ظل افضلها في هذا النطاق. الارجح ان أحمد زكي لم ينل النجاح نفسه في ادوار اخرى وإن بدا غير ذلك فدوره في <<زوجة رجل مهم>> فقير مدع وليست هذه هي الحال في <<حكاية هند وكاميليا>> مثلاً، لقد جعل زكي النموذج الشعبي يتفتح بكل امكاناته وتنوعه. لا يقاس ذلك دائماً بالنجاح الجماهيري ففيلماه عن <<ناصر 56>> و<<السادات>> هما فيلما حرفة قوية ولكنهما فنيا لا يقاسان ب<<موعد على العشاء>> و<<شفيقة ومتولي>> و<<الراعي والنساء>> اذا لم يكونا من هذه الناحية تراجعاً. كان مع ممثلي يوسف شاهين الذين يختفون تقريباً بمجرد تركه الاستثناء الابرز في السينما المصرية. اما ممثلو يوسف شاهين فكانوا في ادارته يعودون الى ذلك التمثيل الحياتي الذي لا يشبه كثيراً التمثيل. نجحوا في ذلك لكنهم بقوا تلاميذ نجباء ولم يمتلكوا من الحضور ما يجعلهم يطيعون اشخاصهم ويتجاوزون مخرجهم. أما أحمد زكي فاتجه الى تمثيل هو كما قال بعض نقاده عن حق، تأليف للنموذج. سنتكلم هنا عن مثل يشبه مثل نيكولسون. نوع من امحاء في النموذج وتفجير له. لا تترك افلام أحمد زكي كما لا تترك افلام نيكولسون ذاكرة عنه، هذه هي الحال تقريباً في افلام هوبكنز رغم ادائه المتقارب. هؤلاء غيلان تمثيل. وقدرتهم الفعلية هي في ان يلعبوا. قضى أحمد زكي 16 عاماً من حياته في فندق، والارجح ان حياته الشخصية لا تقول عنه اكثر من افلامه. انه هذا التمثيل الذي يغدو بسبب ابتلاعه للحياة حياة اخرى. أفي وسعنا ان نتكلم بعد عن العفوية ام انه من الاجدر ان نخرج من أدبيات الحداد. السفير اللبنانية بتاريخ الأول من أبريل 2005 |
أحمد زكي والدفاع بالكوميديا عبد الغني داود إن الممثلين عموماً أرادوا أو لم يريدوا، لا يستطيعون جميعاً أن يضحكوا. فموهبة الإضحاك ليست متوفرة لدى الجميع، لدرجة أن بعض الممثلين المتفوقين يفشلون في التمثيل الكوميدي بشكل يدعو للأسف والشفقة، لأن من المخاطرة أن يجعلوا الرجال الوقورين يضحكون. وعندما نقول إن أحمد زكي (من مواليد 18 نوفمبر 1949) قادر على إثارة الضحك في بعض أفلامه، فإن ذلك يرجع إلى استعداداته الخلقية وإلى أصالته التي لا يمكن اعتبارها أمراً بسيطاً أو نوعاً من التكيف جاء عرضا. إن ذلك وسط عائلة الممثلين له مكانه الخاص، وأحمد زكي يبدو واعياً أو غير واع بمعرفة أساليب صناعة الفن الكوميدي، ولأساليب صناعة الضحك، إذ إن لديه ما يسمى بالمرونة المرحة والحيوية السعيدة، وامتلاكه لملكة الحضور، ونؤكد هنا أن هناك فرقا بين الضحك السوقي، وبين الضحك الذي يهز العواطف بخاصيته الجمالية عند أحمد زكي، ويرى البعض أن القلق الفني العاصف هو النبع الذي ينضب ويستمد منه أحمد زكي القدرة على التجديد والتطور، وهو القلق المرضي في بعض الأحيان الذي كان يدفع الفنان إلى حافة التوحد الكامل مع الشخصية التي يقوم بها، وهو كذلك وراء ذلك التنوع الهائل في الأدوار التي جسدها. من هنا أتصور أن الضحك وأحياناً الهزل هما دفاعان طبيعيان ضد القلق والشعور بعدم الأمان، وعند سؤال أحمد زكي هل تضع نصب عينيك الجائزة أو الجمهور عند تجسيدك لشخصية ما؟ رد قائلاً (لا جمهور ولا جوائز ولا فلوس ولا البيت، أنا عندما أدخل الاستوديو أكون الشخصية التي أؤديها فقط، لأن الفنان لو فكر في شيء غير الشخصية، لا يركز في أدائه، وتحدث <<شوشرة>> على إبداعه)، وهو الأسلوب الذي جعل الناقد الراحل سامي السلاموني يقول عنه في مجلة <<الكواكب>> عام 1982 تعليقاً على أولى بطولاته في فيلم (العوامة 70) (يحمل أحمد زكي هذا الينبوع الذهبي الأسمر المتفجر فجأة في صحراء التمثيل السينمائي القاحلة عندنا، هذا الفيلم كله على كتفيه في نوع جديد من الأداء الداخلي الذي يبدو خافتا على السطح ولكنه يعكس مشاعر وانفعالات وعذابات (هاملتية) شديدة التعقيد تجعلنا نقول دون أن نخشى شيئاً إن هذا الدور بالإضافة إلى دوره في (طائر على الطريق) هما لون جديد تماما على الأداء السينمائي في مصر يكاد يقترب من أسلوب (استوديو الممثل) عند كازان حتى ولو لم يكن أحمد زكي نفسه مدركاً لذلك). ومن بين أفلام أحمد زكي الثمانية والخمسين تستوقفنا في الكثير منها الإمكانيات الكبيرة له في الأداء الملهاوي الراقي والخفيف الظل، ونلمح براعته في استخراج الضحكة أو الابتسامة، رغم أننا لا نستطيع أن نقسم تلك الأفلام إلى نوعيات محددة، فغالباً ما يحتوي الفيلم سواء كان مأساوياً أو ملهاويا، على مشاهد ولمسات ملهاوية يطلق عليها في المأساة (التخفف الملهوي comic relief، ومن هنا قد يختلط التقسيم التقليدي للمأساة والملهاة وتنشأ أشكال أخرى كالكوميديا السوداء وغيرها من الأشكال الملهاوية والمأساوية. لهذا، فعندما يضفي أحمد زكي على شخصياته التي يؤديها بعداً إنسانياً هاماً مثل القدرة على الضحك وعلى الإضحاك، بل يصر في بعض الأفلام أن يغني بصوته الخشن غير الرخيم لكنه مقبول وقريب من الأذن في نفس الوقت، فإنه يدرك من أين يأتي المضحك في بعض المواقف التي تقوم على المفارقة أو تكرار كلمة ما او عبارة أو تداخل صورة الآلي والحي في بعضهما البعض وإلباس الحياة للآلة، أي الجسم الحي نفسه قد تصلب وصار آلة، وساندته قدرته على التقليد، إذ كثيراً ما تكون بعض الحركات التي تصدر من شخصية ما غير مضحكة في حد ذاتها، إلا أنها إذا قام شخص آخر بتقليدها، أي أدخلها في دائرة الآلية تصبح مضحكة، وقد بدت أولى ملامح الأداء الملهاوي في ثالث أفلامه (صانع النجوم) 1977 لمحمد راضي، رغم أنه لم يكن يقوم بالدور الأول وهو الفيلم الذي يسخر من أوهام الشهرة لكنه للأسف ضاع جهده عندما حاول أن يصنع ثنائياً ضاحكاً مع (منى جبر) لأن محاولة السخرية من السينما المصرية وكشف أساليبها الرديئة لم تكن فكرة ذكية بما يكفي، ونذكر هنا أنه استوعب درس عدم قيامه بدور هزلي في هزلية (مدرسة المشاهدين) 1971 حيث تقمص دور الكاتب الفقير الذي يتيح الفرصة للآخرين بأن يثيروا الضحكات، وتتاح أمامه فرصة القيام بدور آخر أقرب للكوميديا في فيلم (الليلة الموعودة) 1984 ليحيي العلمي وبطولة فريد شوقي، حيث يقوم بدور فتحي الشاب الذي يتاجر في البضائع المهربة من بور سعيد ويعيش مع أمه (بهية)، ويجمع الحب بينه وبين جارته التي تشجعه على استكمال الدراسة، وتنجح الخاطبة أم إمام في إقناع أمه بالزواج من سيد (فريد شوقي) النصاب محترف الزواج من النساء العواجيز الثريات ثم يستولي على أموالهن. ويحاول فتحي منع هذا الزواج إلا أن سيد ينجح في الاستيلاء على فلوس أمه، ويخطط فتحي بذكاء ومكر وخفة ظل للوصول إلى قلب ابنة سيد عن طريق نفس الخاطبة إلى أن يتمكن من رد أموال أمه بمخادعة زوجة سيد، ويتم طلاق الأم من النصاب بعد أن يهدد فتحي بالتغرير بابنته الصغيرة. وقد بدا في هذا الفيلم مدافعاً عن نفسه وأمه رغم استخدامه كافة وسائل الخداع لمحاربة النصب والاحتيال التي لا يرضى عنها في داخله، فهو مثقف ويتطلع إلى استكمال دراسته الجامعية، فبدا ممزقاً ما بين الأسلوب غير الأخلاقي وبين مبادئ الشرف التي يؤمن بها، وما يمكن أن يولده هذا التمزق من ضحكات وسخرية وخفة حركة وسعة حيلة. وفي عام 1987 يقوم ببطولة فيلم ينتمي إلى جنس الكوميديا هو (أربعة في مهمة رسمية) لعلي عبد الخالق، وفيه يقوم بدور الموظف البسيط أنور عبد المولى الذي يستعد للسفر إلى الخارج لكن رئيسه في العمل يطلب منه أن يؤدي آخر مهمة له والتي لا تستغرق أكثر من يوم واحد في القاهرة وهي: تسليم تركة أحد القرداتية الذي مات دون أن يكون له وريث إلى بيت المال، وهذه التركة هي حمار وعنزة وشمبانزي. ويسافر أنور إلى القاهرة وعندما يصل إلى هناك يكتشف أن الحمار قد استبدل بجحش، وعندما يصل لبيت المال يكون موعد العمل الرسمي قد انتهى، فيضطر للمبيت هو والحيوانات في أحد الاسطبلات التي تملكها الأرملة الشابة (بطة) فيتم التعارف بينهما، وتبدأ رحلة المتاعب الحقيقية عندما يصطدم بالروتين الحكومي من صغار الموظفين الذين يرفضون استلام التركة، فيضطر إلى تدريب الحيوانات التي معه وأن يعمل هو وبطة في سيرك مستخدماً هذه الحيوانات في الأعمال البهلوانية. وتبدو في هذا الفيلم إمكانياته في الغناء وخفة الحركة، وتجسيد محاولات الموظف الصغير أن يكون مرناً في التعامل مع الواقع الفاسد. وفي العام نفسه يشارك في فيلم كوميدي آخر وقد جسد شخصية مغايرة تماماً لشخصية أنور عبد المولى في الفيلم السابق، فهو هنا يقوم بشخصية (عبد السميع) بواب إحدى العمارات التي تسكنها مجموعة متنافرة من البشر في فيلم (البيه البواب) (1987) لحسن الصيفي، والتي من بينها المرأة اللعوب المتزوجة من تاجر أخشاب سراً وتتطلع إلى الثراء عن طريق السطو على اموال الرجال. وتتسع أعمال البواب عبد السميع، لدرجة أنه يوظف أحد السكان من الموظفين الكبار يعمل عنده، ونجد المرأة اللعوب التي طلقها تاجر الأخشاب لا تمانع من أن ترتبط بالبواب الغني بعلاقة، إلى أن تنجح في سرقة أمواله وتهرب بها، لكن زملاء عبد السميع يتمكنون من الإمساك بها وتعيد النقود إلى عبد السميع الذي يقرر العودة إلى زوجته. وقد وجد الناقد سامي السلاموني أن الميزة في هذا الفيلم هي التمثيل العبقري لأحمد زكي الذي يعيش كل شخصية تماماً وأياً كانت أبعادها وتنوعها (فهو أكثر ممثلي مصر اكتمالاً وصدقاً وتوهجاً الآن)، وهو في هذا الفيلم يصر على الغناء وكأن الأداء التمثيلي المتميز لا يكفيه، حيث تأتي أغانيه مكملة لأبعاد الدور وتجعله قريباً من قلب ووجدان المتلقي. ورغم اعتراض بعض النقاد على ممارسته الغناء، فقد استهواه الغناء كثيراً إذ يبدو أنه كان مقتنعاً بفكرة الغناء من خلال صحبته لشاعر العامية والفنان الشامل صلاح جاهين اللذين نجحا معا نجاحاً كبيراً في المسلسل التلفزيوني الغنائي (هو وهي) في الثمانينيات. وفي عام 1990 يتقمص أحمد زكي شخصية الصحافي حسام منير في فيلم (امرأة واحدة لا تكفي) لإيناس الدغيدي. ولأنه زير نساء يفشل في الزواج لصعوبة تحديده امرأة واحدة تجمع كل الصفات التي يريدها في المرأة، ولذلك يلهث في مغامرات لاهية مع ثلاث نساء: الأولى أميرة ابنة الباشا السابق ومديرة العلاقات العامة بوزارة الخارجية، وهي شخصية ثرية وعنيدة وقوية تملك شبكة من العلاقات؛ والثانية ريم طالبة الجامعة البوهيمية المتحررة التي تقبض عليها الشرطة لآرائها السياسية المعارضة وتوافق على العمل سكرتيرة لحسام. أما الثالثة، هنادي، فهي امرأة فقيرة طلقت مرتين لعدم الانجاب لتعتقد أنها عاقر لكنها تحمل سفاحاً من حسام فيرفض الزواج منها. ويتعرض حسام لمحاولة اغتيال فيجدها ذريعة للهروب من علاقاته النسائية، وفي الطائرة أثناء السفر تجتذبه امرأة جديدة.. هنا يجسد أحمد زكي شخصية المثقف المتردد واللاهي في نفس الوقت، وقد بدت في ردود أفعاله في المآزق الحرجة التي يتورط فيها والسعي بدهاء وأحياناً بخسة للتخلص منها دون خشية منه على قناع نجوميته، التي يريد فيها النجم أن يبدو مثالثاً مثيراً للإعجاب. وحرص أن يكون متسقاً وصادقاً في التعبير عن الشخصية، ويلتقي أحمد زكي مع المخرج خيري بشارة للمرة الثانية في واحد من أهم أفلام المخرج وهو (كابوريا) 1990، وفيه يجسد أحمد زكي الشخصية النافرة المتمردة على طبقتها وتعيش على هامش المجتمع، وهو الشاب الفقير حسن هدهد الذي يهوى الملاكمة ويحلم بالوصول للأولمبياد. وللحق أن شخصية حسن هدهد لها خصوصيتها وسماتها المميزة التي لا يستطيع غيره أداءها، ونلمس خصوصية الأداء في ردود أفعاله عندما يرفضه والد محبوبته ويكاد يطرده عندما ذهب ليخطبها مع صديقيه، وكذلك ردود أفعاله في محاولات حورية الثرية إغراءه وهي تقرأ له أشعارها التي لا يفهم منها شيئا، وفي تجسيده لحسن هدهد الفقير العاطل باستهتاره وعفويته وبقصة شعره الغريبة. هذه القصة التي تعبر عن غرابة الشخصية وخروجها عن المألوف، ومفرداته الخاصة ومشيته المتصعلكة التي تنم عن خلل في تركيبة الشخصية فلم يكن إلا حسن هدهد. ونجده يكرر بعض ردود الأفعال المشابهة في تجسيده لشخصية الأفّاق في الفيلم المأساوي (الراعي والنساء 1991 لعلي بدرخان)، ويشارك أحمد زكي في ستة أفلام للمخرج محمد خان كان من بينها (مستر كارتيه) 1993 وفيه يقوم بدور الشاب الريفي صلاح الذي يسافر إلى القاهرة بعد حصوله على شهادة متوسطة ليعمل سائساً في كراج كان يعمل فيه والده قبل وفاته. وفي هذا الفيلم يغني ويقدم الاستعراض حتى بعد أن أصبح أعرج نتيجة حادث سيارة، كما يقدم اللفتة الذكية والدعابة الراقية المرحة. وفي فيلم سواق الهانم 1994 لحسن إبراهيم، يقوم بدور السائق حمادة الذي تلحقه سيدة ارستقراطية بخدمتها فيجد الزوج ضعيف الشخصية والابن فاشلا في دراسته والابنة الجميلة مدمنة، ويحاول علاج تفسخ هذه الأسرة. وهو في هذا الفيلم يقدم تنويعاً جديدا على الشخصيات المهمشة والبسيطة، ولا ينفرد بالبطولة وحده بل يشاركه عادل أدهم وسناء جميل وعبلة كامل وشيرين سيف النصر، وإن تميز بين هؤلاء بالأداء السهل الممتنع كاشفاً عن قدرته على السخرية والتهكم من هذا الواقع المحيط به. ويعود إلى المخرجة إيناس الدغيدي بعد ست سنوات في فيلم آخر يحاول فيه تناول قضية العلاقة بين المرأة والرجل، هو (استاكوزا) 1996 والمأخوذ عن مسرحية شكسبير (ترويض النمرة) ويقوم فيه بدور مهندس الديكور عباس العنتيل الذي ينوي الزواج من زميلته، فيحدث أن ترك الفتاة الغنية عصمت في موضع حساس يفقد على إثره رجولته فيبدأ في الانتقام ثم يتزوج من عصمت ويسترد رجولته في مفارقات كوميدية راقية. وفي هذه الكوميديا المأخوذة عن الفكرة الشكسبيرية يتبدى ذكاء ووعي أحمد زكي بالشخصية المرسومة بما تحتويه من جرأة تصل إلى التهور والطيش، ومن مكر ودهاء ليتصيد الفتاة الجموح في مواقف ملهوية قد تنحرف إلى الهزلية التي تثير القهقهات، مع الأغنيات السريعة الإيقاع المتسقة مع موجة الأغنية الشبابية في منتصف التسعينيات. ومع المخرج نادر جلال يقوم ببطولة الفيلم الكوميدي الخفيف (حسن اللول) 1997 ويجسد فيه شخصية حسن الشاب البورسعيدي الفقير الذي كان أبوه فدائيا، لكنه الآن مضطر لأن يعمل مهرباً صغيراً للساعات والسلع الصغيرة بإخفائها في وسائد السيارات التي يقودها خارج وداخل المدينة الحرة بورسعيد. ورغم سذاجة حبكة الفيلم إلا أن أحمد زكي استطاع أن يملأه بروح المرح والسخرية والتعليقات اللاذعة من داخل حركة وسلوك شخصية السائق البورسعيدي البسيط الذي قد يدعي الفهلوة وإن كان لا يحب أن يكون فهلويا. ومع أولى تجارب المخرج الشاب عادل أديب يشارك في فيلم (هستيريا 1998) ليقوم بدور (زين) خريج معهد الموسيقى والذي يعيل أمه وأخاه المنحرف رمزي وأخته التي يحبها المصور الجوال رزق الذي ترفض العائلة أن يتزوجها. ويحاول زين أن يغني بمفرده في مترو الأنفاق، وفي الأفراح، ويرتبط بعلاقة عاطفية مع فتاة أرستقراطية، إلى أن يصادف موظفة مطحونة توفي والدها وتصيبها قسوة الحياة بنوع من الهستيريا، وتطردها شقيقتها من شقتها فتقيم في محل طيور زينة، وتقع في غرام زين وتطارده في مكان إلى آخر. ورغم مأساوية الأحداث إلا أن أحمد زكي الذي يجسد شخصية الرجل الأكثر نضجاً استطاع أن يملأ هذا الجو الشعبي بالنكتة وبالاشراق والأمل بحركته وإيماءاته وغمزاته ولمزاته المرحة وقوة حضوره... وفي فيلم (اضحك الصورة تطلع حلوة) 1998 لشريف عرفة يقوم بدور الأب سيد غريب الإنسان المتصالح مع نفسه ومع من حوله، ليؤكد أنه لا يهم أن يقوم بدور الفتى الأول الذي يتشبث به نجوم الممثلين حتى آخر لحظة، ويصرون على وضع أقنعة النجومية، ويقوم بدور رجل في الخمسين من عمره وله ابنة جامعية ورغم ذلك فقلبه ما زال ينبض بالحب وعشق الحياة والتمرد على الأوضاع الظالمة، لذا ملأ الفيلم بالبهجة والتفاؤل. فهو هنا رجل ناضج، خبر الحياة وعلمته التجارب، وبدت سخرياته المريرة مما يدور حوله من متناقضات ليضفي على أحداث الفيلم بهجة وسرورا.
السفير اللبنانية ـ الأول من أبريل 2005
|
المشخصاتي أمينة الشريف في كلمة واحدة يمكن تلخيص أحمد زكي (المشخصاتي) .. إنه الاصطلاح الذي يفهمه البعض خطأ بوصفه انتقاصاً من حق الممثل، وإن كان النقاد والعارفون لا يطلقونه إلا على كبار الممثلين، هؤلاء الذين يقدرون على تلبّس كل شخصية والتماهي معها حتى النهاية. أحمد زكي كما عرفته في لقاءاتي المتكررة معه من خلال عملي الصحافي وفي المنتديات والمهرجانات الفنية هو المشخصاتي بعينه، بل هو الوحيد الذي يستحق هذا اللقب عن جدارة خلال أكثر من مائة سنة سينما مصرية، كما أجمع على ذلك كل النقاد والمنصفين في مصر والعالم العربي، بل في بعض المجلات المتخصصة في الفن السابع في أوروبا. أحمد زكي الذي كافح السرطان وتشبث بالحياة حتى اللحظة الأخيرة لا يمكن فصل الخاص في حياته، من حيث هو أب وزوج وصديق، عن العام في حياته من حيث هو النجم الأول في السينما المصرية والعربية، الرجل يمثل كما يعيش، أفلامه في حضنه بغرفته التي كان يقيم فيها 16 عاماً متصلة بفندق هيلتون رمسيس بقلب القاهرة، لا يتركها عند باب الغرفة، لم يهب لخاصة أمره إلا أقل القليل من الوقت، فكانت حياته فيلما طويلا مدته 56 عاماً عاش فيها حياة ألف إنسان، بمن في ذلك الزعماء والرؤساء، فصار سؤال الجميع: هل عاش أحمد زكي حياة أحمد زكي؟ كان ذلك قبل عامين فقط، على إحدى طاولات فندق الميريديان على نيل القاهرة، وقبل أن يتحول الفندق القديم إلى اسم (غراند حياة) الذي يحمله الآن، جلسة لم أخطط لها جمعتني مصادفة مع أحمد زكي والكاتب وحيد حامد.. كان النجم الأسمر خارجاً لتوه من فيلم أيام السادات الذي موله بكل ما يملك (على الرغم من اشتراك التليفزيون في مرحلة من إنتاجه)، وبرغم ذلك كان أحمد يحلم بالمزيد من الشخصيات السياسية والرموز التاريخية لكي يشخصها في السينما.. وفجأة فيما نتبادل حديثاً موسعاً عن فيلم السادات الذي كان قد بدأ عرضه، وقف أحمد زكي بقامته الرشيقة كالسهم وبخفته الآسة وسألني: ما رأيك حين ألعب دور الرئيس مبارك هل أصافح هكذا أم هكذا؟ لم يكن صعباً أن أفهم أن أحمد زكي بات مسكوناً بدور جديد، دور الرئيس مبارك، وهو فسر لي أكثر بعد دقائق، فيلما بعنوان (الضربة الجوية) كان يخطط له وقتها عن حياة الرئيس مبارك لتصبح لدى أحمد ثلاثية، تبدأ بفيلم (ناصر 56) و(أيام السادات) اللذين أنجزهما بالفعل وعرضا في 1996 و2000 على التوالي، ثم الضربة الجوية، قال لي أحمد زكي: أمنيتي أن أصنع مكتبة فيلمية عن كل المحطات البارزة في تاريخنا المعاصر، سياسية واقتصادية وفنية وثقافية، أقدم للأجيال القادمة ما يجهلونه وما يجب أن يعرفوه.. الغريب أن جلستنا الثلاثية هذه لم تكن جلسة عمل، لكن أحمد زكي لم يكن يفكر إلا بشخصية جديدة، وبعد أن يبدأ التفكير سرعان ما تحدث المعايشة ثم يقع التقمص، ثم تلبسه الشخصية ويلبسها وتعطيه ويعطيها، ثم يتحدان ويتماهيان. قال لي أحمد زكي في جلسة أخرى أتذكر أنها كانت في الأيام الأولى من عام 2003، أنه سيفعل أي شيء مقابل تقديم فيلم (حليم) حتى لو (باع هدومه) فلن يدخر جهدا، أحمد زكي يرى أنه وحليم شيء واحد (كلانا عاش يتيما، وحيدا، كلانا ابن لمحافظة الشرقية <<شرق دلتا النيل>> وكلانا أفنى عمره في الفن، وكلانا هبط الترعة طفلا، غير أني عولجت قبلا من البلهارسيا وشفيت منها).. أحمد زكي إلى ذلك واحد ممن تربوا على غناء (حليم)، ذلك الغناء الذي كان صورة لمصر تموز 1952، فجسد حلمها وجسد انكساراتها وجسد حلم الشباب الذين كان من بينهم ساعتها شاب أسمر ريفي موهوب في التمثيل يدعى أحمد زكي، وفيما كان أحمد يبحث عن فرصة للظهور، كان حليم يشدو برائعة الأبنودي وكمال الطويل (عدي النهار) وكان ابن 20 عاماً ليس إلا. من هنا لم يكن حرص أحمد زكي على خروج (حليم) إلى النور حرصاً عاديا، بدأ بإقناع المؤلف محفوظ عبد الرحمن الذي كتب له من قبل فيلم (ناصر 56) بكتابة السيناريو، حتى أنه صنع له أفيش الفيلم وكتب عليه: (أفلام أحمد زكي تقدم: حليم.. تأليف محفوظ عبد الرحمن) ونصب الآفيش أمام البناية التي يسكنها محفوظ، لتكون بإزائه صباح مساء، ولم يترك أحمد الكاتب محفوظ عبد الرحمن حتى كتب السيناريو كاملاً .. ولم تتوقف معركة أحمد مع الزمن لانجاز (حليم) باستلامه السيناريو، بل دخل في معركة أقرب لإنتاج الفيلم، وعطله عناد ورثة حليم (وعلى رأسهم أخته التي رحلت مؤخراً السيدة <<عليه>>) لسنتين، رفعوا شعار ملكية شخصية حليم وتراثه، إلى أن تصدى عماد الدين أديب بشركة (غود نيوز) التي يملكها لإنتاج الفيلم، الذي صور أحمد 90 بالمائة من مشاهد دوره والتي تمثل أغلبية الفيلم.. ومن يرى صلابة أحمد في تشخيص حليم، يعجب من تشخيصه لدوره هو في الحقيقة، حين انتهت زيجته الوحيدة من الممثلة الراحلة هالة فؤاد أم ابنه الوحيد أيضاً <<هيثم>>.. ففي عام 1986 وقع الطلاق بين أحمد وهالة، لم يقاتل أحمد كثيراً لأجل حبه، قال لي أيامها بعد الطلاق ( كنت في زواجي كالدبة التي قتلت صاحبها لتنقذه، فمن كثرة ما حلمت بالبيت لم أحافظ عليه، رأيت هالة أعجبتني، نموذج رقيق، بريء، قلت لنفسي أنها الفتاة المناسبة التي تصلح للبيت الذي أحلم به، فلم يستمر الزواج فعلياً إلا ثلاثة أشهر، ثم انفصلنا، لم يكن ثمة مفر من الطلاق، أنا رجل فلاح، أريد زوجتي في البيت إلا أنها رفضت وقالت أن مكانها في الأستوديو فكان الخلاف وكان ما كان)، إذن لم يفلح أحمد زكي كثيراً في تشخيص الزوج، وإن كان شخصه عشرات المرات بتفوق في أفلامه.. وقبل أحمد زكي ما لم يقبله من طليقته الراحلة هالة فؤاد (التي توفيت العام 1990 بالسرطان أيضاً)، بل قال لي بالنص في حوار عام 1998 (أؤمن بمقولة اشتمني وعلمني بشرط ألا تشتمني وتقتلني وتلعن تاريخي، الناقد سامي السلاموني يرحمه الله كان يخلع عليّ ألقاباً كنت لا أستحقها وكان يقول <<العبقري>> <<المجيد لعمله>> وكنت أقول له <<بالراحة علي>> وحين شتمني في أحد أفلامي اتصلت به أشكره وأقول له بدأت في تصديق كل الألقاب الحلوة التي خلعتها عليّ من قبل). وفي نفس ذلك الحوار أخبرني أحمد زكي أن التشخيص وحرصه على الوصول إلى أفضل صيغة في أفلامه رفعت ضغط دمه حتى وصل إلى 170 على 120، وقال (أواجه أي خطأ في فيلم لي بأعصابي و<<لسه عندي شوية دم>> ولا يمكن أن أهدأ في مواجهة الخطأ المهني). أيضاً لم ينجح أحمد زكي في تشخيص (الثري) صحيح أنه شخص (الملياردير) أكثر من مرة، غير أنه خرج من الفن خالي الوفاض، لم يعد يجمع الثروة، بل عنى بانفاقها على أهله الكثيرين في مسقط رأسه بمركز الحسينية محافظة الشرقية، وعنى أيضاً بإنفاقها إلى آخر مليم على أفلامه، مكتفياً بدور الثري في أفلامه، ألم أقل لكم أنه كان يتحد وشخصياته ويأخذ منها ويعطيها ويعيشها. أذكر أيضاً أنه أكد لي قبل أربعة أعوام (اخترت حياتي وراض عنها، فخور أني لا عندي شاليه ولا فيللا، كل ما أملكه شقة، لكن عندي حوالي 50 فيلماً و50 شخصية، عدا اللي ربنا يقدرني وأعملهم ودول عندي كفاية). وقد يقول قائل: ماذا كان أحمد زكي يصنع في حياته الخاصة بين الفيلم والفيلم؟ الحق أنه كان يحضر للفيلم الجديد، مثلاً في فيلم (ناصر 56)، وفيما كان المؤلف محفوظ عبد الرحمن انهمك في جمع المادة التاريخية والوثائقية للفيلم كان أحمد قد حضر للفيلم على طريقته، قرأ كثيراً كتباً وقصاصات صحف وكتب بيده تعليقات كثيرة، مع أنه لم يكن بحاجة لذلك مع مؤلف أمين ودقيق وناصري كمحفوظ عبد الرحمن، لكنها المعايشة، لم يكن يصبر كثيراً على العيش من دون (آخر) يتلبسه ويتعاطى معه، ويقضي معه أشواطاً وجولات وصولاً إلى التعارف عميق الغور. أيضاً في (أيام السادات) حرص احمد زكي مع الكاتب احمد بهجت على الإفادة في الإعداد النهائي للسيناريو من جميع من كانوا يحيطون بالسادات، وليس فقط من الكتب والمراجع، بل إنه في واقعة قرار السادات بزيارة القدس المحتلة بشكل مفاجئ عام 1977 اعتمد على رواية المزيّن الخاص بالسادات (محمود لبيب)، الذي أكد لأحمد أنه عرف بزيارة السادات للقدس من خلال تلميح أدلى به السادات إليه فيما كان يحلق له شعره، ولم يكتف أحمد بالإفادة من لسان لبيب الحكاء الذي كان مقرباً من السادات، بل أفاد من صنعة يديه كذلك، فجعله المزيّن الخاص له طوال تصوير الفيلم، ليضمن أقرب تشخيص للسادات من جهة الشكل، ويرى أحمد زكي أن دوره في السادات هو أصعب أدواره علي الإطلاق. وإذا كان منطقياً أن يكون أحمد زكي أكثر دراية بالدور الأصعب والدور الأسهل في مسيرته التي بلغت إلى هذه اللحظة التي رحل فيها 36 عاماً من التمثيل عفوا من التشخيص فإن لي أن أعارضه بمنطقية أيضا، لأقول أنه لو عاش ورأى حليم لأكد أن حليم أصعب أدواره على الإطلاق، ففضلاً عن الجهد الذي بذله لإقناع المؤلف، ثم العثور على منتج، كان عليه أن يغالب آلام المرض اللعين وهو يشخص حليم، حين بدأ أحمد التصوير كان السرطان تمكن منه، وحين قطع شوطاً طويلاً في التصوير كان المرض قطع شوطاً طويلاً في جسده، لكن إصراره على خروج حليم إلى النور لم يفتر ولم يهن إلا بضربات قدرية فوق طاقة كل إنسان. ولكن هل بنيت كل هذه القدرة التشخيصية الفذة على هواية فقط، أم أن لأحمد أغواراً ثقافية خاصة مكنته من ذلك، الحق أن أحمد الذي شخص السياسي والزعيم غير مرة، لم يشأ أن يدخل في مستنقعات السياسة في كثير أو قليل، بعض النجوم استهوتهم وتستهويهم هذه اللعبة أحيانا، لكنه رفضها إن لم يكن هزئ بها، يرى أن التشخيص أكبر زعامة، وأن الملايين تحتشد وراء فيلم أهم من الملايين تحتشد وراء حزب أو تيار، فالفيلم عنده حزب، والمشخصاتي هو الزعيم ولا ريب، كان مقلاً جداً في الإدلاء بآرائه السياسية، ترك النقاد يصنفونه يسارياً من منطق أن أفلامه انحازت دائماً للفقراء والصعاليك والمهمشين والعامل والفلاح وهزئت بالسلطة والثراء وتفاهة هؤلاء الذين يملكون مالاً دون روح ولا أمل، وتركهم يلومونه على (أيام السادات) من منطلق افتراضهم الأول بأنه جرى (ناصري) أو (يساري)، كان يبتسم في هدوء على غير عادته حيال كل ذلك، فإن سألته يقول: أنا مجرد مشخصاتي وآرائي السياسية أحتفظ بها لنفسي. لكن أحمد مثقف كبير في علم التشخيص، وهو بدأ حياته في المسرح، وصار عقله مترعاً بنظريات تشريح ونقد المسرح ونظريات إعداد الممثل وكان يقول دائماً (من يحب الفن يصر عليه، وستانسلافسكي في كتبه الثلاثة عن فن التشخيص يلخص كل ما يريد في عبارة واحدة تقول: ما يخرج من القلب يصل إلى القلب، الممثل الذي لا يصل إلى القلب في رأيي جدير بالسقوط). وأخيراً .. كانت أمنية أحمد زكي الدائمة التي أخبرني بها وكل الزملاء الإعلاميين والنقاد لمرات عدة هي (أن أستريح ولو بعض الوقت) وهو الآن يرحل عنا بعد غيبوبة امتدت 12 يوما، ولو قدر له أن يعيش لصرخ: أعيدوني إلى البلاتوه.. أعيدوني إلى حليم.. لقد كانت راحته الكبرى في اللهاث وراء دور جديد، (تشخيصة) جديدة تجعله يحلق فوق آلامه وأحزانه. نجح أحمد زكي في تشخيص كل الأدوار، وصولاً إلى دور الأب الحقيقي لا السينمائي، ودور المقاتل المستميت ضد أبشع الأعداء، الأدب الذي يقول لي قبل سبع سنوات (لا أخشى الموت، لا أخشى مشرط الجراح، ولا أخشى الفقر، ولا الخوف ولا الأشباح، أخشى فقط على ابني هيثم من أبسط ما يخشى منه الآباء على أبنائهم، ولا أخاف على نفسي، لا تهمني، فقط أخشى أن يصيبني مكروه من دون أن أطمئن على هيثم). وناضل أحمد زكي حتى الرمق الأخير ضد أبشع الأعدء، سلاحه خمسون بطولة سينمائية مطلقة، وعدد كبير من الأدوار المساعدة، عاش بها وسوف يعيش جيلاً بعد جيل .. أليس هذا المطلب كان مطلبك يا (أبو هيثم) ..
السفير اللبنانية ـ الأول من أبريل 2005 |