تعود وقائع هذا الحديث مع الممثل القدير الغائب أحمد زكي الى 22–09–2001، ونشر في جزءين ليومين متتاليين، وهنا بعض وقائع الجزء الأول. · جورج كعدي: أودّ بدءاً التعبير عن اعجابي، الموضوعي لا العاطفي، بأدائك وقدراتك ممثلاً. أنت ممثل كبير، نموذج تامّ للممثل العربي. ألقّبك تحبّباً بـ"روبرت دونيرو الشرق". وسؤالي انطلاقاً من هذا التشبيه: هل انت ممثل "منهجية"، أي من اتباع ستانيسلافسكي والـ"أكتورز استوديو" أم ممثل "غريزة" على طريقة المدافعين عنها امثال لورنس اوليفييه وبيتر أوتول، والذين على عداء مع "المنهجية" ورافضين لها؟ اشعر بك منتمياً الى المدرسة الاولى، ما رأيك؟ - احمد زكي: تقرأ كتب ستانيسلافسكي الثلاثة لتخرج بعبارة واحدة تلخص كل شيء: ما يطلع من القلب يصل الى القلب. وهذا الطالع من القلب يحتاج الى الصدق والاحساس الشديدين. عندما يتحدث المرء في موضوع ما، او يعبّر عن شخصية معينة، في الفن او خارجه، فان الأمر يتعلق بمدى صدقه. قد يبلغك ذاك الكلام، لكنه لن يدخل قلبك. المهم هو الوجدان. أحبّ أن أحسّ بالأمور، ان أكون صادقاً فيها. من هنا، انتمي الى المدرسة التي تراها. أحبّ مدرسة الإغراق في تجسيد الشيء، اتقانه. طالما اخترت مهنة معينة فعليّ اتقانها. صنّفني كما تريد (ضحك). · صنّفت نفسك من غير تسميات. كيف تهيئ ادوارك؟ هل من خلال مراقبة الناس والاشياء على طريقة روبرت دونيرو الذي يروح مراقباً شرطياً حقيقياً لو كان عليه ان يلعب دور الشرطي، او ملاكماً ان كان عليه الاضطلاع بدور ملاكم، الخ؟ هل تعتمد المنهجية نفسها؟ - ثمة ادوار تحتاج الى ان تتعرّف اليها، تقرأ عنها، تتأملها، تراها. والحياة مليئة بالشخصيات، بالأمزجة المختلفة، بالوظائف والاحلام والاحباطات والانكسارات والطموحات، وكلّ يتعامل مع هذه الامور على نحو مختلف. داخل الفنان قدرة على التقاط الاشياء، من غير ان يعي ذلك. يرى في نفسه مخزوناً من المشاهدات. أول امرئ يصطدم به هو نفسه. الممثل كائن متحرك، تجيش في صدره امور وتنتابه امور. يتفرّج على نفسه في المقام الاول. يتفرّج على كذبه قبل صدقه، على ضعفه قبل قوّته، وعلى إحباطاته وسعاداته، على الانسان فيه. لا يرى الانسان الا جانباً واحداً في شخصيته. على العكس، لو نظر الى مشاعره المتناقضة فقد يمنعه ذلك عن الكذب. لا ينظر البشر سوى الى الجانب الايجابي في شخصياتهم. اما الضعف والكذب والرغبات فانه لا يسائل نفسه حولها ولا يحاورها كي يشرع في التعامل مع ضعفه او كذبه. لو انطلق في التعامل الصادق مع نفسه لأبصر أموراً في الآخرين من الأبسط الى الاعمق، ولألفى نفسه يلتقط اصغر التفاصيل. · اداؤك لشخصية السادات بديع. حتى الاحساس الجسدي موجود. لديه مثلاً تلك العادة في الكزّ على اسنانه، والتقطت انت عادته تلك ورأيناك تكزّ على اسنانك طيلة الفيلم كملمح خاص من ملامح الرئيس السادات وشخصيته. كيف راقبت ذلك؟ هل عبر افلام وثائقية؟ - لو تمّ ذلك عبر شريط وثائقي فقط لكان مجرّد تقليد. انما لماذا تلك الحركة العصبية؟ ما اسبابها النفسية، البيولوجية؟ لو فكرت فيها على هذا النحو لألفيتها تخرج منك تلقائياً. · أي انها حركة نابعة من الاحساس الداخلي بالشخصية؟ - تماماً. كنت مثلاً بعيداً كل البعد عن جمال عبد الناصر، وكان علي ان أتخيّل معنى نظرته وبداية تلك النظرة لديه طفلاً، صبياً، شاباً، متأملاً، قارئاً، وكيف كان يعبّر عن احلامه، وكيف احبط، وكيف تكوّنت شخصيته رجلاً... لتبلغ حركة معينة في شخصية ما لا يكفي ان تراها. تستطيع مشاهدة فيلم وثائقي يظهرها لك شكلاً، انما لا بد... · لكن التقاط الملامح يستلزم المراقبة. - الماكياج يتكفّل بالشكل الخارجي الذي تراه العين، فتقول: آه، والله الشكل صحيح. رأيت صورة للرئيس السادات واقفاً في زنزانة. لاحظت ما كان يرتديه، وتسريحة شعره، بيد اني لم أر احساسه ولا كيف يتكلم او كيف يفكر. كما شاهدت له صوراً مع زوجته في استوديو التصوير. صور ثابتة. هنا لديك الشخصية وفق ما تراها في الصورة. لكن ماذا عن هذه الشخصية عندما تتحرك، عندما تتكلّم، عندما تفكّر. هذا غير موجود، غير ملموس. عندما تزوّج الرئيس السادات السيدة جيهان كنت طفلاً في السنة الاولى من عمري تقريباً. ولا افلام من تلك الحقبة. الأمر نفسه لفيلم "ناصر 56". لم يكن هناك تلفزيون عهدذاك. التلفزيون دخل مصر عام 1960. لذا لم أرَ عبد الناصر في خطاب الأزهر ولم أره في خطبة قناة السويس ولم أره في منزله كذلك وكيف يتعامل مع أولاده. انها مسألة مختلفة. تسمع احدهم يقول لك: صنع هذا الشكل. يتكلم الناس عن الشكل الخارجي ويغفلون النظر داخل العين. والعين مهمة جداً. يقول لك احدهم: انزع نظارتيك اريد رؤية عينيك. لِمَ يريد رؤية عينيك؟ لأنه يريد رؤية قلبك. العين كاشفة لما في القلب او لما في الاحساس والوجدان. هنا الشكل الخارجي مهم لأن العين تبصره، ولأن العين تبصر العين لحظة التمثيل. ولا أدري كيف اتكلم عن ذلك، لأنك حين تتعرض لشخصيات معروفة ومعاصرة ولا تزال حاضرة في وجدان الناس، فان كل امرئ يأتيك برأي مسبق حولها. البعض مختلف معها والبعض الآخر متفق. يغفلون كيفية تناول الممثل للشخصية. ينطلقون من مواقف سياسية ويبتعدون عن العمل الفني! قضيتي هي الانسان، وفي فيلم "أيام السادات" قضيتي هي الانسان. وعبد الحليم حافظ سوف اقدمه كانسان من وراء الحنجرة... · جليّ انك تقدم في "أيام السادات" كما في "ناصر 56" من قبل، صورة انسانية للزعيمين القائدين... - مذ كنت اقدّم شخصيات رجل الشارع كنت اردد ان ما يشغلني هو الانسان (...). أدّيت مثلاً ادوار ثلاثة ضباط، في "زوجة رجل مهم" ضابط شرطة، وفي "الباشا" ضابط مباحث، وفي "ارض الخوف" كذلك. الثلاثة ضباط في الشرطة، انما كلٌّ يتعامل مع مهنته على نحو مختلف. قد امضي حياتي كلها في اداء شخصية رجل أمن، لكن مَنْ هو الانسان خلف تلك الشخصية؟ الضابط الأول كان يعاني عصاباً هستيرياً وربي طفلاً على ان بدلة الضابط هي قوة. وضعوا في ذهنه ان تلك البدلة هي الخلاص. وحين يرتدي البدلة تحكمه. يتكلم بلسانها. اما الضابط في "الباشا" فوالده لواء، لذا ليست قضية كبرى بالنسبة اليه ان يكون ضابطاً. هو انسان يحمل شارة الضابط. انسان متوازن. هذا ضابط، وهذا ضابط، مع كل الاختلاف بينهما. المهنة شيء، والانسان خلف المهنة شيء آخر. لذا بحثي عن الانسان. · يقول فرنسوا تروفو ان السينما، له، بديل من الحياة. هل هي كذلك لك ايضاً؟ مع كل الشغف الذي يمكن ان نلحظه لديك. - لا أحيا إلا على الشاشة. انزل الى الشارع لأتفرّج على نفسي وعلى الآخرين. في البداية انا مواطن مصري عربي ينعكس عليّ ما ينعكس على مواطن الشارع العادي من سلبيات وايجابيات وانكسارات. ثم اني املك كفنان فرصة ان ارصد الواقع قبل ان احياه على الشاشة. · اردت معرفة مدى ارتباطك بالواقع؟ - الفنان الذي وهبه الله موهبة، يرصد الحياة والناس ليس من اجل الرصد فقط، بل من اجل التأمّل. كالممسك بالريشة ليرسم لوحة، او الممسك بالعود ليضع لحناً. التأمل صفة خاصة بالانسان. أحيا على الشاشة نفسياً وانسانياً. أحب مهنتي كثيراً واحب تجسيد الشخصيات (...) لكني اكتشفت ان ثمة مزجاً بين الانسان والفنان، بين الاستوديو الذي أعيش فيه ويأخذ مني معظم أوقاتي، والواقع. ألفيت نفسي أحيا على الشاشة. هنا الناس معروفون لي. انه الواقع الذي اخترته، الشخصية التي اخترتها. أي ثمة اتفاق بين العاملين في الفيلم. أعرف الواقع هنا واعرف الناس والشخصية. انما في الخارج، أي في الواقع، فلا أعرف الاشخاص اذ لا اتفاق بيني وبينهم. لا اعرف ما قد يقوله لي امرؤ معين. قد يكذب عليّ، والمطلوب مني ان أصدقه، ويتبين لي أنه كاذب. بينما على الشاشة لا أحد يكذب عليّ إذ أملك اتفاقاً مع مَنْ أواجهه. كما أملك اتفاقاً مع المشاهد الذي ينتظر مشاهدة الفيلم. أما الحياة الواقعية فهي شرسة جداً. حين انتهي من اداء شخصية اشعر بفقدانها. عندما تحبّ شيئاً، مهنة، ينبغي ان تتقبل اوجاعها. · تبدو الممثل المفضل لدى سينمائيي "الموجة الجديدة" في مصر امثال محمد خان، داود عبد السيد، علي بدرخان، شريف عرفة، خيري بشارة، رأفت الميهي، والراحل عاطف الطيب... لِمَ أنت خيارهم الأول دائماً؟ - ربما لحاجتهم الى ممثل يعبّر على طريقتي. ولأن السينما تحوّلت من مرحلة الدهشة والحلم ومفهوم الأبيض والاسود، الخير والشر، الى مرحلة سندريللا والحبيب، الى المرحلة الثالثة وهي مرحلة الانسان. ذكرت انت ممثلين امثال روبرت دونيرو وداستين هوفمان وآل باتشينو وجاك نيكولسون... انهم ينتمون ايضاً الى مرحلة الانسان. كانت الدهشة ان تتفرّج على حلم جميل. اليوم، الدهشة ان تتفرج على نفسك. لذا البحث عن الممثل الانسان. ملامحي قريبة من رجل الشارع... · لكنه اسلوب ادائك ايضاً. - ملامحي مع اسلوب ادائي. · ليتك تصف لي بكلمات قليلة ميزات كلٍّ من اولئك المخرجين الذين ذكرتهم والذين عملت معهم. اي الحضور على البلاتو، التعاطي مع الممثل. لا بد من ان كلاً منهم يتمتع بميزة محددة في عمله. واحد عصبي، آخر هادئ، وثالث يؤدي أمام الممثل... اعتقد ان ثمة درجات اختلاف. - كل تلك الاسماء التي ذكرتها شكلت صورة احمد زكي. حققت اربعة افلام، حداً أدنى، مع كل من هؤلاء، وستة او سبعة افلام، حدّاً أقصى. يمثلون جزءاً كبيراً جداً من مسيرتي الفنية. · لنبدأ بمحمد خان. - صاحب لغة سينمائية متفردة. تقنية عالية ترافقها رؤية بصرية رائعة للكادر. لكن محمد خان يملك امراً ثانياً لا ادري ان كان ميزة او عيباً: لو اتى لك بسيناريو وهو متحمّس وسعيد بانجازه فعليك ان تجاري رغبته في انجازه فوراً. يسعك ان تناقش مشهداً هنا او هناك. انما لا تأته بسيناريو جاهز. فرحته كبيرة جداً حين يكتب السيناريو بنفسه. يمتعه الجري وراء الفكرة. · خيري بشارة. - يعشق الممثل. يستفز فيك الاجادة. ولو كان لديك رأي تقوله فقله. مثل صلاح ابو سيف وعلي بدرخان. انهم من النوع الذي يفرح لاقتراحات الممثلين. ذاك لشعورهم بأن الممثل ليس مجرّد منفذ. بل يودون معرفة ما تشعر به. كما يرغبون في ان يأتي الممثل بشيء جديد. · داود عبد السيد. - عرض عليّ في الماضي الكثير من الادوار، لكن الظروف كانت تحول دون تعاوننا، حتى انجزت معه حديثاً "ارض الخوف" حيث الفيته راهباً في محراب الاستوديو ومتأملاً هادئاً. انه يمنحك الفرصة لتقول رأيك ويصنع في الوقت نفسه ما يريده. يأخذ منك ما يحتاج اليه في لباقة. انه الكاتب والمخرج، لذا فهو مقيّد برؤيته، وهو بذلك قريب من اسلوب محمد خان. · رأفت الميهي. - الأمر نفسه، لأنه كاتب، الفيلم من أوله الى آخره فيلمه، تأليفاً واخراجاً وانتاجاً. كأنه يقول "الفيلم لي" مثل يوسف شاهين، وامثالهما ذوو لغة سينمائية عالية. يرون الفيلم كاملاً في رؤوسهم. الكلام معهم أدقّ واصعب، لأن المخرج هنا يرى الفيلم كله. وهذه مدرسة سينمائية ينبغي ان نحسن التعامل معها. · شريف عرفة. - من المخرجين ذوي الباع. متميز جداً، يتعامل مع الممثل من خلال موهبته الرفيعة. يدع للممثل رأيه. وثمة في أي حال تدخل حميد وتدخل غير حميد. ثمة تدخل للابداع وتدخل مقيت قد يدمّر الفيلم. اذا كنت ابغي كممثل أن افهم فهل يعني ذلك اني ابغي ان اتدخل؟ الاضافة التي تجعلني استوعب هي تدخّل. انا والمخرج والكاتب في مركب واحد. انما هناك تدخل غير حميد، كالممثل الذي يروم إطالة دوره على حساب القصة، ويريد الظهور على شكل لا ادري ماذا، ويعمل لمصلحته الشخصية. انها تدخلات مقيتة. وممثل كهذا لا يعرف مهنته جيداً. أما الممثل الذي يسأل ويفكر ويقول فلا بد من ان يُسمع تدخله. انا ممثل ذو احاسيس، ولا بد من الاضافة ولا بد من الحذف، ولا بد كذلك من ان يمارس المخرج رقابة على الممثل في اضافاته. المهم معرفة كيف تدار تلك العملية بين المخرج والممثل. لو اصابت مشكلة الـ"أنا" المخرج او الممثل لتضرّر الفيلم. يمكن ان يفيد المخرج من رأي اي عامل على بلاتو الفيلم. · علي بدرخان. - من اجمل وأرقّ وأعذب الناس الذين يمكن أن تتعامل معهم. شفّاف للغاية. اختلفت معه في بعض الافلام، في فيلم "ايام السادات" مثلاً الذي كان مفترضاً ان يخرجه. عرضته عليه بعدما وقع خلاف بيني وبين محمد خان، فراح علي بدرخان يعمل على السيناريو. لكني قلت له: هذا ليس الفيلم الذي ارغب فيه او الفكرة التي ارغب فيها. اصنع فيلماً انطلاقاً من كتاب السادات "البحث عن الذات"، وانت تصنع شيئاً مختلفاً، سيناريو مختلفاً، ولا أقول انك تصنع شيئاً سيئاً. قراري منذ البدء انجاز فيلم ينطلق من هذا الكتاب... وتفهّم ذلك في رحابة صدر، ولم يترك الأمر أثراً سيئاً لديه، بل على العكس، كان يطمئن إليّ والى صحتي يومياً متمنياً الانتباه الى نفسي وصحتي. الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية مع علي بدرخان. بعض المخرجين يجعل من أمر مماثل موضوع خصومة. هنا لي مساحة حرية كفنان ولا علاقة لذلك بالصداقة. الصداقة أن تأخذ ما في جيبي او ان اتبرع لك بدمي لو اصابتك ازمة. اما الفن فهو اختيار وحرية ومتعة. الرفض هنا ليس رفضاً لشخص. · الراحل عاطف الطيب. - كان توأمي. ظروفه النفسية والاجتماعية، والتواصل الانساني في ما بيننا. كان توأمي في الحياة. حين كنت اختلف معه في فيلم يروح يشتمني حبّاً "ازاي ترفض العمل ده". كان يحدثني عن العمل الثاني قبل انهاء الأول، "يحجز عليّ". جميع المخرجين الذين عددتهم لي متميزون واصحاب لغة سينمائية وينبغي الاحتفاء بهم لأنهم في ربع قرن من الزمان، منذ السبعينات والثمانينات والتسعينات رصدوا حركة المواطن المصري والعربي بكل قضاياه ومشكلاته، ووهبوني جميعاً شيئاً اضافياً. ينبغي خصهم بالشكر، كالجيل الذي سبقهم وكان فيه امثال صلاح ابو سيف وهنري بركات وكمال الشيخ واشرف فهمي ونيازي مصطفى وحسن الامام وعز الدين ذو الفقار، واسماء كثيرة اخشى ان انسى احداً منهم. كل جيل يرصد زمنه وحركة الشارع المصري العربي سياسياً واجتماعياً ونفسياً وعلاقات الناس، وبعض المخرجين يملك رؤية مستقبلية وارهاصات بمثابة الانذار. · طرحت على يوسف شاهين قبل أيام سؤالاً حول عدم تكرّر تعاونكما بعد "اسكندرية ليه"، واوجه اليك السؤال نفسه. - ماذا قال لك؟ · قال انه يود كثيراً تكرار التجربة، انما صودف ان لا دور ملائماً لك. - تماماً. · لِمَ لا تسعى من ناحيتك؟ - الممثل ينتظر في بيته ويقرعون بابه. · أحياناً يقرع الممثل باب المخرج. - اقرع بابه حين يكون لديّ فيلم أودّ إنجازه. انما لن أقرع بابه لأسأله: هل لديك دور لي؟ هذا غير معقول على الاطلاق. · تستطيع القول ليوسف شاهين انك تود العمل معه. - هو يعلم اني اودّ العمل معه. وهو يودّ العمل معي. لكنها مسألة اختيار. يختار موضوعاً معيناً يحتاج الى ممثلين بمواصفات معينة. إنني واثق من أنه لو صادف وجود دور لي فسيأتي إليّ يوسف شاهين سريعاً وسآتي اليه سريعاً. · مشهودة لك دقة اختياراتك، لكنك اقدمت احياناً على اختيارات غير جيدة. يمكن ان نذكر مثلاً "كابوريا" لخيري بشارة و"استاكوزا" لإيناس الدغيدي و"مستر كاراتيه" لمحمد خان... - "آه... حَ قول لحضرتك". أحياناً ينجز الممثل ادواراً تتناول قضايا كبرى، مكتوبة جيداً، فتثير شهية الفنان لأنه يحتاج الى فيلم متكامل وشخصية متكاملة تفتح شهيته على الاداء. وأحياناً اخرى تردني سيناريوات لا تتناول قضايا كبرى، فأشعر بأنني احتاج الى الراحة والفرح قليلاً. لو جاءني عمل كبير يتناول مشكلة كبرى معينة لأسرعت الى تنفيذه. لكن لو لم يأتني مثل هذا العمل فاني انجز فيلماً سهلاً، بسيطاً جداً، لأن الناس يحتاجون بين الحين والآخر الى رؤيتك تمرح قليلاً. "كابوريا" الذي ذكرته لعلّه من أجمل الأفلام المصرية التي لو رأيتها مجدداً لنظرت اليها في طريقة مختلفة. شخصية كابوريا كانت انعكاساً للامبالاة التي سادت في المجتمع لفترة معينة، مع الشعور بعدم الانتماء ورغبة الناس في جني المال من غير أن تعمل، فانقسم حتى المثقف على نفسه. الشباب الهامشيون في "كابوريا" جميعهم يمتلكون مهنة، فهذا نجار، وذاك ميكانيكي، وذلك نافخ زجاج... تركوا مهنهم بحثاً عن المال السريع، وراحوا يتمثلون بالشخصيات التي يرونها على التلفزيون، او المغنين، فيحلقون شعرهم ويضعون الحلق ويتسكعون في الشوارع. ويصطحبهم ذوو الحياة الصاخبة ويلهون معهم فيفرحون بذلك. ثمة رسالة جميلة في هذا الفيلم. الكابوريا التي تنجذب من الماء الى النور فيتم اصطيادها، هي اولئك الشبّان الذين رأوا نوراً قوياً، فانجذبوا الى المصيدة مثل الكابوريا، لكنهم شعروا بأنهم يضيعون حياتهم وبأنهم بلا ملامح... أما "استاكوزا" فحول الكرّ والفرّ بين الرجل والمرأة. تسلية. الفن رسالة ومتعة. بين الحين والآخر أرغب في الاستراحة قليلاً ودعوة الناس الى النكتة الحلوة. · ثمة نوعية افلام اخرى لا تسيء الى فيلموغرافيتك فحسب بل الى السينما المصرية والعربية في شكل عام. انها الاعادات لأفلام اميركية مثل "نزوة" وهو اعادة ل"جاذبية قاتلة" الشهير (مع مايكل دوغلاس وغلن كلوز) و"الامبراطور" الاعادة لـ"ذو الندبة" (مع آل باتشينو)... - "التمصير" نوع من انواع العبقرية. المكسيك اعادت فيلم "بداية ونهاية"، فكيف تحوّل الضابط الذي اداه عمر الشريف الى ضابط مكسيكي؟ وكيف اضحت "نفيسة" المصرية مكسيكية؟ تفاصيل الشخصيات عينها، انما كيف اصبحت مكسيكية؟ هذا لأن الانسان واحد في العالم كله. حين تذكر لي "نزوة" فانه حول رجل متزوج واقدم على نزوة يعيشها اي رجل على وجه الارض. الرجل والمرأة، والرجل والمرأة الأخرى. المهم كيف تعالج الموضوع على نحو محلّي. النفوس البشرية متقاربة. قد يقول البعض انه احب "نزوة" أكثر من "جاذبية قاتلة" الأصل الاميركي الذي فيه معالجة تشويقية رائعة، فـ"نزوة" يحمل قبساً كوميدياً. اما "الامبراطور" فهو في الاصل الاميركي مواطن كوبي من الدرجة الثانية، فجعلناه في الاقتباس المصري مواطناً من الدرجة الاولى، وحياته الأسرية مختلفة عن حياة البطل الاميركي. لم نستطع مثلاً الحفاظ على علاقته المحرمة باخته، فحولنا شخصيتها الى شقيق له، وبطل "ذو الندبة" زوجته عاقر فيما ليست كذلك هنا، كذلك علاقته بأمه... تغييرات كثيرة وبيئة محلية. الاميركيون شاهدوا الفيلم ودهشوا حين عرفوا كم بلغت موازنة فيلمنا التي لم تتجاوز المليون دولار قياساً بموازنة فيلمهم التي بلغت ربما عشرين مليون دولار. الموضوعات ملك البشرية. المهم كيف تعالجها. تبديل الاسماء فقط ليس فيه ابداع. ينبغي وضع الشخصيات في إطارها المحلي. "همّ سبعة وتلاتين حدّوتة تبرم كده، تبرم كده". فيلم "موعد على العشاء" الذي لعبته مع محمد خان انجزت منه اعادة انكليزية. "احلام هند وكاميليا" تحوّل الى فيلم مغامرات مع سيدتين متحابتين تفرّان معاً ("تيلما ولويز" لريدلي سكوت). هل هو توارد الخواطر؟ هل هي الارهاصات؟ نطلب فقط الى الذي يقتبس فيلما ان يذكر "عن" كذا. النهار اللبنانية بتاريخ 29 مارس 2005 |
النجم الغائب يوم تحدّث الى "النهـار": قضيتي هي الإنسان ولا أحيا إلاّ على الشاشة حاوره: جورج كعدي |
أحـــمــــــد زكــــــي [1949–2005] إلى مملكــة الوهــم والظــــلال لجــــأ الممثل القَــلِــق والأقــدر والمهــووس بالكــمـال جورج كعدي كتلة من عصب وقلق دائم ومستبدّ كان أحمد زكي، ومن عدم رضى وطموح الى الاتقان لا يرتوي، ومن ألم وكآبة وجودية لازماه منذ الطفولة المضطربة في الزقازيق، شمال مصر، حيث ولد في 18 تشرين الثاني 1949 وحيث توفى والده وكان أحمد لمّا يزل طفلاً يافعاً وتركته أمه لزواج ثان فعاش في كنف جدته حاملاً جروح الهجر وفَقْد الأب والأم والعيش في وحدة وغربة بلا حنانهما. عطب، اذن، ادرك روح احمد زكي الطرية وحمله الى دروب الهرب من الواقع الى عالم متخيّل سيغدو علاج نفسه المضطربة، يبرأ به من أوجاع طفولة متألمة علّمت ندوبها في مسام روحه الى الابد. مهم ان نستعيد طفولة احمد زكي في غيابه المفجع أول من امس، لنفقه منابع انجراحيته المفرطة، وعصابه المزمن، ونهم اشعاله السكائر التي دانى عددها المئة في اليوم الواحد فتسببت له، على الارجح، بسرطان الرئة الذي اودى به ففجع ملايين عشاقه برحيله الباكر. علماً ان ذينك العصب والعصاب [الاحرى وصفها بالعصبية الزائدة التي كان يقرُّ بها] أسعفاه في حرفته المديدة والثرّة ممثلاً قديراً، بل عملاقاً، وفي شحن ادواره المتنوعة بذاك الاداء "المكهرب" والمتوتر والمشتعل صدقاً وحماسة، وفي مدّه بهاجس الاتقان والعمل الدؤوب على تهيئة كل شخصية بالبحث والمراقبة والنزول الى ارض واقعها وواقعيتها، على طريقة نجوم "الاكتورز استوديو" واتباع منهجية ستانيسلافسكي، اي ارجاع الشخصية المؤداة الى جذورها ومكوّناتها الاولى والظروف التي افضت بها الى ما هي عليه من تركيب نفسي وذهني واجتماعي. من قماشة الممثلين الكبار المهووسين بالكمال كان احمد زكي. حرفته هوايته، وهوايته حرفته، بين خشبة مسرح في البدايات إثر تخرّجه من معهد الفنون المسرحية في القاهرة عام 1973، وسينما التهمته والتهمها، تولّهت بحضوره وشغف بعالمها وله فيها نحو 56 فيلماً معظمها من الاجمل في انتاجات السينما المصرية، متنقلاً بين ادوار مختلفة فلم تأسره صورة نمطية، فكان سائق التاكسي "في طائر على الطريق" لمحمد خان، والمزيّن في "موعد على العشاء" للمخرج نفسه، وميكانيكي السيارات في "عيون لا تنام" لرأفت الميهي، والمحامي في "التخشيبة" لعاطف الطيب، والراعي المغوي في "الراعي والنساء" لعلي بدرخان... وكان – في الاصعب – جمال عبد الناصر في "ناصر 56" وانور السادات في "ايام السادات" وعبد الحليم حافظ في "حليم صوت الشعب" آخر فيلم كان يؤديه في فترة مرضه ولم يمهله القدر لإتمامه رغم انه ادى تسعين في المئة من مشاهده في ادارة المخرج شريف عرفة. احمد زكي النجم، الزاهد طوال حياته بالمجد والنجومية، المنسحب من عالم الاضواء الى عزلته الآسرة واقامته الغريبة وحيداً في احد فنادق القاهرة رغم امتلاكه شقة سكنية، اجمع عاشقوه وقادروه الذين ودّعوه بعشرات الآلاف في القاهرة امس على عظمة حضوره في تاريخ السينما المصرية في ادوار خالدة يرشح منها على الدوام الصدق والواقعية، ومردّ ذلك على ما اسلفنا هوسه بالكمال واشتغاله الهوسي على الشخوص المركبة والمتنوعة التي قدّمهاعلى الشاشة، ودائماً في براعة مذهلة وعلى سوية واحدة من الاتقان والإبهار. شغف به الجمهور، انما كذلك السينمائيون الذين تعاونوا معه وهم الألمع والأفضل في السينما المصرية والعربية، من صلاح ابو سيف الى يوسف شاهين ومحمد خان ورأفت الميهي وخيري بشارة وداود عبد السيد وعاطف الطيب وعلي بدرخان وشريف عرفة وآخرين، وكانوا اوائل المبهورين باداء الممثل القدير، الشغوف بحرفته، المحترق في ادواره، المذوّب نفسه في شخوصه، المعطاء والمتفاني، اللائذ بالسينما دواءً لجروح نفسه الكليمة ومنفذاً للهرب من الواقع الى مملكة الوهم والظلال. كان احمد زكي الاقدر لي قبل ان احادثه لـ"النهار"، وبعد الحديث الشائق معه صار الأحب، ففي تلك الجلسة المديدة تعرّفت عن قرب الى احمد زكي المثقّف، الانسان والانجراحيّ، المتواضع والمنعزل، المتولّه بالسينما والكمال... انما خاصة الى احمد زكي القلق المجبول من عصب خلاّق وحزن وجودي مؤثّر، فعشقت يومذاك الانسان خلف هالة النجم، وختمت حديثي معه بقلق شخصي على صحته نشأ من لفافات التبغ التي لم تنطفئ لحظة واحدة من ساعتين برفقته التاريخية معه. نفسي حزينة اليوم على غيابك احمد زكي. النهار اللبنانية 29 مارس 2005
|