لا اريد أن أتحدث عن مرض أحمد زكي أو احتمالات حالته.. فالفنان في رأيي لا يموت، بل يظل حياً ومتألقاً دائماً، بما قدم من أعمال.. لهذا نحن لا زلنا نشاهد نجيب الريحاني ومحمود المليجي وأنور وجدي، وسنظل نشاهد حسين رياض وأمينة رزق ومحمود مرسي بلا هوادة، ونستمع الى سيد دريش وأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الاطرش واسمهان وعبد الحليم دون توقف أو ملل. ولهذا بالذات سأتحدث فقط عن الفنان أحمد زكي: حين شاهدت مسلسل «الأيام»، قبل أكثر من ربع قرن، لأول مرة، لم يكن شيء لافت يميّز هذا الشاب، ببشرته السمراء، وشعره الأكرت ووجهه النحيل، والذي مثّل شخصية الدكتور طه حسين، عن ملايين المصريين العاديين، ولكن حين بدأت بمتابعة حلقات المسلسل كان واضحاً تماماً، بالنسبة لي، أن ثمة موهبة فنية عبقرية خلف هذا الوجه المصري العادي، فهو لم يتقمص شخصية الضرير فقط، من حيث النظرة وطريقة الكلام وحركة الرأس والجسم بل والضحك أيضاً، بل تقمص روح طه حسين بعناده وكبريائه ومعاناته وطموحه النبيل الذي لا يقف شيء في طريقه.. إلى أن اصبح عميداً للأدب العربي وعميداً لكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول.. فوزيراً للمعارف المصرية الذي فرض مجانية التعليم. هذه الموهبة الاستثنائية في قراءة الشخصيات العادية والمعروفة، من الداخل والخارج، ثم تقمصها باقتدار، وصلت إلى الحد الذي ينسى فيه المشاهد الممثل أحمد زكي، ويعايش الشخصية التي يؤدي دورها، وقد تجلّى ذلك عبر عشرات الأدوار السينمائية المتميزة. وهذه الانجازات الابداعية أهلته ليكون أحد كبار نجوم السينما المصرية إلى جانب: نور الشريف، محمود مرسي، عمر الشريف،عادل إمام، ومن هنا لم يكن غريباً أن يحصد العديد من الجوائز المحلية والدولية، بل إنه احتكر جوائز أفضل ممثل مصري لعدة أعوام متلاحقة. والى جانب السينما ترك أحمد زكي بصمة لافتة في مسرحية «مدرسة المشاغبين»، رغم صغر دوره، كما شد الانتباه في مسلسلات تلفزيونية متميزة مثل: «الأيام»، «هو و هي»، «الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين»، «نهر الملح»، «أنا لا أكذب ولكني أتجمل» الذي تحول الى فيلم سينمائي. هذا التميز الفني يطرح السؤال المعتاد وهو: هل المسألة هي مجرد موهبة فنية فطرية؟ وقدرة خارقة على تقليد الشخصيات بل والأصوات أيضاً، كما فعل ذات مرة وهو يقلد حركات وأصوات محمد رشدي وشفيق جلال ومحمود المليجي وعمر الشريف وهما يغنون «موعود» لعبد الحليم حافظ؟ ثم بعد ذلك في تقليد عبد الناصر والسادات وحليم، وكان على وشك تقديم حسني مبارك أيضاً؟ إن مسيرة أحمد زكي الفنية تخبرنا بأن الأمر ليس مجرد موهبة بل هي جهد ودراسة وبحث حي في تكوين الناس وقدرة على ملاحظة حركاتهم وسلوكهم ولهجاتهم ومفرداتهم وطريقتهم في الكلام. ولعل ما يوضح ذلك قصته مع مسلسل «الأيام» وفي تقديمه لشخصية طه حسين. كانت البداية، كما رواها محمد فاضل أن الراحلة تماضر توفيق قد قامت بتكليف المنتج ممدوح الليثي بإسناد هذا الدور الي ممثل ناشيء شاهدته في بعض الأعمال التليفزيونية، وكان هذا الممثل هو الفنان أحمد زكي. فما الذي فعله الفنان أحمد زكي حين كلف بلعب دور عميد الادب العربي؟ـ بداية حاول أن يعرف كافة التفاصيل الإنسانية المتعلقة بشخصية طه حسين ، ومن هنا «انطلق إلى منزل الراحل محمد حسن الزيات ، صهر طه حسين ، ومعه المخرج الراحل يحيى العلمي، وانبرى أحمد زكي لسؤال الزيات: هل كان العميد يحب النكات ؟ وامتعض الزيات من السؤال ، فتدارك زكي: أقصد هل كان يحب الضحك؟.. وانفرجت أسارير الزيات ، وهو يسرد عليهم العديد من المواقف ، التي تنم عن شخصية العميد المرحة ، وميله الفطري إلي الفكاهة والضحك»كان الزيات يروي وزكي يختزن مكونات وسلوكيات شخصية هامة لم يسبق له أن رأها عن قرب والمطلوب منه تقديمها عبر الشاشة الصغيرة، وكانت النتيجة نجاحاً باهراً باجماع آراء النقاد والناس. كانت تلك نقطة الانطلاق من عالم الأدوار الصغيرة والثانوية الى عالم النجومية. إنها مجرد بداية ناجحة كان يمكن أن تتحول الى قيد على الفنان أحمد زكي فتأسره، في أدوار مشابهة ومحددة ولكنه لم يستكن لشخصية نمطية تميز فيها في هذا المسلسل أو ذاك الفيلم بل راح يتجاوز نفسه باحثاً عن شخصيات جديدة مركبة حتى لا يحدث معه ما حدث مع غيره من كبار النجوم حين استكانوا إلى (كاركتر) أو قالب جاهز عرفوا به.. وهذا هو الأرق الجميل الذي يميز الفنان الحقيقي عن مجرد النجم المشهور.. فيكون أن يبقى ويتقدم ويتميز. ومن يتابع رحلة أحمد زكي السينمائية يلحظ هذه الرغبة العارمة بالتجاوز في معظم أدواره، سواء الشخصيات المعروفة منها كما في: «ناصر 56»، «أيام السادات»، «شفيقة ومتولي»، «أيام طه حسين» أم في تقمص أدوار الشخصيات العادية حيث نجده على هيئة سائق في «طائر على الطريق»، فإذ به شكري الكوافير في «موعد على العشاء»، ثم في دور مركب للأهبل وضابط المخابرات في «الباطنية»، والصعلوك المسحوق والمتمرد أحمد الشاذلي في «العوامة 70» وحسن هدهد في «كابوريا»، ثم هو البواب الصعيدي ذو الذكاء الفطري، في فيلم «البيه البواب»، وهو«عيد» الهامشي المتصعلك في «أحلام هند وكاميليا» ، أما أجمل أدواره، في تقديري، فكان الريفي شديد التخلف أحمد سبع الليل في فيلم «البريء».. حيث لعب دور شرطي الأمن المركزي المكلف بحراسة السجناء السياسيين وتعذيبهم، ولا ينسى أحد بالطبع أداءه المتميز لدور رجل المخابرات الكبير، في «زوجة رجل مهم»، ودور الطبال في «الراقصة والطبال»، والملاكم في «النمر الأسود»، والفنان البوهيمي في «هستيريا»، والمحامي المرتشي في «ضد الحكومة» ودور ابراهيم الضحية في «إسكندرية ليه»، ودور المصور الفنان في «اضحك الصورة تطلع حلوة» والطالب الجامعي الملتبس الشخصية في فيلم «أنا لا أكذب ولكني أتجمل»، ثم أدواره المتميزة في: «أرض الخوف»، «الرجل الثالث»، «شادر السمك»، «الهروب»، «عيون لاتنام»، «الحب فوق هضبة الهرم» وغيرها وغيرها.. وكان على زكي في العديد من هذه الأدوار امتلاك صفات وقدرات جسدية ذات مرونة عالية تتيح له امكانيات أداء دور الملاكم أو عصبجي الشوارع بنفسه وبدون بديل. وقبل امتلاك الشروط والمواصفات الجسدية هناك بالطبع اعداد النفس لتقمص أدوار شخصيات ينسى الناس معها الممثل أحمد زكي بل كان عليه هو نفسه أن ينسى نفسه.. مما قد يكون قد ترك بصمات وأثلام من هذه الشخصيات على شخصيته هو، وربما بقدر ما ترك هو من بصمات عليها. ويجمع كل من يعرف أحمد زكي عن قرب أن «روحه كانت لا تعرف الهدوء أبدا، ولا يفارقه شبح القلق حتى وهو في ذروة شهرته ونجاحه». ومثل هذا القلق الفني العاصف هو الذي يؤشر إلى الفنان الحقيقي فيه، لأنه النبع الذي لا ينضب الذي كان أحمد زكى يستمد منه القدرة على التجدد والتطور، وهو، كما وصفه أحدهم «القلق - المرضى في بعض الأحيان - الذي كان يدفع الفنان إلى حافة التوحد الكامل مع الشخصية التي يقوم بأدائها، أو لعل الشخصية هي التي كانت تحاول أن تعيش في جسد أحمد زكى»، إنه كما قلنا القلق الذي كان السبب وراء ذلك البحث عن التجدد والتغيير في الأدوار التي جسدها، حتى باتت وكأنها شخصيات حقيقية من لحم دم. ولا نظن غيره قد وصلها على هذا النحو من التنوع والإبداع. ومثل هذا الخلق الإبداعي للشخصيات يذكرني بشخصيات نجيب محفوظ في أحياء القاهرة الشعبية.. فحين زرت هذه الأحياء لأول مرة في بداية الستينات كان يخيل لي بأنني سأرى السيد أحمد عبد الجواد في واحدة من دكاكين «بين القصرين» أو أحمد عاكف في مشيته المتعبة وبدلته المخططة يسير في أحد أزقة «خان الخليلي»، أو بأني سأسمع في أية لحظة الضحكة المجلجلة لأحد أبطال «زقاق المدق» وهو يصرخ «ملعون أبو الدنيا»! وهنا تتجلى عبقرية الإبداع الفني حين يحيل الخيال الروائي إلى واقع، وكذلك حين يحيل الواقع، كما في «الناصر 56» إلى ما يشبه التخييل الفني! وهذا هو الفنان أحمد زكي، وتلك هي بعض أيام الزمن الجميل للفن العربي. الرأي الأردنية بتاريخ 28 مارس 2005 |
أيام.. أحمد زكي نزيه أبو نضال |
الموت يغيب احمد زكي.. رحيل النمر الأسود عمان - ناجح حسن مضى الممثل احمد زكي الى مصيره المحتوم (56) عاماً بعد فترة صراع مع مما شكل خسارة فنية من النادر تعويضها. امتلك صاحب «ارض الخوف» احمد زكي على نقيض اقرانه من الممثلين قدرة لا يستهان بها على التلون في كل الشخصيات والمواقف وتجدده الدائم كممثل واع ومتفهم بحرص مبالغ فيه احياناً على تفاصيل بسيطة للدور المناط تجسيده على الشاشة البيضاء، فقد اثرى في سائر اعماله السينمائية حدود الادوار المرسومة له بالمزيد من النجاح ووقف في محطات امام امتحانات عصية على طاقات تعبيرية مكرسة ونجح فيها جميعاً من اقصى الكوميديا والمرح الى اقصى ملامح الحزن الظاهر منه والدفين وعرف بذكاء نادر كيف يحلق بالدور ويستفيد منه في تجاوز الكثير من مطبات العمل. فمنذ مسيرته الطويلة مع السينما المصرية التي بدأت في المسلسل التلفزيوني «الأيام» مودياً فيه دور الاديب طه حسين ظل زكي محافظاً على انطلاقته التمثيلية ووجهها صوب السينما بعد ان جرب نصيباً منها في مسرحية «مدرسة المشاغبين» واستطاع رغم قصر الدور المرسوم له فيها ان ينتزع اعجاب المتفرجين بين ثنايا المواقف الكوميدية التي وضع فيها زملاءه الآخرين وتوارى وحده في اقصى الخشبة لاعناً وضعه البائس واحباطاته. لكن خطواته الاولى في السينما ظلت تؤكد على وجود خامة سينمائية تبحث عمن يوفر لها الفرصة ، وكان ان بدأت ادواره الاولى تفرض اهميته واداءه الخاص القادم من اعماق الدور متوهجة بلمعان مميز رغم محدودية الدور كما بدا بافلامه: «الباطنية» (1980) لحسام الدين مصطفى، و«العوامة 70» (1982) لخيري بشارة و «الراقصة والطبال» (1984) ، و «سعد اليتيم» (1985) لاشرف فهمي، وفيلم «شادر السمك» (1986) لعلي عبدالخالق، ومع هؤلاء جميعاً من المخرجين شهد اداؤه مذاقاً جديداً للظاهرة النجومية في السينما المصرية لما تحتويه من تدفق يفيض بالاحاسيس والمشاعر داخل الشخصيات التي تنفذ الى تنوعها في فضائها الخاص الا بعد سنوات قليلة وذلك حين منحه المخرج علي بدرخان احد الادوار الخاطفة بفيلم «شفيقة ومتولي» وفيه جسد شخصية الشاب الصعيدي متولي الذي اخذته السلطات للعمل بالسخرة في حفر قناة السويس ورغم انه يظل في خلفية الاحداث الا ان غيابه في لحظات عديدة عن الشاشة كان يجعل المشاهد يتأكد من ان وجوده هو الضمان المفقود حتى لا تسقط شقيقته «شفيقة» في اوكار الفساد، وفي حجم الدور القصير اللافت ذاته يؤدي زكي امام كاميرا يوسف شاهين بفيلم «اسكندرية ليه» ما يلخص حالة الفساد الاجتماعي في مصر ابان حقبة مليئة بالتحولات ولم ينبري بالدفاع عنه سوى ذلك المحامي الهرم وسط زحام اللغو الذي لا يفيد. بيد ان انطلاقة احمد زكي الحقيقية بزغت مع ظهور تيار التجديد في السينما المصرية وقاده مجموعة من المخرجين الشباب امثال محمد خان، وخيري بشارة وعاطف الطيب وسواهم مما منحه ذلك الألق الابداعي والذي سيجد طريقه الى قلوب المشاهدين، ويتميز عن سائر الوجوه المألوفة للمشاهد، لما جسده من التصاق متين بالسواد الاعظم منهم، عدا عن الاحداث التي تدور في الازقة والشوارع والبيوت المقامة على هامش المدنية الكبيرة، وان دلف الى اعماق المدينة طحنته بالقوى الصاعدة بقوة بما تملكه من فهلوة وكسب سريع جراء التحولات السياسية والاقتصادية التي بدأت بالنمو باساليبها الخبيثة، ففي فيلم «موعد على العشاء» يلعب دور الحلاق النسائي الذي يقع في علاقة حب مع المرأة الثرية، وبفيلم «طائر على الطريق» نراه يسوق سيارة تاكسي وبعين تمسح الامكنة والبشر ولا يستطيع ان يزيل مسحة الحزن عما يصادفه من الوان العذاب اليومي، وهو على غرار ذلك نجده تحت ادارة خيري بشارة بفيلم «عيون لا تنام» في حياة مليئة بالصراع داخل افراد اسرة تشتت افرادها جراء ممارسات الأخ الكبير، والقادم من بيئة اجتماعية تدفعها حاجة تطلعها الى الثراء الى المزيد من الانقسامات والفقر. احمد زكي ليس مجرد نجم يلمع مستمتعاً تحت الاضواء، لكنه ظل عاشقاً للسينما، وباحثاً عن ادوار تلبي طموحاته ورغباته، وعانى في سبيل ذلك الشيء الكثير، فنراه يؤدي تحت ادارة محمد خان وخيري بشارة و د. وود عبدالسيد قاماته السينمائية: «احلام هند وكاميليا». و «كابوريا» و «ارض الخوف»، لكنه لا ينفصل بتاتاً عن جيل سينمائي سابق مثال يوسف شاهين، وعلي بدرخان، وصلاح ابو سيف، وحسام الدين مصطفى فقد ظلت افلامه : «الباطنية«، «البداية» تحمل الكثير من التألق واللفتات الذكية في لحظات الضعف الانساني او القوة والكبرياء في لحظات اخرى، تلك هي الروح المفعمة بالحياة التي قادت نجماً مثل احمد زكي في سنوات قد لا تبدو طويلة في نظر البعض بأن تكرسه كواحد من ابرز نجوم الاداء التمثيلي في فضاءات السينما العربية.
وزكي من مواليد العام 1949 بالزقازيق التحق بمعهد الفنون المسرحية عمل
اثناء دراسته في مسرحيات «هاللو شلبي»، «مدرسة المشاغبين» ، وعقب تخرجه
العام 1973 عمل في مسرحية «اولادنا في لندة»، «العيال كبرت» ثم اتجه صوب
التلفزيون وقدم مسلسلات «الايام»، هي وهو» «انا لا اكذب ولكن اتجمل». افلامه السينمائية «بدور» (1974)، «ابناء الصمت» (1977)، «صانع النجوم »(1978) ، «العمر لحظة» ، «وراء الشمس» «شفيقة ومتولي» (1979»، «اسكندرية ليه » (1980) «الباطنية» (1981)، عيون لا تنام»، موعد على العشاء» ،«طائر على لطريق» 1982» العوامة 70»، «الاقدار الدامية» 1983، «درب الهوى» «الاحتياط واجب»، «المدمن» (1984) «الليلة الموعودة» «الراقصة والطبال» «التخشيبة» «النمر الاسود، «البرنس» (1985)، سعد اليتيم» (1986)، شادر السمك» «الحب فوق هضبة الهرم»، «البريء» 1987، «اربعة في مهمة رسمية»، «البيه البواب » 1988، زوجة رجل مهم، احلام هند وكاميليا»، «الدرجة الثالثة 1989 ، «الهروب» «الراعي والنساء» 1992، «ضد الحكومة» 1993 ، «مستر كاراتيه» ، «الباشا» 1994، «سواق الهانم» 1995 «الرجل الثالث» 1996، «استاكوزا» «ابو الدهب» «نزوة» ، «ناصر 56» 1997، «حسن اللول 1998 ، «ارض الخوف» «اضحك الصورة تطلع حلوة» (2000) «ايام السادات» 2002. الرأي الأردنية في 28 مارس 2005
|