ملفات خاصة

 
 
 

ديفيد لينتش الرجل الفيلم

ما الذي يجعل سينما هذا الرجل، الذي مارس اليوغا وبحث في الأعماق، أيقونية ومشبّعة بهالة من الغموض؟

هوفيك حبشيان/ المصدر: "النهار"

عن رحيل المخرج العبقري

ديفيد لينش

   
 
 
 
 
 
 

المخرج الأميركي الراحل عن 79 عاماً، الجامع بين الغموض والتأمل والأحلام، شخصية لا يوجد من يوازيها في السينما الأميركية المعاصرة. موهبة استثنائية من الصعب ان تتكرر. صوته، الذي يشبه قأقأة البط، وملامحه المميزة بتسريحة الشعر العمودية والأناقة المخملية التي يختلط بها دخان سيجارته (كان مدخّناً شرهاً)، تتناغم مع عالمه السينمائي العجيب الذي انكب عليه النقّاد رغم انه لم يكن سهلاً عليهم حصره في فكرة أو نهج. ذلك ان لينتش هو هذا كله، ولا شيء من هذا في الحين نفسه. اهتم بالأحاسيس وما يبثّه هذا الفنّ في النفوس من خلال إغواء الصورة والصوت أكثر من أي سعي إلى البحث عن الحقيقة. أنه أكثر الفنّانين بُعداً من الواقع، رغم ان هناك من يحاجج بالعكس. ولكن، ما الذي يجعل سينما هذا الرجل، الذي مارس اليوغا وبحث في الأعماق، أيقونية ومشبّعة بهالة من الغموض؟ كيف تمكّن هذا الذي ولد في مونتانا من أن يصبح أحد أعظم السينمائيين الأميركيين وأكثرهم محلاً للاعجاب في العصر الحديث؟

لم يكن لينتش مجرد مخرج يقف خلف الكاميرا ويعطي التعليمات، بل كان أيضاً منتجاً وكاتب سيناريو، وأحياناً كاميرامان كما في فيلمه الأخير. لم يتوقّف عند هذا الحد، بل شملت وظيفته أيضاً تصميم الديكور والمؤثّرات الخاصة وهندسة الصوت. حتى التأليف الموسيقي وكتابة الأغاني لم يكونا عصيين عليه. لا يكفي القول إنه سينمائي متكامل، بل هو فنّان شامل، بدأ مسيرته على أصعدة متعدّدة ونجح في دمجها بطريقة مذهلة. في قلب أعماله، نجد تداخلاً بين الصوت والصورة، وتخيلات تتشكّل على الشاشة وتحمل في طياتها رموزاً يعجز النقد التقليدي عن تفسيرها.

لم تكن أفلامه مجرد سرد للأحداث، بل تجارب حسية غنية بالتفاصيل التي تفتح المجال للتأويلات وتحمل تأثيرات من تشكيليين مثل إدوارد هوبر وجاكسون بولوك. وظّف كاميراه كريشة ترسم مشاهد مليئة بالفراغات وتحاكي اللوحات أكثر ممّا تحاكي الأفلام

في مطلع السبعينات، بينما كان لينتش في آخر العشرينات، حلم بأن يصبح رساماً. كانت طباعه هادئة. الكوميديات البهلوانية وأفلام الوسترن، التي أسّست لجزء من أسطورة السينما الأميركية الشعبية، أثارت في نفسه اللامبالاة، حتى أنه لم يكتشف أعمال المخرجين الأوروبيين مثل إنغمار برغمان وفيدريكو فيلليني إلا لاحقاً، عندما التحق بمعهد بنسلفانيا للفنون الجميلة. كانت هذه أول اللقاءات المهمة له مع عالم السينما، خاصةً حين شاهد افتتاحية "ساعة الذئب" لإنغمار برغمان. المشهد الذي يصطاد فيه ماكس فون سيدو السمك مع صبي صغير، وينتهي بمقتل الأخير، زرع في قلبه شعوراً بالقلق والاضطراب. لم يكن القرار بالتحول إلى السينما مدروساً، بل جاء محض مصادفة، حين هبّت الرياح على إحدى لوحاته في ورشته الجامعية، فتحقّق له وحي "الرسم المتحرك". في تلك اللحظة شعر أن اللوحة، رغم جمالها، عاجزة عن التواصل مع حاستي السمع والبصر في آن واحد، ممّا جعله ينظر إلى السينما كوسيلة جديدة لتحقيق هذا الاتصال.

من دون أي خبرة تقنية في مجال السينما، اشترى لينتش كاميرا 16 ملم وراح يصوّر أفلاماً قصيرة كان يعتبرها بمثابة "لوحات متحركة". وبتشجيع من معهد الفيلم الأميركي، الذي أعطاه منحة بقيمة عشرة آلاف دولار، انطلق في مغامرته الكبرى: "رأس ممحاة " (1977). تحوّلت عملية إنتاج هذا الفيلم إلى كابوس فعلي، استغرقت أربع سنوات من العمل المضني، اضطر خلالها لينتش إلى بيع الصحف لتغطية تكاليف التصوير. وعندما انتهى منه، رفضته مهرجانات سينمائية كبيرة مثل نيويورك وكانّ، لكن الموزّع المستقل في نيويورك كان له رأي آخر؛ فقد برمجه في إحدى صالات العرض المخصّصة لسينما المؤلف، حيث ظل يُعرض هناك سنوات عدة، مكتسباً مع مرور الوقت مكانة شبه مقدّسة بين السينيفيليين.

"رأس ممحاة" من أكثر الأفلام غرابةً وغموضاً في تاريخ السينما. فهو رحلة بصرية مكونة من لحظات قلق واضطراب تعكس مخاوفنا وأعماق وعينا الباطن. لينتش، الذي كان اعتاد العمل مع الأصوات والألوان على نحو غير تقليدي، ابتكر شريطاً صوتياً يتألّف من شرائط قديمة كانت تلقيها استوديوات هوليوودية كبرى في القمامة، ممّا أضاف طبقة من التشويش على الأجواء الكابوسية التي حاول الفيلم فرضها. تدور أحداث الفيلم في مدينة صناعية، حيث نتعرف إلى رجل عادي يعيش حياة رتيبة حتى اليوم الذي تُنجب فيه زوجته طفلاً يبدو أقرب إلى المسخ منه إلى الإنسان.

لم يتأخّر كبار السينمائيين في التعبير عن إعجابهم بهذا الفيلم الطليعي. من بينهم ميل بروكس، جون ووترز وستانلي كوبريك، الذي صرّح بأنه كان يتمنّى لو كان هو من أخرج هذا العمل الذي ينتهي بمشهد قد يُعتقَد أنه القيامة ذاتها. بهذا الفيلم، بدأ لينتش في بناء أسطورته الخاصة، مع إصرار دائم، لم يتخلّ عنه قط طوال حياته، على تقديم أعمال ترفض التصنيف التقليدي وتحفر في أعماق البشر على نحو لا يجرؤ الكثيرون على الاقتراب منها. في هذا المجال، لم يساوم ولم يتنازل حتى الرمق الأخير.  

في أواخر السبعينات، بينما كان يعمل مصلّحاً لتسقيف المنازل، تلقّى لينتش اقتراحاً لتصوير "الرجل الفيل" (1980)، المقتبس من القصّة الشهيرة عن حياة الرجل المشوّه جون ميريك. كانت القصّة في حاجة إلى مخرج يمتلك رؤية سينمائية تبتعد عن المسارات التقليدية، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالنكهة الكلاسيكية. بدا لينتش الخيار المثالي للقيام بهذا التحدي، نظراً إلى قدرته على تقديم هذا العمل بصورة تعكس التوتّر النفسي والمجتمعي للمأساة التي عاشها ميريك.

تعاون لينتش في هذا المشروع مع مدير التصوير فريدي فرانسيس، الذي منح الفيلم طابعاً بصرياً معبّراً. كما ان الديكورات جاءت لتشيع الإحساس بالانغلاق ولتُكمل أجواء الاضطراب الداخلي. لكن بعيداً من جماليات الفيلم المعقّدة، بدا أداء أنتوني هوبكنز استثنائياً، مانحاً الشخصية عمقاً إنسانياً. ورغم ان الفيلم كان مشبّعاً بالكآبة، جاءت النهاية، على عكس "رأس ممحاة"، نابضة ببصيص من الأمل.

بعد هذين الفيلمين اللذين وضعا لينتش على خريطة المخرجين الذين يعملون على هامش هوليوود، بدا من السهل عليه دخول "نادي الكبار". لكن الحياة لا تجري دائماً وفق الأمنيات، فكان فيلمه الثالث "كثيب" (1984) ضربة قاصمة لمسيرته في ذلك الوقت. اقتباسه لرواية فرانك هربرت، التي تُعد من كلاسيكيات أدب الخيال العلمي، كان في حينها من أكثر المشاريع السينمائية تكلفةً، لكنه تعرض لانتكاسة تجارية كبيرة. لم يكن لينتش الخيار الأول لهذا المشروع الضخم، إذ كان المنتج الإيطالي دينو دو لورنتيس قد عرض الفكرة أولاً على ريدلي سكوت الذي رفضها. ثم جاء دور لينتش، الذي كان قد رفض العمل في "عودة الجيداي" من إخراج جورج لوكاس، لأنه لم يكن ينجذب لهذا الجانر. بعد فشله في شبّاك التذاكر، أصبح لينتش هدفاً لانتقادات لاذعة، حيث اعتبر النقّاد أن فيلمه صعب الفهم، مفكّك وغارق في مؤثراته البصرية على حساب السرد. رأى بعضهم أن ضخامة المشروع قد طغت على قدرة المخرج على الإمساك بكلّ العناصر. ومع ذلك، يعتبر "كثيب" خطوة أساسية في مسيرته، ذلك انه تعلّم معها كيف يبتعد من ضغوط هوليوود ويظل مخلصاً لرؤيته الفنية.
مع "مخمل أزرق" (1986)، وصل ديفيد لينتش إلى خلاصة فنّه السينمائي. أطلق رحلة إلى أعماق النفس في فيلم يعكس تركيزه على الظلال والأسرار. في هذا الفيلم، الذي يبدو للوهلة الأولى مجرد قصّة عن اكتشاف غريب أثناء زيارة لكارولاينا الجنوبية، يحملنا لينتش إلى الغموض الذي برع فيه من خلال تحويل الحياة اليومية إلى معترك مظلم يغرق فيه بطل الفيلم، جيفري، ليجد نفسه في مواجهة مع الشر والمغريات التي تلوح له من كلّ الجوانب. ما يميز هذا العمل هو قدرة لينتش على خلق جو مشحون بالتوتّر، حيث تلتقي عناصر الفحش، السادومازوخية والمثلية، في قالب سينمائي مذهل يجسّد التحولات النفسية للشخصيات داخل عالم يبدو كلّ شيء فيه ملتوياً
.

لينتش، الذي لطالما فرّق بين "المصنع" و"المحترف"، وضع في هذا الفيلم تحية إلى سينما الأربعينات الهوليوودية، محاكياً أسلوبها في تصوير الجريمة والتشويق، لكنه دمج هذه التيمات مع شعوره الخاص حيال الفنّ، ممّا جعل الفيلم تجربة بصرية لا تقارَن بسواها من التجارب. من اللحظات الأيقونية: تلك اللقطات المتتالية على وجه إيزابيلا روسيلليني، التي شاركت لينتش في علاقة شخصية لفترة، فضلاً عن استخدامه حركة "الترافيلينغ". ومع الموسيقى الهيبنوتية التي وضعها أنجيليو بادالامنتيه، كان لينتش قادراً على خلق انسجام بين الصوت والصورة، ليجعل من هذا الفيلم قطعة فنية لا تزال إلى اليوم تتمتّع بقوتها السحرية

في التسعينات، جاء لينتش ليحجز مكاناً له على الشاشة الصغيرة مع مسلسله "توين بيكس"، الذي سرعان ما أصبح ظاهرة تلفزيونية. هذا المسلسل، الذي تحلّت قصّته بأسلوب معقّد وموغل في التفاصيل، جذب جمهوراً من جميع أنحاء العالم حول سؤال محوري: "من قتل لورا بالمر؟". وبعد 29 حلقة، أصبح "توين بيكس" جزءاً لا يتجزأ من تاريخ التلفزيون. وفي عام 1992، جاءت محاولة لينتش للانتقال بفكرة المسلسل إلى السينما. رغم إخراجه بلغة بصرية مذهلة، شكّل انتكاسة جماهيرية أضفت على حيرة النقّاد حيرة جديدة، بما يتماشى مع أسلوبه في إرباك المتلقي وخلق تجربة مشاهدة أقرب إلى الكابوس منه إلى الحلم.

في العام 1990، فاز لينتش بـ"السعفة الذهب" في مهرجان كانّ عن "وايلد أت هارت"، الذي اختلفت حوله الآراء. جاء الفيلم كنوع من إعادة تأكيد لمدى قدرته على صناعة حالة جديدة، من خلال تيمة التمرد على الشاشة. أداء نيكولاس كايج ولورا درن في أدوار لم تكن سهلة نفسياً كان قد بلغ ذروتهما في هذه التجربة المعقّدة، ليبرهن لينتش أنه يظل، كما كان دائماً، في طليعة السينمائيين الذين لا يمكن تقييدهم في نوع معين

ثم جاء "الأوتوستراد الضائع" (1996)، الذي أضاف مزيداً من الغموض إلى لغة لينتش السينمائية. هذا الفيلم، الذي يزدحم بالأحاجي والتشابك الزمني، كان بمثابة "جردة حساب" لأعماله السابقة. بدا أكثر انغماساً في استكشاف المسارات المظلمة للنفس البشرية. وقبل حلول الألفية الجديدة، قدّم رائعته "قصّة مستقيمة" (1999)، عن عجوز يسافر كي يتصالح مع شقيقه. فيلم يحمل كلّ تيمات لينتش، رغم انه يتظاهر بعكس ذلك من خلال بساطته وتقليديته

"مولهولند درايف" (2001)، تحفة شعرية جديدة في مسيرته، أعادت موضعته كواحد من معلّمي صناعة الصور في العالم. هذه المرة، تناول لينتش هوليوود في فيلم كان بمثابة دراسة للنور والظلال في عاصمة السينما الأميركية. جمع فيه كلّ شيء: الذاكرة، الهوية، الواقع الممزّق بين الكوابيس والأحلام. شخصية ريتا التي فقدت ذاكرتها تمثّل الدخول إلى عالم موازٍ من الضياع والحيرة، من الواقع والوهم، ومن بين كلّ ذلك، يطل برأسه كلّ ما يختبئ وراء بريق هوليوود.

مع "أمبرطورية إينلاند" (2006) الذي يُعتبر بمثابة وصيته السينمائية، يضعنا مرة أخرى في مواجهة الرعب الوجودي والموت الذي يتربّص بشخصياته. في هذا الفيلم، حيث تتداخل الأبعاد بين الحلم والواقع، نكتشف لينتشاً يعمل على تفكيك اللغة السينمائية، وبناء عالم صوتي بصري غير قابل للتفاوض، بحيث ان الأزمنة والأمكنة تجعل من الواقع نفسه لعبة في أيدينا.

 

النهار اللبنانية في

24.01.2025

 
 
 
 
 

ديفيد لينش... في إثر فكرة تلحين الصمت

علي موره لي

في فيلم "الرجل الفيل" (The Elephant Man) إنتاج 1980، للمخرج ديفيد لينش (1946 - 2025) الذي رحل منتصفَ يناير/كانون الثاني الحالي، يمنّ المشهد الأخير على الشخصية الرئيسية بدفء الموت في السرير، حيث لا بَرْد تقاسيه غيرَ الوحدة؛ قد قضى جون ميريك الممسوخ نتيجة تشوّهات مرضيّة المنشأ، حياةً أثخنَها ظلْم الناس، لا عطف فيها سوى من أمٍ فَقدها مُبكّراً، ولا رحمة إلا من عند الرب. لذا، ثمة صورتان لوالدته يضيئهما مصباحٌ بجانب الوسادة. وعلى مقربةٍ منه، مُجسّمٌ مُصغّرٌ لكنيسة

ديفيد لينش المعروف بالغرائبيّة والنزعة الطليعيّة والخروج عن المعالجة السينمائية التقليدية، لم يأت بخيارٍ موسيقيٍّ غير عادي لأجل مصاحبة مشهدِ موت ميريك وحيداً في غرفته؛ فأيُّ مقطوعةٍ أشدُّ ارتباطاً بالرثاء من تلك المعنونة "آداجيو" (Adagio) للمؤلّف الأميركي صامويل باربر (Samuel Barber) الذي كتبها سنة 1939، لتكون في البدء الحركة البطيئة من عملٍ ذي عدّة أجزاء، صُمِّم لفريق رباعيٍّ وتريٍّ، أتى استلهاماً لقصيدة "غيورغيكا" الملحمية للشاعر الإغريقي فرجيل.

ثم ليُعيد باربر نفسه توزيعها في ما بعد لأوركسترا موسّعة من آلات الوتريات ذات الأقواس، فتُصبِح من بين أكثر مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية جماهيريةً وتوظيفاً لدى صُنّاع الأفلام خصوصاً. لعل السبب يكمن، أولاً، في سكونيّة الدّفق الإيقاعي، الذي يُوجّه سيرَ جملها اللحنية، كأنها سُحب غمٍّ في سماء النفس، تدفعها الأنفاس بهدوء مهيب، ما جعل منها خلفيّةً سمعيّة مثاليةً، لا تطغى على الواجهة المرئية للسرديّة الدراميّة.

أما ثانياً، فأثرُها الشجِن الناتج عن تسلسلٍ هارمونيٍّ معقّد مستوحى من الحقبة الرومانسيّة المتأخّرة، يعتمد توالد انقباضاتٍ نغمية وانفراجات، تستجيب لها الجملة العصبية بتوليد مشاعر الحزن.  لذا، فإن المقطوعة بحدّ ذاتها نوع من الموسيقى التصويرية.

لعلّ الغاية الدرامية من توظيفها هي حضّ المشاهد على استقراء ليلة خلودِ ميريك إلى النوم على أنها ليلته الأخيرة، لكن من دون تصريح، لا نصّاً ولا تمثيلاً، ما خلا تحريك الكاميرا ببطء نحو النافذة المفتوحة، ثم تقريب العدسة جهة الستائر، ترصد كيف تهزّها الريح، إيحاءً بانسلال الروح عبرها من الجسد إلى الفضاء الفسيح؛ لئن كانت "أداجيو" من بين المقطوعات الأوثق صلةً بموضوعة الموت، فإنها تؤكّد حضوره، وإن في حدود مجازيّة الموسيقى، وعليه تُفسح المجال أمام لغة السينما لكي تغور في الرمزية.

وبينما لا يزال وقعها يُسمع وإن في خفوت تدريجي، يذوي المشهد، بأن ينحلّ في لوحةٍ شعريةٍ من فن الفيديو، تُشاهَد عبر عدسة الكاميرا من منظور الشخصية الرئيسية، أو ما يُصطلح عليه سينمائياً Point of view، فيما يبدو أنها روحُ ميريك تعرجُ في عُلا الكون، حيث يتراءى له وجه أمه من داخل ثقبٍ أسود، يستعيد طمْأنتها له حينما كانت على فراش الموت، وهي توشك على تركه وحيداً، تخبره بأن "أبداً، إنّ ما من شيءٍ يموت، لم يزل الماء يجري، والريح تهبّ، الغيوم تحوم، والقلب يَدقّ". 

بالعبور إلى شارة النهاية إبّان البدء بعرض أسماء أطقم التمثيل والتصوير والإنتاج، التي جرى العرف السينمائي أن تترافق إما بمقتطفات من موسيقى الفيلم التصويرية أو أغنية أو مقطوعة آليّة ترتبط به موضوعياً أو تستقل عنه، سيتجلّى خَرقُ ديفيد لينش للعادة، وخروجه المبتكر عن المألوف؛ إذ سيعتمد اللوذ بالصمت خِيارَ تشكيلٍ صوتي يتذيّل مقطوعة "أداجيو".

قد شهِدت من قبل كثيرٌ من شارات النهاية في السينما الناطقة، خاصةً الفنيّة منها أو البديلة، الاكتفاء بالصمت عبر الاستغناء كليّاً عن المصاحبة الموسيقية. غير أن ديفيد لينش لم يُغيّب الصوت كُليّاً عن الخاتمة ليحلّ الصمت عوضاً عنه، وإنما أحدث للصمت صوتاً، كما لو أراد أن يضع له لحناً، فاختار ما يُشبه هديرَ الهواء عند مَلْئِه الخلاء. بذلك، إنما يتجلّى نهجه المفاهيمي إزاء التعبير الفني، إذ لطالما تحدّث عن الفكرة (Idea) بوصفها البذرة التي ينبت منها الإبداع

تتقاطع مَفهَمة ديفيد لينش للصمت موسيقياً من خلال تصويته، مع معاصرٍ طليعيٍّ هو المؤلّف الأميركي جون كيج (1912-1992) الذي اشتُهر بقوله في كتابٍ ضمّ سلسلة محاضراتٍ ومقالاتٍ له بعنوان "صمت" (Silence): "ما من شيءٍ يُدعى فضاءً فارغاً أو زماناً فارغاً، ثمة دائماً شيءٌ ما يستدعي النظر أو السمع، فلئن نحاول في الواقع، كما يهيئ لنا، أن نخلق صمتاً، لن نستطيع". 

إن إعادة كل من لينش وكيج الاعتبار للصمت بوصفه كينونةً تتجاوز المفاهيمية بإطارها التشكيلي، إنما تنطلق من تشابه فلسفة كلٍّ منهما بإزاء الحياة، التي وجدا لها أصولاً في حكمة الشرق الأقصى، فبعد أن تنقّل كيج بين المعتقدات، رسا على تعاليم البوذيّة

ما إن تمكّن بعد قراءته الفيلسوف الياباني دايسيتو سوزوكي "من فكِّ قيد العمى الروحي" على حدّ تعبيره، بات الغرض من الاشتغال بالموسيقى عند كيج "هو وصل كل ما هو مُنفصل"، وعليه إزالة الحدود الذهنية التي تفصل الصوت عن الصمت، تماماً مثلما "ينبغي للحدود ما بين الشعور واللاشعور أن تزول، عند السعي إلى الدنوِّ من سرمد الوعي". 

بدوره، كان ديفيد لينش من بين أشد الدعاة حماسةً إلى نشر ممارسة التأمّل التجاوزي (Transcendental Meditation) على الطريقة الهندوسية، التي وجّهت مسعاه الفني صوبَ جمْعِ الأضداد، لأجل النهل من معين الوعي الصافي؛ إذ بدلاً من تعمّد الإثارة من خلال إظهار صورة الوحش الذي هو عليها، نراه يؤنسن المسخ جون ميريك، مُشيراً إلى الوحشِ الكامن في كلّ إنسان، وتسمعه يضع للصمت لحناً، فيتناهى صوتاً للموت، فلا يعود الموت نهايةً بعد الآن، وإنما بداية

 

العربي الجديد اللندنية في

27.01.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004