ملفات خاصة

 
 
 

ديفيد لينش..

«مخمل أزرق» يغطّي ظلام البشر

شفيق طبارة

عن رحيل المخرج العبقري

ديفيد لينش

   
 
 
 
 
 
 

لا أحد يستطيع أن يجمع بين الكيتش والجمال والرعب النابع من سواد النفس البشرية مثل ديفيد لينش (1946 – 2025). يبني أفلامه بين السطح والعمق، بين النصوع والظلام، وهنا جانبه الأكثر قتامة وتعبيريةً في ثنائية سينمائية بين الشكل والمضمون، وفيلمه الطويل الرابع «مخمل أزرق» (1986 – Blue velvet)، خير دليل على ذلك

تجذبك الدقائق الأولى بشكل مثالي، يُفتتح الشريط بستارة مخملية زرقاء وحروف بيضاء باروكية، ثم، مثل القصص الفاخرة، نرى تسلسلاً لا تشوبه شائبة من المشاهد المليئة بالسماء الزرقاء وزقزقة الطيور والأشخاص ذوي المظهر الودود والمنازل ذات الحدائق. يبدأ الفيلم بشكل ملوّن ومنظم، في بلدة أميركية نموذجية صغيرة، حيث الزهور الحمراء وصفوف المنازل الصغيرة، والأطفال الذين يعبرون الشارع بأمان، ورجل يسقي الحديقة، ورجال الإطفاء يلوّحون لنا، بينما نسمع صوت بوبي فينتون يغني «بلو فيلفيت». تقطع كل هذا، ضربة غير متوقعة: تتخذ الكاميرا على الفور وضعها المتعرج، وتعرض الأدلة التي تشكل المشهد وتؤكد على النوبة القلبية التي تعرض لها الرجل الذي يسقي الحديقة، ومن الخرطوم الملتف، والطفل والكلب، تسحبنا الكاميرا إلى الأرض، إلى الخنافس التي تلتهم بعضها البعض في العشب، لتخترق الأعماق الأكثر كثافةً. ومن هنا يبدأ الجنون غير الطبيعي والمقلق الذي نشهده في الساعتين التاليتين.

إنّ الرجل الذي يرقد على العشب بعد نوبته القلبية، هو والد جيفري (كايل مكلوكلن). بعد عودته من زيارة روتينية أخرى لوالده في المستشفى، يجد جيفري أذناً بشرية في وسط غابة بالقرب من منزله. كمواطن صالح يأخذ هذا الدليل إلى محقق شرطة صديق لوالده، لكن الشاب يشعر بالفضول، فيقرر التحقيق بما جرى لصاحب هذه الأذن بمساعدة ساندي (لورا ديرن)، ابنة المحقق. سيزداد فضوله عندما تقوده الأذن الغامضة إلى لقاء المعنية الجميلة دوروثي (إيزابيلا روسوليني)، امرأة يعذبها أحد أخطر المجرمين في المدينة. بعد اختطاف ابنها وزوجها على يد فرانك (دينيس هوبر)، تضطر دوروثي إلى إشباع أشد رغبات هذه الشخصية الشريرة ظلاماً، الأمر الذي يتوج بالكثير من الإثارة الجنسية والسادية والمازوخية والعقد الأمومية. ومن اللحظة الذي يقرر فيها جيفري الغوص أكثر في حياة دوروثي، يبدأ الفيلم في التحول إلى قصة مظلمة لا نهاية لها.

ثيمة الجريمة واحدة من الثيمات المفضّلة للينش، وهنا اتخذ أكثر أشكاله كلاسيكية، وهو التدرج من دليل إلى دليل. هذه قصة ذات جوهر نوار (Noir)، كلاسيكية بالمعنى السردي للحبكة، تؤدي إلى لغز يسعى البطل إلى حلّه، واكتشاف أشياء لا ينبغي له أن يكتشفها، بسبب موجة الفضول والرغبة والمتعة التي غمرته. وهي ما بعد حداثية، بسبب المفاجآت والانحرافات المعبّر عنها في الخط السردي وشكليته العالية، من خلال مسارات بصرية متعرّجة، تؤثر فينا مثلما أثّرت الحكايات الخرافية فينا عندما كنا صغاراً، حيث زرعت بذوراً تبدو بسيطة وازدهرت في ظلال لا نهاية له من الليل.

«مخمل أزرق» فريد، منحرف وجريء، يلتقط أبعاد العالم بين الواقع الظاهر والواقع الجوفي. تتخطى لوحة الألوان المكثفة ونوتات الأوكسترا الهوليوودية القديمة بارتعاشاتها السمفونية المورقة (موسيقى أنجيلو بادالامنتي)، والزخارف البصرية، حدود الواقعية إلى فضاء بلا علامات إرشادية يزيدنا إرباكاً كلما طالت مدة بقائنا فيه. يفتح لنا الفيلم جميع الأبواب النفسية والرمزية لقبوله كقطعة حنين، مع تفاصيل من فيلم «ساحر أوز» (1936 – The Wizard of Oz)، متشابكة مع الجنس والأحلام والميلودراما والصدمة، ولغة سينمائية تحرّضنا على كسر ما هو جليّ، لدخول عالم من الألغاز والغرابة. تكرار أغنية «بلو فيلفيت»، بالإضافة إلى حضور أغنية روي أوربيسون «إن دريمز» (In Dreams)، وظهور أنجيلو بادالامانتي في الفيلم كإحدى الشخصيات تؤكد على أن كل شيء عبارة عن مهزلة داخل مهزلة، مغلقة مثل دائرة، سواء في تكرار اللقطات التي شوهدت في البداية أو في عودة الستار الأزرق المخملي، الذي غمره الزيف واليأس الآن.

استطاع لينش أن يطّبق الرموز التي يُسهل تأويلها، على أسلوب درامي أكثر استهلاكاً وأكثر تقليدية. يتناسب الجو المشؤوم والكئيب تماماً مع الرفاهية السطحية والفكاهة السوداء اللافتة أحياناً. مزح لينش السخرية والرومانسية والجنس والرعب والإثارة، مهما بدت هذه منفصلة وغير متجانسة. نجد القليل من كلّ منها، لكن لا أحد يطغى على الآخر، فهي تتلاءم بجانب بعضها البعض بشكل متناقض. كما يظهر منطق الحلم هنا أيضاً، وإن لفترة قصيرة، في شكل لا يزال قابلاً للتحديد

يصور ليش كل هذا بهدوء شديد وسلاسة، حيث ينقل مزاج المشهد، في كلمتين أو ثلاث فقط. لاءم لينش ايضاً أفلاماً ومخرجين بشكل متناقض، يأتي ألفريد هيتشكوك في القمّة، وهو المخرج الذي يُعجب به لينش، وخاصة فيلم «النافذة الخلفية» (1954 – Rear Window)، الذي يتردد صداه في موضوع التلصص، أو فيلم «فيرتيغو» (1958 – Vertigo)، بهواجسه وانكسارات الهوية والغموض. كما كان لويس بونويل، والسوريالية، مصدر إلهام بطبيعة الحال، من الأذن المقطوعة المغطاة بالنمل، والعين المشروطة واليد المغطاة بالنمل أيضًا في فيلم «كلب أندلسي» (1929 – Un Chien Andalou)… كلها جزء من نفس الكون النبضي والعضوي. كما كان كينيث أنغر بدوره أول من استخدم أغنية «بلو فيلفيت» في فيلم «Scorpio Rising» (1964)، الذي يحتوي على عالم رمزي يتكشف وفقًا لمنطق الأحلام والاثارة الجنسية.

يتوازن «مخمل أزرق» في عالم غير مستقر، ويطل من خلال الستائر والخزائن، وينفتح على الجانب المظلم من البشر، ويبلغ ذروة العنف والرومانسية، ويزيد حجم المشاعر. تتجول الشموع المشتعلة، والآذان، وأصداء الأشباح، والتشوهات، والأصوات (أصوات لا تنسى لمصمم الصوت آلان سبليت، الذي يُهدى إليه الفيلم)، عبر ذاكرة الفيلم والمشاهد، ويعيش بين الكابوس والحلم. وبين الواقع المغطى بالمخمل الأزرق، والأبيض الساطع، والأسود الخانق، والأحمر العنيف، والبني الغامق، والأخضر اللاذع، يبدو الوقت كأنه يتجمد مع مرور الألوان.

 

موقع فاصلة" السعودي في

24.01.2025

 
 
 
 
 

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

متابعة المدى

وديفيد كيث لينش صانع أفلام وفنان تشكيلي وموسيقي وممثل أمريكي. نال استحسانًا لأفلامه، والتي غالبًا ما تتميز بصفاتها السريالية الشبيهة بالأحلام. في مسيرة مهنية امتدت لأكثر من خمسين عامًا، حصل على العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة الأسد الذهبي للمسيرة الفنية في مهرجان البندقية السينمائي في عام 2006 وجائزة الأوسكار الفخرية في عام 2019. غالبًا ما يوصف لينش بأنه "صاحب رؤية"، ويعتبر أحد أهم صانعي الأفلام في عصره.

درس لينش الرسم قبل أن يبدأ في صنع الأفلام القصيرة في أواخر الستينيات. كان أول فيلم روائي طويل له هو الفيلم السريالي المستقبل رأس ممحاة (1977)، والذي حقق نجاحًا كفيلم منتصف الليل. تم ترشيحه لجائزة الأوسكار لأفضل مخرج عن دراما السيرة الذاتية الرجل الفيل (1980)، وفيلم الإثارة بلو فلفت (1986) وفيلم طريق مولهولاند (2001). فازت دراما الجريمة الرومانسية وايلد ات هارت (1990) بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي. كما أخرج فيلم الأوبرا الفضاء كثيب (1984)، والدراما الطريق السريع المفقود (1997)، والدراما السيرة الذاتية القصة المستقيمة (1999)، وفيلم الإثارة الإمبراطورية الداخلية (2006).

أنشأ لينش ومارك فروست مسلسل توين بيكس (1990-1991) على قناة أيه بي سي، والذي تم ترشيحه لخمس جائزة الإيمي برايم تايم، بما في ذلك أفضل إخراج لمسلسل درامي وأفضل كتابة لمسلسل درامي. شارك لينش في كتابة وإخراج الفيلم التمهيدي توين بيكس: النار تمشي معي (1992) والموسم الثالث في عام 2017. كما جسد أيضاً دور عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي جوردون كول في توين بيكس، وهوارد في فيلم الدراما لاكي (2017) إلى جانب صديقه وزميله هاري دين ستانتون، وجسد دور جون فورد في فيلم ستيفن سبيلبرغ فابلمانز (2022). كما ظهر ضيفاً في مسلسلات، حيث أدى صوت نادل في ذا كليفلاند شو (2010-13) ولعب دور منتج ترفيهي في لوي (2012).

عمل لينش أيضًا كموسيقي ورسام ومصور وكاتب، وأخرج العديد من مقاطع الفيديو الموسيقية لفنانين مثل إكس جابان وموبي وإنتربول وناين إنش نايلز ودونوفان، وإعلانات تجارية لديور وإيف سان لوران وغوتشي وإدارة الصرف الصحي في مدينة نيويورك. كان ديفيد لينش ممارسًا للتأمل تجاوزي، وأسس مؤسسة ديفيد لينش لتمويل دروس التأمل للطلاب والمحاربين القدامى وغيرهم من السكان "المعرضين للخطر". وكان مدخنًا طوال حياته، وتم تشخيص إصابته بانتفاخ رئوي في عام 2020، وتوفي في يناير 2025، بعد إجلائه من منزله بسبب حرائق الغابات في جنوب كاليفورنيا. ألهم عمله صفة لينشيان، التي عرّفها قاموس أكسفورد الإنجليزي بأنها "سمات مميزة أو تذكير أو تقليد لأفلام أو أعمال ديفيد لينش التلفزيونية"، مضيفًا: "اشتهر لينش بدمج العناصر السريالية أو الشريرة مع البيئات اليومية العادية، واستخدام صور بصرية مقنعة للتأكيد على جودة الحلم من الغموض أو التهديد".

ولد ديفيد كيث لينش في ميسولا، مونتانا، عام 1946 كان والده،باحثًا علميًا يعمل لدى وزارة الزراعة الأمريكية، وكانت والدته معلمة لغة إنجليزية. عندما كان يبلغ من العمر شهرين؛ وبعد عامين، بعد ولادة شقيقه جون، انتقلت العائلة إلى سبوكان، واشنطن. وُلدت شقيقة لينش مارثا هناك. انتقلت العائلة بعد ذلك إلى دورهام، نورث كارولينا، وبويز، أيداهو، وألكسندريا، فيرجينيا تكيف لينش مع هذه الحياة المبكرة العابرة بسهولة نسبية، مشيرًا إلى أنه لم يواجه عادةً أي مشكلة في تكوين صداقات جديدة كلما بدأ في الذهاب إلى مدرسة جديدة عن حياته المبكرة، قال:

لقد وجدت العالم رائعًا تمامًا عندما كنت طفلاً. بالطبع، كانت لدي المخاوف المعتادة، مثل الذهاب إلى المدرسة.. . بالنسبة لي، في ذلك الوقت، كانت المدرسة جريمة ضد الشباب. لقد دمرت بذور الحرية. لم يشجع المعلمون المعرفة أو الموقف الإيجابي، إلى جانب دراسته، انضم لينش إلى الكشافة. قال لاحقًا إنه "أصبح [كشافًا] حتى أتمكن من الإقلاع عن ذلك وتركه ورائي". ارتقى إلى أعلى رتبة في كشافة النسر، وكان حاضرًا مع الكشافة الآخرين خارج البيت الأبيض في حفل تنصيب الرئيس جون ف. كينيدي، الذي أقيم في عيد ميلاد لينش الخامس عشر.: 5 كان لينش مهتمًا أيضًا بالرسم والتلوين منذ سن مبكرة، وأصبح مفتونًا بفكرة متابعته كمسار مهني عندما كان يعيش في فيرجينيا، حيث كان والد صديقه رسامًا محترفًا. كان أول فيلم شاهده هو فيلم Wait till the Sun Shines, Nellie (1952) لهنري كينج. كان فيلمه المفضل، والذي كان يشير إليه كثيرًا، هو فيلم The Wizard of Oz (1939).

في مدرسة فرانسيس سي هاموند الثانوية في الإسكندرية، لم يتفوق لينش أكاديميًا، ولم يكن لديه اهتمام كبير بالعمل المدرسي، لكنه كان يتمتع بشعبية بين الطلاب الآخرين، وبعد مغادرته قرر أنه يريد دراسة الرسم في الكلية. بدأ دراسته في مدرسة كوركوران للفنون والتصميم في واشنطن العاصمة، قبل أن ينتقل في عام 1964 إلى مدرسة متحف الفنون الجميلة في بوسطن مع زميله الموسيقي بيتر وولف. غادر بعد عام واحد فقط، قائلاً: "لم أكن مستوحى على الإطلاق في ذلك المكان". وبدلاً من ذلك قرر أنه يريد السفر حول أوروبا لمدة ثلاث سنوات مع صديقه جاك فيسك، الذي كان غير سعيد أيضًا بدراساته في كوبر يونيون. كان لديهم بعض الأمل في أن يتمكنوا من التدريب في أوروبا مع الرسام التعبيري النمساوي أوسكار كوكوشكا في مدرسته. ومع ذلك، عند وصولهم إلى سالزبورغ، وجدوا أن كوكوشكا غير متاح. بخيبة أمل، عادوا إلى الولايات المتحدة بعد قضاء أسبوعين فقط في أوروبا.

 

المدى العراقية في

23.01.2025

 
 
 
 
 

مات ديفيد لينش فلتحيا سينماه

كتابة محمد صبحي

مات ديفيد لينش. مات صانع الأفلام الأمريكي الأكثر تأثيرًا في نصف القرن الأخير. مات خالق أكوان فريد. أعلنت عائلته ذلك في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي ليلة الجمعة الماضي: «ثمة فجوة كبيرة في العالم الآن بعد رحيله. ولكن، كما كان ليقول: ابق عينيك على الدونات لا الفجوة التي تتوسّطها». مع لينش، وبعيدًا عن التأثير الهائل لسينماه على عدة أجيال من صنّاع الأفلام، ماتت طريقة فريدة لفهم حرفة وفنّ السينما. ممارسةٌ شخصية وفردية، امتدادًا لأحلامه وكوابيسه، طبّقها بصبرٍ وأناة على بناء قصص لا تشبه أي شيء آخر.

رحل عن عالمنا صانع أفلام روائية لا تُنسى، ومسلسل تليفزيوني نجح في ترسيخ نفسه ككون مكتفٍ ذاتيًا، وأحد أكثر المؤلفين استقلالية ممن أفرزتهم السينما الأمريكية في العقود الخمسة الماضية. كما رحل عن عالمنا أيضًا ذلك الساخر الذي اعتاد على إرسال رسائل قصيرة لمتابعيه وكل مَن يلتقيه عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي تلك الفيديوهات القصيرة على وجه التحديد، اعتاد لينش أن يمزح في الآونة الأخيرة حول ماضيه كمدخّن وانتفاخ الرئة الذي اكتشفه الأطباء بعد أعوام من التدخين. هي طريقة للابتسام للموت، الذي جاء في النهاية ليترك فراغًا في العالم، وقبل كل شيء، في السينما.

يكشف جانب كبير من فيلموجرافيا ديفيد لينش عن العديد من التوترات الإبداعية، بما في ذلك الصراع الأبدي بين إمكانية الهروب تمامًا من المعايير والحاجة إلى ربط الذات بنسيج سردي يعطي تماسكًا للاختلاف/الشذوذ الذي تمثّله. كان لينش دائمًا ثائرًا معتدلًا، مهتمًا بتشويه ما نفهمه على أنه «واقع» سينمائي، وتعريفنا بعوالم مشابهة لعالمنا، ثم، في تصادمٍ مفتوح مع اليقينيات والمفاهيم، يلقي علينا دون سابق إنذار العجب والاستياء والرعب من الحياة اليومية التي نراها من خلال الجانب الآخر من المرآة.

تجمع أعمال «The Elephant Man» و«Blue Velvet» و«Wild at Heart» و«Twin Peaks»، كل بطريقته الخاصة، بين ظلال الخيال والهذيان مع أكثر أشكال الواقعية تجسيدًا، على غرار تلك الأوهام البصرية التي تحدّد، اعتمادًا على كيفية ملاحظتها، رسمًا مخفيًا إلى حد ما. فقط في فيلمه الأول «Eraserhead» وفيلمي «Mulholland Drive» و«Inland Empire»، تنتهي قوى الحلم إلى امتصاص العلاقات بين الأسباب والنتائج والشخصيات والمواقف تمامًا، بمنطقها غير المنطقي.

ولد ديفيد كيث لينش في ميسولا بولاية مونتانا في 20 يناير 1946، لأسرة من الطبقة المتوسطة في شمالي غرب أمريكا. بعد فترة وجيزة قضاها في مجموعة كشافة، بدأ الشاب ديفيد دراساته الفنية، والتي قادته في البداية إلى مسار الفنون البصرية، رغم أنه بدأ عاجلًا وليس آجلًا في تجربة الرسوم المتحركة في سلسلة من الأفلام القصيرة التجريبية.

وبعد استقراره في لوس أنجلوس أوائل السبعينيات، بدأت تتشكّل نيّته في تحويل أفكاره إلى فيلم طويل مع ممثلين حقيقيين، رغم أن الأمر استغرق ما يقرب من ست سنوات قبل أن يتمكّن فيلم «Eraserhead» عام 1977 من رؤية النور. في كتابه «اصطياد السمكة الكبيرة» (2006) يقول لينش: «إنه فيلمي الأكثر روحانية. لا أحد يفهمني عندما أقول ذلك، لكنه حقيقي. كنت أبحث عن مفتاح لفتح معنى ما كانت تلك المشاهد تقوله». وقد اكتسب أول أفلام لينش، الحلم «المهيبر» المسجّل بأسلحة سينمائية حرفية، مكانة «كَلْتية» (cult) على مرّ السنين بفضل عروضه في وقت متأخر من الليل في دور السينما الحضرية، حتى إنه اكتسب بين صفوف معجبيه المخلصين سينمائيًا بقيمة ستانلي كوبريك.

جذبت تقلبات هوليوود اهتمام الممثل الكوميدي والمنتج والمخرج، ميل بروكس، إلى الشابّ لينش، ورغم بعض التردّد المبدئي، فقد انتهى به الأمر إلى تعيينه لكتابة وإخراج فيلم «The Elephant Man» عام 1980 أولى غزواته في السينما الصناعية والتي أكسبته تقديرًا من أقرانه وكذلك من الجمهور. رُشّحت قصة الرجل المشوّه الذي يُنقذ من براثن عرض غريب في السيرك بواسطة رجل علمي في منتصف العصر الفيكتوري لثماني جوائز أوسكار، وصار اسم لينش على الألسنة.

كان نجاح «الرجل الفيل» أيضًا نقطة البداية لأولى احتكاكات لينش مع السينما الفنّية high-profile، والتي ستتجلّى في مشروعه التالي؛ الاقتباس المستحيل لرواية «كثيب/ Dune» للكاتب فرانك هربرت، والذي كان أُجهض بالفعل قبل عقد من الزمان. تحت الإدارة الصارمة للمنتج الإيطالي، دينو دي لورينتيس، لم تكن الضغوط نادرة، وكانت النتيجة النهائية فيلمًا روائيًا لا يشبه الذي صمّمه لينش في رأسه، بعدما شوّهته أيدي خارجية في غرفة المونتاج. أدّى الصراع الأبدي للحصول على النسخة النهائية من الفيلم إلى دفع المخرج للتوقف عن الاستماع إلى ندّاهة السينما ذات الميزانيات الكبيرة، وتركيز انتباهه منذ ذلك الحين على مشاريعٍ تخضع لسيطرته المطلقة. للمفارقة، كما يظهر اليوم، فالنسخة اللينشية غير المتوازنة من «كثيب» تبدو أكثر جاذبية، رغم مشاكلها المتعددة، من الاقتباس الصحيح و«الاحترافي» سرديًا الذي أنجزه الكندي، دوني فيلنوف.

في «كثيب» يمكن للمرء الشعور بفتنة لينش بالحكايات الخرافية، التي تنتهي دائمًا في خياله إلى كونها مظلمة، ومقلوبة القيمة والمعنى. وليس من قبيل المصادفة أن تُقارن العديد من أفلامه بكلاسيكيات السينما الهوليودية العظيمة، وخاصة فيلم «الساحر أوز/ The Wizard of Oz». تُستبدَل النعال الحمراء بأذنٍ مقطوعة في فيلم «Blue Velvet» عام 1986، أول تحفة كاملة الأهلية في حياته المهنية، وهو غزوة نفسية جنسية في قلب الولايات المتحدة من بطولة كايل ماكلاشلان وإيزابيلا روسيليني ودينيس هوبر ولورا ديرن، وهو أيضًا، بطريقة عجيبة لا تضاهى، إعادة تفسير شخصية جدًا لفيلم النوار الكلاسيكي.

بينما كان الموسم الأول من «Twin Peaks» ينهي بثه على التليفزيون، كان لينش يصدر «Wild at Heart»، تجلّ متطرّف آخر لاهتمامه بثقافة البلد الذي يسلّط تاريخه الضوء مرة أخرى، هذه المرة حرفيًا، على الانبهار بعالم أوز، مثل تلك الأيقونة الشعبية الخالدة المسمّاة إلفيس بريسلي. عُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان كانّ السينمائي عام 1990، وانتهى به الأمر بالفوز بجائزة السعفة الذهبية ما أثار قدرًا معتبرًا من النقاش والجدل.

«نحن نعيش داخل حلم»، كأن لينش يقولها في كل فصل من فصول مسلسله الشهير، والذي بدأ كقصّة بوليسية يشوبها القليل من الغرابة ثم وصلت إلى حدود كان يستحيل تخيّلها سابقًا على الشاشة الصغيرة. الموسمان الأصليان، ولكن الأهمّ من ذلك فرعهما السينمائي، الفيلم الاستثنائي «Twin Peaks: Fire Walk With Me»، والعودة المتأخرة للملحمة في العام 2017 بجزءٍ ثالث؛ كلها أجزاء أساسية من عالم لينش، بقواعده واستثناءاته الخاصة. كان الفصل الثامن من «Twin Peaks: The Return» بمثابة قنبلة ذرية حقيقية، حيث عاد، بالأسود والأبيض، جزئيًا إلى المصادر الأساسية لـ«Eraserhead»، تاركًا وراءه للحظة الستائر القرمزية المميزة للممرّ الواصل إلى الجانب الآخر من المرآة. بعد فيلم «Lost Highway»، الذي كان بمثابة نهاية حقبة بطريقة ما، جاءت الانعطافة الكلاسيكية لفيلم «القصّة المستقيمة» (المهدور حقّه في فيلموجرافيا لينش كتحفة مغمورة)، الذي نجح في الوصول لجمهور أكبر من المولع بأفلامه بفضل قصّة، كما يشير عنوانها، شفّافة بقدر عاطفيتها.

ومع حلول الألفية الجديدة، ستصبح المشاريع أكثر تباعدًا، لكن الإبداع والموهبة ستظلان على حالهما. أظهر فيلم «Mulholland Drive» عام 2001، ببنيته المزدوجة ومناقشاته حول الهوية، ديفيد لينش في أفضل صورة، فيما نجح في انتزاع أفضل أداء من ممثلتيه لورا هارينج وناعومي واتس، على الأرجح في مسيرتهما المهنية. ولكن لا شيء يشير إلى أنه بعد خمس سنوات، سيهبط فيلم «Inland Empire» عام 2006 مثل جسم فضائي مجهول في مجرة ​​بعيدة، بعيدة للغاية، ليصبح بمثابة تغريدة بجعة سينمائية ستحتفل بمرور عقدين من الزمان على ظهورها في العام المقبل. صوّر الفيلم على مدى ثلاث سنوات من دون سيناريو مسبق، في خضم سباق التحوّل الرقمي ومع محاولة وسائل الإعلام الجديدة محاكاة نسيج وتباينات السيلولويد البالغ عمرها قرنًا من الزمان، أظهر لينش الدقة المنخفضة للبكسلات وحوّلها جوهرًا جماليًا لاقتراحه السينمائي؛ صورة كهفية ومطفّفة ترافق بشكل رائع النهج السردي للفيلم.

«Inland Empire» ليس مجرد قصة واحدة، بل مجموعة سرديات متشابكة، معظمها من بطولة لورا ديرن، المذهلة والمفاجئة، البطلة في خضم كارثة سريالية. في «Inland Empire»، تتعايش قصص اعترافية، وحكايات تُسرد عدة مرات، ومسلسل كوميدي من بطولة رجال أرانب، وحتى عدد من النمر الموسيقية. بموت لينش يظلّ هذا الفيلم آخر أعماله للشاشة الكبيرة، ثلاث ساعات من السينما الخالصة، دون أي تنازلات للتوقعات؛ رحلة مثيرة، مسيئة، مزعجة، مفاجئة، جديدة، ربما مثل الصور الأولى لسينماتوجراف لوميير وما فعله بجمهوره الأول. مثل ذلك الفصل الثامن الذي لا ينسى والذي يتذكره الكثيرون كلحظة محورية في حياتهم السينيفيلّية.

أعاد لينش اختراع السينما الأمريكية من خلال مشاركة الجمهور في أعمق أحلامه. أصبحت فترة الخمسينيات المفعمة بالبهجة، أمريكا المثالية في عهد نورمان روكويل، بمثابة مرآة لهواجسه المظلمة. خلف أسوار الحدائق البيضاء والحدائق الأمامية المعتنى بها، انفتحت هاويات بشرية. مَن يصفون لينش بأنه غريب ربما لا يفهمون السينما حقًا. صنع لينش أفلامًا تعمل فقط كأفلام. كم عدد الأفلام اليوم التي تريد أن تكون قصصًا مصورة أو ألعاب كمبيوتر أو مقالات من «النيويوركر»؟ كثير جدًا. عبر الاهتمام بما يدين به لشكله الفني، لا يفتح لينش الشاشة كنافذة شبحية على ما لا يمكن فهمه، ولكن كفرصة لإظهار وقول أشياء عن الناس لا يمكن إلا للسينما تقديمها. أولئك الذين يصفون النتيجة تلقائيًا بالـ«سريالية» أو «كافكاوية» لا يدركون واقعية لينش، الذي يعرف كم أن بلده غريب بعض الشيء.

في نهاية «آل فابلمان» (2022)، فيلم السيرة الذاتية الأخير لستيفن سبيلبرج، يلعب لينش لفترة وجيزة دور جون فورد، صانع أفلام أيقوني آخر يمكن بسهولة اعتباره نقيضه السينمائي (شكليًا وبنائيًا على الأقل). كان مشهدًا يتيمًا وبضعة خطوط حوارية كافيين للعملاق الذي غادرنا الآن لخلق شخصية لا تُنسى. كتب منذ فترة: «في هوليوود، يصنعون بشكل متزايد أفلامًا تقليدية، أفلامًا يفهمها الناس. القصة بأكملها مفهومة. ويشعرون بالقلق إذا كانت هناك لحظة، مهما كانت صغيرة، لا يمكن لجميع المشاهدين فهمها». كان لينش يعرف جيدًا أن السينما ليست مجرد قصة، والأحلام، كما هي الحال، غريبة دائمًا. في بعض الأحيان، تبدو بعيدة المنال، ويعتمد فهمها على مفتاح ليس في متناول اليد دائمًا. مات ديفيد لينش، فلتحيا سينماه.

 

موقع "مدى مصر" في

22.01.2025

 
 
 
 
 

مصدر يكشف عن سبب وفاة ديفيد لينش في عيد ميلاده

لميس محمد

تحل اليوم ذكرى ميلاد المخرج الراحل ديفيد لينش، الذى توفى في 15 يناير الجارى، وولد في 20 يناير عام 1946، بـ ميسولا، مونتانا، الولايات المتحدة، وفي السياق ذاته كشف مصدر مجهول الهوية لـ أحد المواقع العالمية أن لينش تدهورت حالته بسبب إجباره على على الانتقال من منزله بسبب حرائق الغابات في لوس أنجلوس، خاصة أن حرائق الغابات أثرت بشكل كبير على صحة  ديفيد لينش، خاصة بعدما كشف المخرج عن تشخيصه بـ انتفاخ الرئة في خلال العام الماضي، والذي كان سببه التدخين طوال معظم حياته.

انتفاخ الرئة، المعروف أيضًا باسم مرض الانسداد الرئوي المزمن (COPD)، هو المكان الذي يحدث فيه تلف الحويصلات الهوائية نتيجة للتدخين أو التلوث أو مهيجات مكان العمل (وفقًا لهيئة الخدمات الصحية الوطنية)، ويتسبب المرض في مشاكل في التنفس والسعال، وقد يعاني المصابون به من التهابات صدرية متكررة وصفير في الصدر.

وكانت قد أعلنت عائلة المخرج والممثل العالمي ديفيد لينش، رحيله عن عالمناً بتغريدة نشرتها عبر حسابه الشخصي بموقع إكس، لتعلن فيها رحيله صباح يوم الخميس الماضى عن عمر يناهز 78 عاما، تاركاً أرشيفا كبيرا فى عالم السينما والدراما والإخراج.

وكتبت عائلة لينش عبر إكس: "ببالغ الأسف، نعلن نحن أسرته، وفاة الفنان ديفيد لينش، ونود أن نحظى ببعض الخصوصية في هذا الوقت، لقد أصبح العالم الآن في حالة من الفراغ الشديد بعد رحيله عنا".

 

####

 

أفلام ديفيد لينش تكشف الفساد فى قلب الثقافة الأمريكية.. فى ذكرى ميلاده

لميس محمد

عكست أفلام المخرج العالمى الراحل ديفيد لينش الذى توفى عن عالمنا في 15 يناير الجارى، وتحل اليوم ذكرى ميلاده، حيث وولد في 20 يناير عام 1946، بـ ميسولا، مونتانا، الولايات المتحدة، الجانب المظلم والمشئوم والغريب في الثقافة الأمريكية، الجانب الذي يختفي من الظل بشكل متزايد.

العديد من أفلام ديفيد لينش، مثل "المخمل الأزرق" لعام 1986 و"Lost Highway" لعام 1997، تتسم بالقسوة والواقعية، مع صور وصفها النقاد بأنها "مزعجة" و"فوضوية" عند إطلاقها.

فالعديد من أفلام  ديفيد لينش، مثل فيلم " Blue Velvet" لعام 1986 وفيلم "الطريق الضائع" لعام 1997، تتسم بالقسوة والواقعية، مع صور وصفها النقاد بأنها "مزعجة" و"فوضوية" عند طرحها في وقتها.

ثم هناك العوالم الغريبة والغريبة التي صورها في " Lost Highway" و" Mulholland Drive "، ويبدو أن الشخصيات في هذه الأفلام المثيرة تعيش في واقع مواز يحكمه الخير والشر.

في تسعينيات القرن العشرين، واجه فنانون مثل ترينت ريزنور من فرقة Nine Inch Nails، الذي تم تضمين موسيقاه في الموسيقى التصويرية الرسمية لفيلم "Lost Highway"، الجمهور بصور الانحطاط والانحلال الاجتماعي، والتي استلهمها من تجاربه المزعجة في هوليوود وصناعة الموسيقى.

في فيلمه "Mulholland Drive" لعام 2001، حول لينش انتباهه إلى هوليوود والبؤس الذي يبدو أنه متأصل في طبيعتها.

وتأتي وفاة المخرج والممثل العالمي ديفيد لينش في وقت يبدو فيه أن أمريكا تتجه نحو مستقبل أكثر ظلمة، وربما يكون هذا المستقبل قد تنبأ به الكثيرين الذين يتجاهلون أعمال الاعتداء الجنسي، ويتسامحون مع تشويه سمعة الضحايا أو حتى يتفاخرون بأنهم يستطيعون الإفلات من العقاب على القتل.

وتحذر أعمال  لينش الحيوية من أن قسوة هؤلاء الأشخاص ليست حقًا ما يجب أن نخشاه أكثر من أي شيء آخر، وإن هؤلاء الذين يضحكون أو يهتفون أو يتجاهلون ببساطة هم من يستجيبون بشكل خافت ـ وهي الاستجابات التي تمكن مثل هذه السلوكيات وتقويها، وتمنحها مكانة مقبولة في العالم.

عندما صدرت أفلام لينش لأول مرة، كانت تبدو في كثير من الأحيان وكأنها انعكاسات سريالية مرحة للمجتمع، واليوم تكشف هذه الأفلام عن حقائق عميقة ورهيبة لا يمكننا تجاهلها.

 

اليوم السابع المصرية في

20.01.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004