مات ديفيد لينش فلتحيا سينماه
كتابة
محمد صبحي
مات ديفيد لينش. مات صانع الأفلام الأمريكي الأكثر تأثيرًا
في نصف القرن الأخير. مات خالق أكوان فريد. أعلنت عائلته ذلك في منشور على
وسائل التواصل الاجتماعي ليلة الجمعة الماضي: «ثمة فجوة كبيرة في العالم
الآن بعد رحيله. ولكن، كما كان ليقول: ابق عينيك على الدونات لا الفجوة
التي تتوسّطها». مع لينش، وبعيدًا عن التأثير الهائل لسينماه على عدة أجيال
من صنّاع الأفلام، ماتت طريقة فريدة لفهم حرفة وفنّ السينما. ممارسةٌ شخصية
وفردية، امتدادًا لأحلامه وكوابيسه، طبّقها بصبرٍ وأناة على بناء قصص لا
تشبه أي شيء آخر.
رحل عن عالمنا صانع أفلام روائية لا تُنسى، ومسلسل
تليفزيوني نجح في ترسيخ نفسه ككون مكتفٍ ذاتيًا، وأحد أكثر المؤلفين
استقلالية ممن أفرزتهم السينما الأمريكية في العقود الخمسة الماضية. كما
رحل عن عالمنا أيضًا ذلك الساخر الذي اعتاد على إرسال رسائل قصيرة لمتابعيه
وكل مَن يلتقيه عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي تلك
الفيديوهات القصيرة على وجه التحديد، اعتاد لينش أن يمزح في الآونة الأخيرة
حول ماضيه كمدخّن وانتفاخ الرئة الذي اكتشفه الأطباء بعد أعوام من التدخين.
هي طريقة للابتسام للموت، الذي جاء في النهاية ليترك فراغًا في العالم،
وقبل كل شيء، في السينما.
يكشف جانب كبير من فيلموجرافيا ديفيد لينش عن العديد من
التوترات الإبداعية، بما في ذلك الصراع الأبدي بين إمكانية الهروب تمامًا
من المعايير والحاجة إلى ربط الذات بنسيج سردي يعطي تماسكًا
للاختلاف/الشذوذ الذي تمثّله. كان لينش دائمًا ثائرًا معتدلًا، مهتمًا
بتشويه ما نفهمه على أنه «واقع» سينمائي، وتعريفنا بعوالم مشابهة لعالمنا،
ثم، في تصادمٍ مفتوح مع اليقينيات والمفاهيم، يلقي علينا دون سابق إنذار
العجب والاستياء والرعب من الحياة اليومية التي نراها من خلال الجانب الآخر
من المرآة.
تجمع أعمال «The
Elephant Man»
و«Blue
Velvet»
و«Wild at Heart»
و«Twin
Peaks»،
كل بطريقته الخاصة، بين ظلال الخيال والهذيان مع أكثر أشكال الواقعية
تجسيدًا، على غرار تلك الأوهام البصرية التي تحدّد، اعتمادًا على كيفية
ملاحظتها، رسمًا مخفيًا إلى حد ما. فقط في فيلمه الأول «Eraserhead»
وفيلمي «Mulholland
Drive»
و«Inland
Empire»،
تنتهي قوى الحلم إلى امتصاص العلاقات بين الأسباب والنتائج والشخصيات
والمواقف تمامًا، بمنطقها غير المنطقي.
ولد ديفيد كيث لينش في ميسولا بولاية مونتانا في 20 يناير
1946، لأسرة من الطبقة المتوسطة في شمالي غرب أمريكا. بعد فترة وجيزة قضاها
في مجموعة كشافة، بدأ الشاب ديفيد دراساته الفنية، والتي قادته في البداية
إلى مسار الفنون البصرية، رغم أنه بدأ عاجلًا وليس آجلًا في تجربة الرسوم
المتحركة في سلسلة من الأفلام القصيرة التجريبية.
وبعد استقراره في لوس أنجلوس أوائل السبعينيات، بدأت تتشكّل
نيّته في تحويل أفكاره إلى فيلم طويل مع ممثلين حقيقيين، رغم أن الأمر
استغرق ما يقرب من ست سنوات قبل أن يتمكّن فيلم «Eraserhead»
عام 1977 من رؤية النور. في كتابه «اصطياد السمكة الكبيرة» (2006) يقول
لينش: «إنه فيلمي الأكثر روحانية. لا أحد يفهمني عندما أقول ذلك، لكنه
حقيقي. كنت أبحث عن مفتاح لفتح معنى ما كانت تلك المشاهد تقوله». وقد اكتسب
أول أفلام لينش، الحلم «المهيبر» المسجّل بأسلحة سينمائية حرفية، مكانة
«كَلْتية» (cult)
على مرّ السنين بفضل عروضه في وقت متأخر من الليل في دور السينما الحضرية،
حتى إنه اكتسب بين صفوف معجبيه المخلصين سينمائيًا بقيمة ستانلي كوبريك.
جذبت تقلبات هوليوود اهتمام الممثل الكوميدي والمنتج
والمخرج، ميل بروكس، إلى الشابّ لينش، ورغم بعض التردّد المبدئي، فقد انتهى
به الأمر إلى تعيينه لكتابة وإخراج فيلم «The
Elephant Man»
عام 1980 أولى غزواته في السينما الصناعية والتي أكسبته تقديرًا من أقرانه
وكذلك من الجمهور. رُشّحت قصة الرجل المشوّه الذي يُنقذ من براثن عرض غريب
في السيرك بواسطة رجل علمي في منتصف العصر الفيكتوري لثماني جوائز أوسكار،
وصار اسم لينش على الألسنة.
كان نجاح «الرجل الفيل» أيضًا نقطة البداية لأولى احتكاكات
لينش مع السينما الفنّية
high-profile،
والتي ستتجلّى في مشروعه التالي؛ الاقتباس المستحيل لرواية «كثيب/
Dune»
للكاتب فرانك هربرت، والذي كان أُجهض بالفعل قبل عقد من الزمان. تحت
الإدارة الصارمة للمنتج الإيطالي، دينو دي لورينتيس، لم تكن الضغوط نادرة،
وكانت النتيجة النهائية فيلمًا روائيًا لا يشبه الذي صمّمه لينش في رأسه،
بعدما شوّهته أيدي خارجية في غرفة المونتاج. أدّى الصراع الأبدي للحصول على
النسخة النهائية من الفيلم إلى دفع المخرج للتوقف عن الاستماع إلى ندّاهة
السينما ذات الميزانيات الكبيرة، وتركيز انتباهه منذ ذلك الحين على مشاريعٍ
تخضع لسيطرته المطلقة. للمفارقة، كما يظهر اليوم، فالنسخة اللينشية غير
المتوازنة من «كثيب» تبدو أكثر جاذبية، رغم مشاكلها المتعددة، من الاقتباس
الصحيح و«الاحترافي» سرديًا الذي أنجزه الكندي، دوني فيلنوف.
في «كثيب» يمكن للمرء الشعور بفتنة لينش بالحكايات
الخرافية، التي تنتهي دائمًا في خياله إلى كونها مظلمة، ومقلوبة القيمة
والمعنى. وليس من قبيل المصادفة أن تُقارن العديد من أفلامه بكلاسيكيات
السينما الهوليودية العظيمة، وخاصة فيلم «الساحر أوز/ The
Wizard of Oz».
تُستبدَل النعال الحمراء بأذنٍ مقطوعة في فيلم «Blue
Velvet»
عام 1986، أول تحفة كاملة الأهلية في حياته المهنية، وهو غزوة نفسية جنسية
في قلب الولايات المتحدة من بطولة كايل ماكلاشلان وإيزابيلا روسيليني
ودينيس هوبر ولورا ديرن، وهو أيضًا، بطريقة عجيبة لا تضاهى، إعادة تفسير
شخصية جدًا لفيلم النوار الكلاسيكي.
بينما كان الموسم الأول من «Twin
Peaks»
ينهي بثه على التليفزيون، كان لينش يصدر «Wild
at Heart»،
تجلّ متطرّف آخر لاهتمامه بثقافة البلد الذي يسلّط تاريخه الضوء مرة أخرى،
هذه المرة حرفيًا، على الانبهار بعالم أوز، مثل تلك الأيقونة الشعبية
الخالدة المسمّاة إلفيس بريسلي. عُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان كانّ
السينمائي عام 1990، وانتهى به الأمر بالفوز بجائزة السعفة الذهبية ما أثار
قدرًا معتبرًا من النقاش والجدل.
«نحن نعيش داخل حلم»، كأن لينش يقولها في كل فصل من فصول
مسلسله الشهير، والذي بدأ كقصّة بوليسية يشوبها القليل من الغرابة ثم وصلت
إلى حدود كان يستحيل تخيّلها سابقًا على الشاشة الصغيرة. الموسمان
الأصليان، ولكن الأهمّ من ذلك فرعهما السينمائي، الفيلم الاستثنائي «Twin
Peaks: Fire Walk With Me»،
والعودة المتأخرة للملحمة في العام 2017 بجزءٍ ثالث؛ كلها أجزاء أساسية من
عالم لينش، بقواعده واستثناءاته الخاصة. كان الفصل الثامن من «Twin
Peaks: The Return»
بمثابة قنبلة ذرية حقيقية، حيث عاد، بالأسود والأبيض، جزئيًا إلى المصادر
الأساسية لـ«Eraserhead»،
تاركًا وراءه للحظة الستائر القرمزية المميزة للممرّ الواصل إلى الجانب
الآخر من المرآة. بعد فيلم «Lost
Highway»،
الذي كان بمثابة نهاية حقبة بطريقة ما، جاءت الانعطافة الكلاسيكية لفيلم
«القصّة المستقيمة» (المهدور حقّه في فيلموجرافيا لينش كتحفة مغمورة)، الذي
نجح في الوصول لجمهور أكبر من المولع بأفلامه بفضل قصّة، كما يشير عنوانها،
شفّافة بقدر عاطفيتها.
ومع حلول الألفية الجديدة، ستصبح المشاريع أكثر تباعدًا،
لكن الإبداع والموهبة ستظلان على حالهما. أظهر فيلم «Mulholland
Drive»
عام 2001، ببنيته المزدوجة ومناقشاته حول الهوية، ديفيد لينش في أفضل صورة،
فيما نجح في انتزاع أفضل أداء من ممثلتيه لورا هارينج وناعومي واتس، على
الأرجح في مسيرتهما المهنية. ولكن لا شيء يشير إلى أنه بعد خمس سنوات،
سيهبط فيلم «Inland
Empire»
عام 2006 مثل جسم فضائي مجهول في مجرة بعيدة، بعيدة للغاية، ليصبح بمثابة
تغريدة بجعة سينمائية ستحتفل بمرور عقدين من الزمان على ظهورها في العام
المقبل. صوّر الفيلم على مدى ثلاث سنوات من دون سيناريو مسبق، في خضم سباق
التحوّل الرقمي ومع محاولة وسائل الإعلام الجديدة محاكاة نسيج وتباينات
السيلولويد البالغ عمرها قرنًا من الزمان، أظهر لينش الدقة المنخفضة
للبكسلات وحوّلها جوهرًا جماليًا لاقتراحه السينمائي؛ صورة كهفية ومطفّفة
ترافق بشكل رائع النهج السردي للفيلم.
«Inland
Empire»
ليس مجرد قصة واحدة، بل مجموعة سرديات متشابكة، معظمها من بطولة لورا ديرن،
المذهلة والمفاجئة، البطلة في خضم كارثة سريالية. في «Inland
Empire»،
تتعايش قصص اعترافية، وحكايات تُسرد عدة مرات، ومسلسل كوميدي من بطولة رجال
أرانب، وحتى عدد من النمر الموسيقية. بموت لينش يظلّ هذا الفيلم آخر أعماله
للشاشة الكبيرة، ثلاث ساعات من السينما الخالصة، دون أي تنازلات للتوقعات؛
رحلة مثيرة، مسيئة، مزعجة، مفاجئة، جديدة، ربما مثل الصور الأولى
لسينماتوجراف لوميير وما فعله بجمهوره الأول. مثل ذلك الفصل الثامن الذي لا
ينسى والذي يتذكره الكثيرون كلحظة محورية في حياتهم السينيفيلّية.
أعاد لينش اختراع السينما الأمريكية من خلال مشاركة الجمهور
في أعمق أحلامه. أصبحت فترة الخمسينيات المفعمة بالبهجة، أمريكا المثالية
في عهد نورمان روكويل، بمثابة مرآة لهواجسه المظلمة. خلف أسوار الحدائق
البيضاء والحدائق الأمامية المعتنى بها، انفتحت هاويات بشرية. مَن يصفون
لينش بأنه غريب ربما لا يفهمون السينما حقًا. صنع لينش أفلامًا تعمل فقط
كأفلام. كم عدد الأفلام اليوم التي تريد أن تكون قصصًا مصورة أو ألعاب
كمبيوتر أو مقالات من «النيويوركر»؟ كثير جدًا. عبر الاهتمام بما يدين به
لشكله الفني، لا يفتح لينش الشاشة كنافذة شبحية على ما لا يمكن فهمه، ولكن
كفرصة لإظهار وقول أشياء عن الناس لا يمكن إلا للسينما تقديمها. أولئك
الذين يصفون النتيجة تلقائيًا بالـ«سريالية» أو «كافكاوية» لا يدركون
واقعية لينش، الذي يعرف كم أن بلده غريب بعض الشيء.
في نهاية «آل
فابلمان»
(2022)، فيلم السيرة الذاتية الأخير لستيفن سبيلبرج، يلعب لينش لفترة وجيزة
دور جون فورد، صانع أفلام أيقوني آخر يمكن بسهولة اعتباره نقيضه السينمائي
(شكليًا وبنائيًا على الأقل). كان مشهدًا يتيمًا وبضعة خطوط حوارية كافيين
للعملاق الذي غادرنا الآن لخلق شخصية لا تُنسى. كتب منذ فترة: «في هوليوود،
يصنعون بشكل متزايد أفلامًا تقليدية، أفلامًا يفهمها الناس. القصة بأكملها
مفهومة. ويشعرون بالقلق إذا كانت هناك لحظة، مهما كانت صغيرة، لا يمكن
لجميع المشاهدين فهمها». كان لينش يعرف جيدًا أن السينما ليست مجرد قصة،
والأحلام، كما هي الحال، غريبة دائمًا. في بعض الأحيان، تبدو بعيدة المنال،
ويعتمد فهمها على مفتاح ليس في متناول اليد دائمًا. مات ديفيد لينش، فلتحيا
سينماه. |