ثلاثة صور متفاوتة
الأبعاد لـ عماد حمدي لا تغادر ذاكرتي المثقلة بعشرات الصور لممثل قدم نحو
287 عملًا، لديه مكانة مهمّة في المشهد السينمائي المصري والعربي، استطاع
عبر رحلة محفوفة بالمجازفات ومترعة بالجمال والهيبة وصلابة الحضور الإبداعي
المشحون بألف انفعال وسطوة، أن يرسخ لنموذج البطل الطالع من عمق المجتمع
مخترقًا الحد الفاصل بين الواقع والمتخيّل، جاذبيته الإنسانية عكست بوقار
وتألّق وتأثير قوي في قلب المُشاهد وعقله، كان يرمق جمهوره بنظرات حانية،
فيرد له الجمهور التحية بشغف واحتواء، إلاّ أن الصور الثلاث التي ترسخت في
ذهني رسمت له سمات وجودية اكتنزته كممثل أدرك المعنى الأسمى للتمثيل،
متوغلًا في التفاصيل الصغيرة التي تصنع المتعة التمثيلية، حسبما ما فعلها
مع" حامد" بطل "السوق السوداء" (1945) إخراج كامل التلمساني، وندرك معه في
حارة من حارات القاهرة القديمة أثناء الحرب العالمية الثانية وتحديدًا في
العام 1943، كيف تركت الحرب أثرها على التغيرات المجتمعية ونغوص كذلك معه
في عالم السوق السوداء والاستحواذ الرأسمالي الذي بدأ يفرض سطوته على هامش
الحرب.
الصورة الثانية
لـ"أحمد أفندي عاكف" في فيلم "خان الخليلي" (1966) إخراج عاطف سالم عن
رواية نجيب محفوظ، فنرى أصداء الحرب العالمية الثانية مرة أخرى حين اشتدت
واضطر أحمد وأسرته التي كانت تسكن في حي السكاكيني بالقاهرة، أن تنتقل إلى
حي آخر هو خان الخليلي، وعلى خلفية هذه الحرب وتأثيراتها تتصاعد أحداث
الفيلم والرواية، وتتمحور حول هذه الشخصية التي تمثل الطبقة المعذَبة في
المجتمع المصري أو كما وصفها الدكتور محمد مندور في كتابه "قضايا جديدة في
أدبنا الحديث" بأنها نموذج بشري للطبقة الوسطى التي تكوَن العمود الفقري
للمجتمع.
أما الصورة الثالثة
فهي للحاج سلطان صاحب ورشة الخشب في "سواق الأتوبيس" (1982) إخراج عاطف
الطيب، الأب النموذجي للابن النموذجي "حسن" المحارب في أكتوبر الذي يصارع
وحده وحشة واقعه الذي انغلق على سواد الطمع وتكديس الأموال والتفكك
العائلي.. صورة عبد الناصر منزوية في ركن بعيد بالورشة، والحاج سلطان
يتوارى في منزله متجرعًا مرارة الضعف والخذلان، ثم يقرر في لحظة حاسمة أن
يودع ورشته الشاهدة على قوته القديمة، يتأمل تفاصيلها كأنها ترمم أوجاعه،
يحكي لابنه الذي يشعر بأحاسيس الخيبة التي تستشري في شرايين وأوصال والده،
عن البدايات والكفاح بشرف في زمن كان يعي معنى القيم، قبل هذا الزمن الجديد
المتخم بقبح المتآمرين وانتهازيي الفرص، آنين كمان كمال بكير يتسلل كصوت
بشري يضج بوليمة الخراب التي تستفحل في البلد، في الورشة التي تتابع لقطات
مدير التصوير سعيد شيمي لتسجيلها، وتسكينها في الذاكرة حتى لا يفوتنا
شيئًا، الأب وابنه في خلاء المكان، يطرق الأب الماضي ويحاول الابن أن يجمع
شظايا الحاضر، لكن القسوة مستفحلة.
هذا المشهد هو الأخير
للفنان عماد حمدي في مشواره السينمائي وفي الفيلم قبل أن يستسلم للموت كحصن
يلوذ به من حسرته، البطل المهزوم مأواه هو الرحيل عن الزمن الذي يتهافت
المستغلون الجدد لسرقة الورشة وتحويلها إلى بوتيكات تناسب عصر الانفتاح،
لتكون هنا المفارقة المدهشة أن الممثل الذي بدأ مشواره في "السوق السوداء"
في دور رجل ينتمي إلى واقعه، لكنه يقاوم أفخاخ هذا الواقع بتحصنه المنيع
بأفكاره الاشتراكية ويواجه المستغلون الذين ينهشون في أوصال المجتمع، بروح
صلبة ترفض التنازلات والمساومات كما يقول الناقد كمال رمزي في مقاله "فارس
الأحزان المهزوم" في كتابه (نجوم السينما المصرية.. الجوهر والأقنعة)، هو
ذاته الحاج "سلطان" العجوز المهزوم، الخارج من أزمنة أخرى، ناضل وقت
الاحتلال الانجليزي، تعارك مع ضابط إنجليزي ثم هرب إلى القاهرة وافتتح
ورشته للنجارة وصار "الأسطى" الذي يطلب الجميع وده، حتى وصل إلى هذا الزمن
الذي يتهافت المستغلون الجدد لسرقة الورشة وتحويلها إلى بوتيكات تناسب عصر
الانفتاح، عدا ابنه حسن الذي يقف إلى جواره ورشف معه مرارة الخيبة.
الصور الثلاثة هي
الأكثر حضورًا في ذاكرتي للممثل الذي تجلى بطاقة تمثيلية كبيرة، لكنها
وحدها لا تختصر مساره الطويل من التحدّيات والأسئلة والتفاصيل الحياتية
والإنسانية والفنية التي شكلت حضوره وقدراته وآفاق وعيه، فكل دور قدمه كان
يشكل جزءً من روحه وهبه لمشروعه التمثيلي الكبير، حتى في أفلامه وأدواره
المتعددة التي امتزجت فيها الرومانسية والميلودراما وكرسته ليكون أيقونة من
أيقونات الرومانسية مع شريكاته المثاليات: فاتن حمامة، شادية، مديحة يسري..
فنحن بصدد ممثل من العيار الثقيل يتماهى مع شخصياته ببساطة دون استعلاء أو
السقوط في الفراغ الدرامي والتبسيط الفني والتقني، بل تواصل المحب الذي هيأ
حياته من أجل مهنة تجعله في غمار الحياة والعيش، وتجعل جمهوره يقتنع أن
رجلًا من طينته قادرٌ على خوض كل التجارب بأساليب مختلفة وتحويله الشخصية،
مهما كان ثقلها في النص الدرامي، وأيًا كان موقعها في السياق الروائي، إلى
فعل مؤثر يصعب أن يُنسى. |