ظل الفنان عماد حمدي
يمثل لي، شياكة الشاشة ورونقها بلونيها العظيمين الأبيض والاسود، فوضع لي
شكلا محددًا ـ أنه هكذا ـ يجب أن يكون شكل الرجال، حتى لو كان ليس ـ
دنجوان ـ بالمعني العالمي، فالشعر الأسود المجعد، والفارق في شعره، والشارب
المتناسق، والسيجارة في شفتيه دائمًا، يقدم لك ملامح مصرية شرقية حقيقية،
تشعر معه أنه والدك في البيت أو مُدرسك في المدرسة أو صديقك في العمل، أو
طبيبك الذي سوف تشفي علي يديه، وقد خلق ذلك لي شكل النموذج الذي تمنيه في
الحقيقة، فلم أكن أبحث عن أب يمتلك القوة الجسمانية المهولة كفريد شوقي، أو
المكر الذي يتمتع به محمود المليجي أو الرعب الذي يطل من عيني زكي رستم، أو
الوسامة المفرطة كعمر الشريف ورشدي اباظة.
ونظرًا لتلك الحميمية
التي نقلها لي عماد حمدي، فقد صادقته وقلدته كثيرًا في أفلامه، يرتدى
البدلة والكرافت دائمًا سواء في موقع العمل، أو أثناء جلوسه على المقهى، أو
حتى وهو يتجول في شوارع القاهرة أو الإسكندرية، كما إنه في البيت يرتدي
الروب دي شامبر للدلالة على طبقته الارستقراطية أو مهنته الراقية.
وربما يرجع ذلك
التعلق إلى حنين لماضي أفتقده كثيرًا، لكن عماد حمدي ما يكاد يظهر على سطح
الشاشة حتى يجذبني إليه، رافقته كثيرًا في أفلامه، أعلم أنه جدع وابن بلد
وشهم وإنه محامي دؤوب أو طبيب ماهر أو رب أسرة عظيم، والمدهش أن رفقتي له
خرجت من الشاشة إلى أرض الواقع بالنسبة لي، خاصة في فيلم " أقوي من الحب"
فما يمكن أن يفعله رجل فقير لكنه يمتلك موهبة الرسم بينما زوجته طبيبه
وثرية وحادة الطباع ـ مديحة يسري ـ لكنه يبحث عن الحب، عن كلمة حلوة
تستقبله وسط أبناءه، فلا يجدها من زوجته المتعالية صاحبه العمل التي تصرف
على البيت، وبالتالي فأنه ـ كرجل ـ يجب أن يسمع الكلام أو ـ يركن ـ على
جنب، أو لأنه رجلا غير كامل ـ فقد ذراعه ـ إلا أن يفرض حبه ومهنته أو
موهبته الفنية حتى تفهم مشاعره، وإنه يمكن أن يحقق دخلا معقولا من هذا الفن
ـ رسم اللوحات ـ، وهذا أقلقني في فترة من حياتي، كما إن رفقته لبعض
الممثلات ـ كثنائيات سينمائية ـ جعل هذه الرفقة حقيقة سواء كانت مع فاتن
حمامة أو شادية أو مديحة يسري، أي يجب أن تكون الحياة هكذا، اثنان يحبان
بعضهما ويكملان حياتهما مع بعضهما مهما حدث من مشكلات في رحلتهما، فدائمًا
الحب ينتصر.
ونظرًا لهذا التعلق
فقد ظلت شخصية " حسين " في فيلم " أم العروسة" هي التي تخرجنا إلى أرض
الواقع القاسية، كما انه لم ننتبه إلى أن ـ حسين ـ هو المكافح وهو القلق
دائما على أسرته، وليست الزوجة ـ تحية كاريوكا ـ فشخصية حسين هي التي توزع
الحب والخوف على الأسرة، وهو القلق من عدم الوفاء باحتياجات الأسرة، وهو
الذي يغسل الأطباق ويقوم بكي ملابس الأسرة، كل هذا الحب الذي يوزعه حسين.
أنني من الجيل الذي
تربي على هذه الأسس والأفكار، وبالتالي فعل عماد حمدي لي فجوة كبيرة بين
خيالاتي التي اعتمدت عليها وبين أرض الواقع الشرش في الحياة،
وقد سبب هذا أزمة
شخصية لي، فكرة أن دائما الأصول أو المبادئ أو الحب هو الذي ينتصر دائمًا،
لكن أرض الواقع كانت قاسية وحادة، فهذا لا يحدث إلا على الشاشة، حتى في
فيلمه الأخير "سواق الأتوبيس" أنه الأب والتاريخ والماضي الجميل والمكافح
الذي تحايل عليه الزمن، يحاصرونه، ويحالون التهام ما تبقي منه، وبعيدًا عن
دلالات الفيلم الرائعة، إلا أنه يجب أن يموت الرجال هكذا وسط أسرته، ويجب
أن يكون موته كارثيًا، فهو يظل الرجل والحامي والحبيب والأب العظيم وصاحب
الحب الدائم الذي لا ينفذ. |