صعب التصدي لمسار الفنان عماد حمدي الغني والمتنوع من بداياته إلى آخره، أو
حتى جزء منه، دون التَّوَرُّطِ في الحديث عن مراحل جد مهمة من تاريخ
السينما المصرية، وبالتالي عن تجارب متميزة لمخرجين اشتغل معهم وتركوا
بصماتهم واضحة المعالم في مسار هذه السينما الرائدة عربيا وفي مساره الخاص
هو أيضا.
مشهد أول
"أنيس أفندي" يتجول تائها في شوارع القاهرة وهو "مسطول" في حالة تَأَرجُح
بين الوعي والهلوسة ينتقد الأوضاع المقلوبة والفاسدة في البلد عبر مونولوغ
داخلي، ليَصِل لمقر وظيفته ويكلِّفه رئيسه في العمل بكتابة تقرير،
فَيَنهَمِكَ في تدوِينِهِ بقلم جاف لم يعد فيه مداد ويُقَدِّم ورقة خاوية
للمدير العام.
في هذا المشهد الافتتاحي لفيلم "ثرثرة فوق النيل" لحسين كمال، والمقتبس عن
رواية بنفس الاسم لنجيب محفوظ، اجتمعت وتكاثفت كل العناصر الفنية لتعطينا
سينما جيدة من إخراج ذو رؤية فنية إلى كتابة مُتقنة وتشخيص مُتَمكن منه من
طرف كل الممثلين وبالخصوص عماد حمدي الذي وصل في هذا الفيلم لمرحلة النُّضج
الفني بعد رحلة سينمائية طويلة تَقمَّص خلالها العديد من الأدوار، إذ كان
تشخيصه في هذا الفيلم من بين تلك الأدوار التي تُدرَّس لِتَصِير من بين
المرجعيات في التشخيص المتفوق والجيد.
في هذا المشهد الأساسي من "ثرثرة فوق النيل" وطيلة اللحظات التالية من
الفيلم، وصل عماد حمدي لِقِمَّة نضجه التشخيصي بواسطة أداء داخلي ومن خلال
مَشَاهِدَ اختارها المخرج حسين كمال أن تكون مكبَّرة على وجه عماد حمدي، في
أغلب الأحيان، المُعَبِّرِ عن سوء أحوال الفرد والمجتمع وعن رفضها، لكن
المُستسلم لها والساخط على الوضع لكن المُعَلِّقِ عليه بسلبية ساخرة وأسلوب
تختلط فيه الهلوسات بالتعليقات الذكية.
في هذا الفيلم ومن خلال تجسيده المتفوق لشخصية "أنيس" المحورية
والحَسَّاسَة استطاع عماد حمدي حَملَ الفيلم على كتِفه من أوله لآخره، رغم
مساندة ممثلين ونجوم مهمين وحضورهم في الفيلم بشكل جيد، خصوصا أن الشخصية
كانت قد أتت ناضجة من عمل نجيب محفوظ الأدبي ليلتقطها حسين كمال، في فترة
أنجز فيها أهم أفلامه، وليكون بالتالي اختيار المُشخِّصِ لها مُوَفَّقا،
فتأتي كواحدة من الفلتات المعدودة التي يُوازي فيها الفيلم العمل الروائي
ويكاد يتفوق عليه، خصوصا وبالتحديد مع أعمال نجيب محفوظ التي قليلا ما
استطاع مخرج موازاتها بأفلامه أثناء اقتباسها للسينما.
فلاش باك
كان أول ظهور لعماد حمدي في فيلم آخر مهم، لا يمكن التأريخ للسينما المصرية
بدون ذكره هو "السوق السوداء" (1945) لكامل التلمساني، والذي شكَّل صُحبة
فيلم "العزيمة" لكمال سليم نقلة جد مهمة في تناول تيمات غير معتادة آنذاك
برؤية مختلفة للمجتمع المصري، بحيث كان "السوق السوداء" من بين أول الأفلام
التي اختار مخرجوها النُّزول من "سرايات" وقصور الأثرياء لتناول قضايا
وهموم الشرائح الواسعة من المجتمع المصري، والتي جرت أحداثها في حارة
شعبية. في هذا الفيلم وما تلاه من أفلام شَكَّلَ عماد حمدي حوله وعنه صورة
الفتى الأول الرومانسي الذي يعيش باستمرار قصة حب مع حبيبته، إذ انطلق من
هنا ليُجسِّد أدوارا تَلعَبُ على هذه التنويعة، مع اختلافات في الحكايات
الرومانسية في العشرات من الأفلام في عقدي الأربعينات والخمسينات.
بعد فيلم "السوق السوداء" مباشرة سيقوم عماد حمدي ببطولة فيلم "دايما في
قلبي" (1946) في ثاني فيلم لـ صلاح أبو سيف "أب الواقعية" في السينما
المصرية كما اصطلح على تلقيبه، حيث سيتقاسم عماد حمدي البطولة لثاني مرة مع
النجمة عقيلة راتب.
وسيشتغل عماد حمدي بعد ذلك مع صلاح أبو سيف خصوصا بعد أن تختمر موهبته
وينضح تشخيصيا، ومن أهم أدواره في أعمال هذا الأخير مشاركته في فيلمي "لا
أنام "(1957)، و"لا تطفئ الشمس" (1961)، هذا الأخير الذي أدَّى فيه دور رجل
متزوج يرتبط بعلاقة حب مع شابة أصغر منه (فاتن حمامة).
خمسينيات متألقة
مِن اللَّافت أن عماد حمدي كان نجم سنوات الخمسينات بدون منازع وتشهدُ على
ذلك عدد الأفلام التي قام ببطولتها خلال سنوات هذا العقد، إذ رغم أن بعض
أفلامه يقع فيها الخلط من ناحية نسبتها للسنة التي أُنتجت فيها أو التي
تليها، فإنه من الأكيد أن هنالك سنوات وصل فيه عدد الأفلام التي قام
ببطولتها إلى عشرة أفلام، ليظل معدل بطولاته خلال هذا العقد لا يقل عن خمسة
أفلام في السنة الواحدة. ويستمر هذا نسبيا في عقد الستينيات أيضا.
مُشَخِّص مُتَلَوِّن
تَطوَّر وارتقى أداء عماد حمدي مع الزَّمن، بفضل اشتغاله مع مخرجين
مُهمِّين ينتمون لمدارس واتجاهات سينمائية مختلفة، كل واحدة منها كانت
تتطلب من المُشَخِّصِ نوعا خاصا من الأداء. فمن الأفلام العاطفية لعز الدين
ذو الفقار ("أنا الماضي" 1950، "أقوى من الحب" 1953، "قطار الليل 1953،
"وفاء" 1953، "قصة الوداع" 1954، "موعد مع السعادة" 1954، "إني راحلة"
1955، "شاطئ الذكريات" 1955...) التي تَنتَظِر من الممثل أن يكون سخِيّا في
التعبير عن المشاعر وهو يؤدي في أغلب الأحيان دور العاشق المتيم، إلى
المدرسة الواقعية لصلاح أبو سيف التي تجعل الممثل مقتصدا في أدائه حتى لو
كان آتيا من المسرح الذي يبصم صاحبه بالأداء المبالغ فيه، إلى مدرسة يوسف
شاهين الذاتية والتي لا تعترف سوى بذات المخرج وخصوصيته، ومن أفلامه معه
"سيدة القطار" (1952) "نساء بلا رجال"(1953)، "النيل والحياة" (1968).
انتقل عماد حمدي بسلاسة وعبر الزمن من أدوار الفتى الأول الجميل والمتيم في
حب حبيبته إلى الحبيب المسؤول والناضج والذي تُقيِّده ظروف ومسائل اجتماعية
ونفسية، إلى ذلك الرجل الكهل الذي يحب لكنه يعيش صراعات نفسية بين ما يريده
وما يفرضه عليه المجتمع من تقاليد وتوازنات، إلى الكهل ثم الشيخ المنهك
والذي لعبت به عوادي الزمن الألاعيب.
يُغيِّرُ جِلده
منذ الستينيات القرن الماضي شرع عماد حمدي في تغيير أدواره بالتدريج، أو
فُرض عليه ذلك بحكم السن لا فرق، إذ نجده سنة 1961 في فيلم "لا تطفئ الشمس"
يلعب دور الرجل الأربعيني الذي تأخر عنه قطار الزواج ويحب فتاة أصغر
منه (جسدتها الفنانة سميرة أحمد)، وبعد ذلك بسنتين فقط يلعب دور أبيها
(سميرة أحمد) في الكوميديا الاجتماعية الجيدة "أم العروسة" الذي يُعَدُّ
واحدا من بين أهم أفلام المخرج عاطف سالم.
على عكس ما هو دارج في بعض المقالات الصحفية التي كُتِبت عن عماد حمدي فهو
لم ينتقل مرة واحدة من أدوار البطولة إلى أدوار ثانية، بل كانت لديه بطولات
جماعية، وحتى دور الأب الذي يمكن اعتباره دورا ثانيا في أغلب الأحيان لعبه
كشخصية رئيسية، وخير مثال عن هذا دوره في فيلم "أم العروسة" الذي كان بطولة
مطلقة له رغم أنه كان لشخصية أب موظف لديه أطفال كُثُر ويُصارع حالته
الاقتصادية لتزويج ابنته البكر حتى يصل به الأمر للاختلاس.
مُسِن ومَهزُوم
في آخر دور شَخَّصَهُ عماد حمدي بتمكنه المعهود في فيلم "سواق الأتوبيس"
للمخرج المتميز عاطف الطيب، كان وكأنه يُؤدِّي دوره في الحياة آنذاك،
متقمصا شخصية رجل مُسِن مهزوم بسبب تخلي أغلب من حوله عنه إلا ابنه الذي لا
يستطيع له حولا ولا قوة، فحتى أقرب المقربين خانوه، وقد بدا عماد على
الشاشة منكسرا كما يتطلب منه الدور وأيضا كما رُوِيَ أنه عاش آخر أيامه
كذلك قبل أن توافيه المنية بعد هذا الفيلم بقليل.
عموما لا يمكن الإلمام والحديث بإسهاب عن كل مسيرة عماد حمدي في مقالة من
ألف كلمة، فهذا الفنان المتمكن والمتميز يستحق كتابا، بل كُتُبا، عن مسيرته
وأعماله السينمائية التي كان الكثير منها جيدا ويستحق الدرس والتحليل من كل
جوانبها خصوصا من ناحية التشخيص الذي كان عماد حمدي أحد أعمدته وعباقرته
الذين طوروا فيه، عبر مساره الطويل والغني. |