تأخر تقديري لموهبة عماد حمدي عدة سنوات، رغم أن حضوره كان يملأ أيام
طفولتي، أواخر السبعينات وحتى أواخر الثمانينيات لم تكن الفضائيات قد ظهرت
بعد ولم يكن أمامنا من وسيلة لقضاء الوقت سوى الجلوس مع العائلة أمام شاشات
التلفزيون لمشاهدة أفلام الأبيض والأسود التي تعاد بتكرار يصل إلى حد
الملل، فقد كنا أسرى قناتين فقط هما الأولى والثانية وفي كل تلك العروض حظي
عماد حمدي بنصيب الأسد يليه شكري سرحان وكمال الشناوي.
كنت كلما شاهدته أجد فيه ملامح الأب ولم أستوعب كيف لرجل له ملامح الآباء
أن يصبح فتى الشاشة الأول، فالآباء كانوا لا يصلحون إلا لرعاية العائلة.
وكثيرا ما سألت نفسي كيف لنجمات في جمال مديحة يسري وشادية وفاتن حمامة
ومريم فخر الدين أن يقعن في حب رجل أرى ملامحه كلها ذاهبة إلى الشيخوخة.
ربما كانت المرة الأولى التي انتبهت فيها إلى وسامته كانت في فيلم (بين
الأطلال/ اذكريني) مع فاتن حمامة وعز الدين ذو الفقار، كنت في سبيلي لمحبة
الأدب وأحاول قدر استطاعتي أن أكون صورة للأديب والكيفية التي ينبغي أن
يكون عليها ولم تكن صورة طه حسين التي تجلت لي في فيلم (قاهرة الظلام) قرب
راحة اليد، فقد كانت علوية على نحو ما، تقع على مسافة من الواقع، لأنه وقار
العميد يذهب به إلى مصاف الأساطير.
أقنعتني صورة عماد حمدي في الفيلم أكثر، لأنها تستجيب للمغامرة وتخضع
طاقتها لشروط الضعف الإنساني كما كانت تكرس صورة أرغب في مراقبتها لكاتب
يتورط في حب فتاة تصغره بسنوات.
وعلى طريقته العذبة التي تفيض بالرومانسية عزز عز الدين ذو الفقار تجربة
الوقوع في الحب بالتناقض الأخلاقي بين الواقع والمثال ووضع التجربة كلها في
مهب الاختيار وساعدت قصة يوسف السباعي المصنف فارسا للرومانسية على تأطير
التجربة بشخصيات تستجيب لكل شروط (الكليشيهات) المحتملة.
فالمؤلف محمود المتزوج من امرأة لا تشاركه اهتماماته، تعترض طريقه الفتاة
الصغيرة المولعة بمؤلفاته فيعشقها عشقا يصل إلى حد الجنون لكن مرض زوجته
بمرض القلب يحول دون التخلي عنها وتحت ضغط الأهل تتزوج منى وتغادر مصر
وعندما تعود تكتشف أن عشيقها أصيب في حادث سير ويرقد في فراش الموت لذلك
تذهب لزيارته وحين يعرف زوجها بنبأ الزيارة يخيرها بينه هو وابنهما وبين
محمود فتختار أن تبقى إلى جوار حبيبها القديم لأنه في أمس الحاجة اليها.
يستحق الفيلم اليوم أن يكون موضع سخرية الأجيال الجديدة لكننا لم نكن
قادرين إلا على تقديم الدموع قربانا لتلك التضحية التي انتقلت بعماد حمدي
صوب زاوية جديدة يصلح فيها لأدوار لا يصلح فيها إلا لتقديم التضحيات فهو
المريض الأبدي كما في فيلم (حياة أو موت) لكمال الشيخ.
وهو فيلم اعتبره أحد أيقونات طفولتي، ولا أزال مهيأ لرؤيته في أي وقت، وفي
تلك السنوات لم يكن مرض البطل هو ما يثير اهتمامنا لأن ما شغلنا حقا هو
أداء الفتاة (ضحى أمير) التي كانت تؤدي دور ابنته وتجوب شوارع القاهرة لكي
توفر له جرعة دواء تنقذه من مرض الربو الذي كان من الأمراض الخطرة آنذاك.
وعلى نفس المنوال استمر عماد حمدي يضحي إلى أن وصل معنا إلى فيلم آخر يعد
من الأيقونات الخالدة وهو فيلم (أم العروسة) الذي يقاوم كل أنواع الضجر
بفضل فرادة السيناريو المذهل لعبد الحي أديب وإخراج المتمكن لعاطف سالم فهو
فيلم مثالي عن العائلة وعن تآكل الطبقة الوسطى وذاتها الجريحة، فيلم تصلح
كل جملة ترد على لسان أبطاله لا سيما تحية كاريوكا وعماد حمدي أن تكون
(سلوجن) منفصل، فقد عاشت جمله الحوارية واستقرت في نسيج الحياة اليومية.
وفيها ينتقل عماد حمدي بعذوبة كاملة ليواصل التضحية و تتكرس فيه صورة الأب
،تلك الصورة التي اختتم بها مسيرته مع عاطف الطيب وبشير الديك في (سواق
الأتوبيس ) فقد ساعده المرض على أن يقنع المشاهد تماما بما يعانيه ،فليس
الموت وحده هو الذي كان يقترب وإنما خط الزوال الذي كان يشير إلى غياب
محتمل لممثل كان ينتقل بهدوء الواثق من محطة إلى أخرى يصعب النظر إليها إلا
بوصفها مسيرة السعي نحو الاكتمال والقدرة على المغايرة والاختلاف ،كإنما
بلغ ما قصده إدوارد سعيد وهو يتحدث عن الأسلوب المتأخر بقصد الإشارة إلى
الإبداع الذي يذهب بصاحبه إلى حد الاستغناء ومقاومة كل شروط النجومية فهو
يؤدي لأجل أن تصفو ذاته.
يتساءل سعيد إن كان المرء يزداد حكمة مع تقدمه في السن؟ وهل هناك مؤهلات
فريدة في الرؤية والشكل يكتسبها الفنانون بسبب العمر في الفترة المتأخرة من
سير حياتهم؟ في تلك الفترة التي يسميها بفترة تحلل الجسد واعتلال الصحة،
تحل دوافع أخرى للإبداع. مستندا إلى فكرة طرحها أدورنو حول فكرة البقاء على
قيد الحياة فيما يتعدى المقبول والطبيعي، مؤكدا أن التأخر يتضمن فكرة
مفادها أنه ما من أحد يستطيع أن يتعدى التأخر أبدا، ولا يستطيع التعالي
عليه أو تجاوزه أو الإفلات منه، وأن كل ما يستطيع المرء هو أن يعمّق التأخر
ويقاومه بشيء من التفرد.
واليوم عندما تأتي أمامي صورة عماد حمدي تتكرس فيها صور التضحية وتبهت
تماما صورة الدون جوان، فالأولى أقنعتني دائما كما أقنعتني صورته وهو يؤدي
دور أنيس زكي في ثرثرة فوق النيل، أو شخصية المدمن في فيلم ميرامار (إخراج
كمال الشيخ 1969).
وفي تقديري أنه قد بلغ "الأسلوب المتأخر" في هذين الدورين كما في (سواق
الأوتوبيس ) وامتاز بأن له القوة على التعبير عن الخيبة واللذة دون أن يحول
بينهما، وكما يقول سعيد فإن ما يجمعهما في التوتر هو ذاتية الفنان الناضجة
والمجردة من العجرفة والتفخيم، والتي لا تخجل من كونها معرضة للخطأ ولا من
الطمأنينة المتواضعة التي اكتسبتها نتيجة العمر واغتراب المرض أو المنفى
وأظن أن هذا هو سر تألق عماد حمدي في سنواته الأخيرة فقد استجاب لنزعة
عدمية تضع الماضي كله خلف تظهره وتأخذه إلى رحابة ظل بحاجة إليها لكنها
وصلت مثل قطار متأخر. |