البندقية 81.. دورة واعدة يفتتحها تيم برتون وترأس تحكيمها
إيزابيل أوبير
هوفيك حبشيان
دورة جديدة تحمل الرقم 81 من مهرجان البندقية السينمائي (28
آب – 7 أيلول) تنطلق بعد ساعات، وستكون العيون شاخصة إلى جزيرة الليدو
الفينيسية التي تحتضن الحدث لنحو أسبوعين مشبّعين بالعروض العالمية الأولى
وإطلالات النجوم والهوس بالشاشة التي ستغدو مركز الكون بالنسبة إلى
المشاركين، أكانوا صنّاعاً أو إعلاميين أو زوّاراً للاطلاع والمعاينة.
كانت إيطاليا سبّاقة في تنظيم تظاهرة مخصّصة للفيلم، وذلك
منذ مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، يوم دعمت الحكومة الفاشية في عهد
موسوليني فكرة توظيف الفنّ السابع لأغراض إيديولوجية، منها الترويج للثقافة
الإيطالية.
من
كان ليصدق أنها ستستمر لنحو قرن من الزمن، فتصبح مع كانّ وبرلين، أحد
الشهود على تطور السينما مذ تحوّلت إلى ناطقة. لكن الأشياء تغيّرت مع تبدّل
أحوال العالم الذي نعيش فيه، فـ«الموسترا» اليوم منفتحة على زمنها، تقف في
صف التعددية وتناصر القيم المعولمة.
الـ«موسترا» (والمفردة تعني «معرض» في اللغة الإيطالية) هي
في الأساس جزء من بينالي البندقية للفنون، وتاريخها متشعّب، وسرده يحتاج
إلى مجلّدات. إنه تاريخ تكوّن من لحظات صعود وهبوط، عظمة وانحطاط، غياب
ومحاولات ناجحة لفرض حضور.
لم تنعم الـ«موسترا»، على غرار كانّ، باستقرار طويل، بل
لطالما كانت أوضاعها انعكاساً للمناخ السياسي المتقلّب في إيطاليا. الحديث
عنها يعني المشي في حقل من الألغام، منذ الحقبة الفاشية إلى الزمن الحالي،
مروراً بالحرب وما بعدها، من دون أن ننسى احتجاجات الستينات.
الناقد ألبرتو باربيرا هو حالياً زعيم الـ«موسترا». الرجل
يعرف التظاهرة التي يديرها على أصابع يديه. حاضر في كواليسها منذ ربع قرن،
ولو أنه سلّم الدفّة بين 2004 إلى 2011 لماركو موللر، ليعود ويتسلّمها بعد
مغادرة الأخير من المهرجان مرسّخاً نفسه فيه هذه المرة بشكل أعمق. يصعب نسب
كلّ التطور الذي حصل في السنوات الأخيرة إليه، لكن ثمة إيجابيات شهدها عهده
لا يمكن أن ننكرها.
باربيرا
نقل المهرجان من مكان إلى مكان، ويُذكر دائماً في معرض الحديث عن إنجازاته
بأنه اختار أفلاماً أميركية نالت جوائز «أوسكار» أو رُشِّحت لها، وبعض هذه
الأفلام كان «الأسد» من نصيبها. نذكر منها: «جاذبية»، «بردمان»، «لا لا
لاند»، «شكل المياه» و«نومادلاند».
هذا
العام، تتولّى الممثّلة الفرنسية الكبيرة إيزابيل أوبير رئاسة لجنة
التحكيم. إنها ثالث امرأة تُنسد إليها هذه المهمة منذ بداية هذا العقد، مع
العلم أن فرض نظام الكوتا النسائية لم يأتِ بمردود في المهرجان، الذي ظلّ
يغرد خارج السرب، رافضاً الابتزاز والضغوط، معتبراً أن المستوى الفنّي يأتي
قبل الأجندات.
وكان صوت باربيرا عالياً في رفض التسويات، بل دعا إلى فصل
الفنّان عن الإنسان في العام الماضي عندما أثار عرض آخر أفلام رومان
بولانسكي الجدال المتوقع. البندقية يتميز في هذا عن البرلينالة المسيس جداً
والخاضع للوبيات حوّلته إلى رأس حربة في الدفاع عن كلّ شيء ولا شيء.
تضم لجنة أوبير أسماء لها وزنها في الإخراج السينمائي:
الأميركي جيمس غراي (سبق ان كان عضواً في لجنتها في مهرجان كانّ 2009)،
البريطاني أندرو هاي، البولندية أغنيشكا هولاند، البرازيلي كليبير مندونسا
فيلو، الموريتاني عبد الرحمن سيساكو، الإيطالي جوسيبي تورناتوري، الألمانية
جوليا فون هاينز والصينية جانغ جيي. والأخيرة هي، ما عدا أوبير، الوحيدة
التي تمتهن التمثيل، فالتركيز هنا على المخرجين على ما يبدو، خلافاً
لمهرجانات أخرى أصبحت تشكّل لجانها وفق مبدأ «من كل واد عصا».
«بيتلجوس
بيتلجوس» لتيم برتون سيفتتح المهرجان. بعد الفيلم الإيطالي المخيب الذي
دشّن الدورة الماضية، ها أن «الموسترا» تعود إلى السينما الأميركية -خمسة
أفلام أميركية افتتحتها في السنوات العشر الماضية-، التي تجلب معها نجوماً
سيمشون على السجّادة الحمراء وأمام عدسات وكالات الأنباء الدولية.
فالمهرجان
يحتاج في الأخير إلى هذا النوع من المظاهر والبهرجة والألق، ولا تكفي
الأفلام للأسف كي يصبح الحدث مدار اهتمام شعبي طوال 11 يوماً. فهو يُعقد
على جزيرة لا يكفي عدد المقيمين فيها لإحداث صخب.
أفلام
كفيلم «برتون» -يتولّى البطولة كلّ من مايكل كيتون ووينونا رايدر ومونيكا
بيللوتشي وويلم دافو- تنسف الروتين اليومي على الليدو وهذا مطلوب.
أياً يكن، عرض فيلم برتون على سبيل الافتتاح ما هو سوى حصول
على آخر اخبار هذا المخرج الغائب بعض الشيء عن الشاشات منذ فترة، وذلك بعد
تراجعه اللافت، هو الذي كان بلغ الذروة في التسعينات. على أمل أن يليق باسم
فنّان طليعي، خصوصاً أن أفلام الافتتاح باتت سمعتها سيئة في المهرجانات
الثلاثة الأولى، بسبب الاختيارات التي تأخذ في الاعتبار التسويق على حساب
الفنّ.
21
فيلماً طويلاً ستنافس على «الأسد الذهب». هناك في المسابقة كالعادة، أسماء
معروفة وأخرى جديدة لم تثبت نفسها بعد. هذه حال كلّ المهرجانات، فالتوازن
بين أسياد الإخراج ومواهب فتية ضرورية في أي تظاهرة تطمح إلى الوفاء لمن
صنعوا ماضيها، ولكن تتطلع أيضاً إلى المستقبل.
الإسباني
الكبير بدرو ألمودوفار يتصدّر المسابقة. «الغرفة المجاورة»، أول أفلامه
الطويلة باللغة الإنكليزية بعد مسيرة بدأها في السبعينات. الفيلم بطولة
تيلدا سوينتون وجوليان مور. ماذا نريد أكثر من هاتين داخل كادر واحد، فما
بالك إذا كان خلف الكاميرا سيد تيار الموفيدا، الذي يعرف تصوير النساء أكثر
من أي مخرج آخر.
مع
ذلك، قد لا يكون هذا أكثر الأفلام المنتظرة هذا العام في البندقية،
فـ«جوكر: فولي أ دو» لتود فيليبس هو الذي يترقّبه الجميع. بعد الجزء الأول
الذي نال «الأسد» قبل خمسة أعوام.
يعود
فيليبس بتتمة يتردد في الأوساط أنها ستكون بمثابة قنبلة سينمائية. يتولّى
واكين فينيكس الدور الذي نال عنه الـ«أوسكار»، لكن هذه المرة يتشارك
البطولة مع المغنية لايدي غاغا، في نوع سينمائي هو الميوزيكال.
فيلم
ثالث في المسابقة يثير الحماسة: «ماريا» للتشيلياني بابلو لاراين الذي
يواصل توثيقه لسير شخصيات طبعت القرن العشرين، واللافت أن جميعها عُرض في
البندقية.
بعد
جاكي كينيدي والأميرة ديانا، يتطرق هذه المرة إلى أيقونة الغناء الأوبرالي،
والمقصود بها اليونانية ماريا كالاس (1923 – 1977) التي أدهشت العالم
بصوتها الأسطوري. يعود لاراين إلى البندقية للعام الثاني على التوالي،
بعدما شارك في 2023 مع عمله الغرائبي «الكونت» عن الجنرال بينوشيه.
مخرج آخر سطع نجمه في السنوات الأخيرة، بعدما عرض معظم
أفلامه في البندقية. إنه الإيطالي لوكا غوادانينو الذي يعود هذا العام مع
«كوير»، المقتبس من رواية لوليم بوروز، بطولة دانيال كريغ الذي يقدّم فيه
«دور عمره» كما قال باربيرا، علماً أن الفيلم حظي بموازنة ضخمة وصُوِّر في
استوديوات تشينيتشيتّا حيث أعيد إحياء مسرح الأحداث الواقع في نيو مكسيكو.
البرازيلي
والتر ساليس، الغائب منذ 12 عاماً، يطل مجدداً مع «لا أزال هنا». لم نسمع
عنه شيئاً منذ «على الطريق» (2012)، أفلمته لرواية جاك كرواك الشهيرة التي
لم تلقَ النجاح المطلوب، مع التذكير بأنه الفضل يعود إليه في موضعة السينما
البرازيلية من جديد على خريطة المهرجانات بين أواخر القرن الماضي ومطلع هذا
القرن مع أعمال مهمّة مثل «محطة برازيل» و«مذكّرات دراجة».
جديده
مأخوذ عن مذكّرات الكاتب مارسيلو روبنز حوال والدته يونيس بايفا، محامية
انخرطت في النشاط السياسي بعدما ألقت الديكتاتورية في البرازيل القبض على
زوجها.
الفرنسي
إيمانويل موريه، معبود بعض النقّاد الفرنسيين، ضُمَّ إلى المسابقة مع «ثلاث
صديقات». قراءة للأسطر القليلة المتوافرة عن الحبكة تؤكد لنا أنه لا يختلف
عن العديد من أفلامه السابقة التي تُعتبر استكشافاً رقيقاً لعلاقات غرامية،
يغازل أجواء إريك رومير، مركّزاً على التعقيدات الناتجة من الاحتكاك بالآخر.
السينما
الإيطالية تحضر بخمسة أفلام في المسابقة: بالإضافة إلى «كوير» لغوادانينو،
هناك «أرض المعركة» لجيانّي أميليو، مخرج قدير خذلنا قبل عامين مع «سيد
النمل»، وأيضاً «فرميليو» لماورو دلبيرو، «إيدو» لفابيو غراسادونيا
وأنتونيو بيازا اللذان يقدّمان فيلمهما الثالث بعد مشاركتين لهما في كانّ،
بالإضافة إلى «ديفا فوتورا» لجوليا لويز ستايغرفالت.
السينما الأميركية تسجّل حضوراً قوياً هذا العام، بعد دورة
العام الماضي التي جاء حضورها فيها محدوداً بسبب إضراب الممثّلين وكتّاب
السيناريو.
خمسة
عدد الأفلام الأميركية التي سنكتشفها في الأيام المقبلة. «المتوحش» لبرادي
كوربيه يبدو أكثرها طموحاً. هذا الممثّل الذي انتقل إلى الإخراج يبلغ من
العمر 36 عاماً. انطلق كمخرج قبل نحو عشر سنوات مع أفلمة لرواية جان بول
سارتر «طفولة قائد».
ثاني
أفلامه عُرض في «الموسترا» بعدها بأربعة أعوام، وها هو يعود اليوم بفيلم عن
مهندس مجري (أدريان برودي) ينجو من المحرقة فيهاجر إلى الولايات المتحدة
ليعيش كامل تفاصيل الحلم الأميركي.
خارج
المسابقة، نجد العديد من الأعمال التي تبقى رهناً للاكتشاف. مجدداً، مشاهير
الإخراج يتجاورون مع مَن وضعوا أقدامهم للتو داخل حقل السينما.
من
المكرسين الذين سنتهافت لمشاهدة جديدهم: الفيليبيني لاف دياز (سبق أن فاز
بـ«الأسد»)، الياباني تاكيشي كيتانو (فائز ثانٍ لـ«الأسد»)، الأميركي كافن
كوسنر الذي سيكشف تفاصيل الجزء الثاني من ملحمته «آفق» التي شاهدنا الجزء
الأول منها في مهرجان كانّ الماضي. هناك أيضاً الإيطالي بوبي أفاتي الذي
سيختتم فيلمه الأحدث «حديقة أميركية» الدورة الحادية والثمانين.
الأسماء المحترمة تحضر أيضاً في مجال المسلسلات التي أبدت
المهرجانات انفتاحاً عليها في السنوات الماضية. كلّ من المكسيكي ألفونسو
كوارون (سبق أن نال «الأسد» عن «روما»)، والإسباني رودريغو سوروغويين
والدانماركي توماس فينتربرغ والبريطاني جو رايت يشاركون بحلقات من جديدهم
للشاشة الصغيرة.
في
فقرة الأفلام الوثائقية 11 عنواناً بعضها لسينمائيين صنعوا مجد السينما
التي تستمد تفاصيلها من الواقع المعيش.
أبرز
هؤلاء: البريطاني من أصل هندي آسف كاباديا الذي يأتينا بـ«2073» عن مسافر
عبر الزمن يخاطر بحياته لتغيير مسار التاريخ وإنقاذ مستقبل البشرية.
والأميركي
المخضرم إيرول موريس، صاحب رائعة «ضباب الحرب»، وهو يتناول في جديده
«مفصولون»، سياسة الفصل العائلي المثيرة للجدال التي انتهجتها إدارة ترامب
وأدت إلى فصل الآباء والأمهات والأطفال بعضهم عن بعض على الحدود المكسيكية
الأميركية في عام 2018.
أما
السينما العربية فتأتي بستّة أفلام تُعرض في أقسام مختلفة: «عائشة» لمهدي
البرصاوي («أوريزونتي»). إنه المخرج التونسي الذي انطلق من البندقية قبل
خمس سنوات بفيلم بديع عنوانه «بيك نعيش». مجدداً حادث سير سيكون المدخل إلى
الحديث عن أحوال المجتمع التونسي.
الفلسطيني إسكندر قبطي سيقدّم «ينعاد عليكو» («أوريزونتي»)
عن أربع شخصيات مترابطة، مسلّطاً الضوء على التعقيدات الجنسية والثقافية
والجيلية.
المصري خالد منصور يروي في «البحث عن منفذ لخروج السيد
رامبو» («أوريزونتي إكسترا») ما يأتي: یتورط رامبو، كلب حسن وصدیقه الوحید،
في حدث خطیر، لیصبح بین لیلة وضحاھا مطارداً.
فيلم مصري آخر يُعرض هذه المرة في قسم «أسبوع النقّاد». إنه
«معطّر بالنعناع» لمحّمد حمدي. الحبكة: يحاول بهاء الطبيب الولهان وصديقه
القديم مهدي الهروب من أشباح ماضيهما، فيهربان من منزل مهجور إلى آخر بينما
تطاردهما الظلال بلا هوادة.
ومن
السودان يأتينا «السودان تذكرنا» لهند المدب (قسم «أيام المؤلفين») الذي
يوثّق لجيل يناضل من أجل الحرية. أخيراً، ثمة وثائقي من لبنان: «وعاد مارون
إلى بيروت» لفيروز سرحال عن المخرج الراحل مارون بغدادي (1950 – 1993) الذي
يشارك في قسم «كلاسيكيات فينيسيا».
ختاماً، يكرّم المهرجان هذا العام ثلاثة عن مجمل أعمالهم:
الممثّلة الأميركية سيغورني ويفر (74 عاماً) والمخرج الأسترالي بيتر وير
(80 عاماً)، والسينمائي الفرنسي كلود لولوش (87 عاماً). ثلاثتهم سيلتقون
الجمهور في لقاءات مفتوحة للحديث عن تجربتهم المديدة التي أوصلتهم في خريف
أعمارهم إلى جزيرة السينما الأشهر. |