رحل مساء أمس الأربعاء المخرج السوري الكبير
(عبد
اللطيف عبد الحميد)،
بعد معاناة مع المرض، عن عمر 70 عاما.
رحل (عبد اللطيف عبد الحميد) الذي عبرت أعماله عن المجتمع
السوري بصورة صادقه لأنه انعكاس حقيقي له، وما قدمه من أفلام نتيجة احتكاكه
المباشر بمشاكله، وقضاياه.
ويتفرد (عبد اللطيف عبد الحميد) عن زملائه بطريقة المعالجة
فهو ينطلق بموضوعه من المحلية إلى النطاق العالمي، لأنه يخاطب في أفلامه
المشاعر الإنسانية.
وهذا النوع من الأعمال الفنية لا يرتبط بعصر معين، حيث عالج
(عبد اللطيف عبد الحميد) في أعماله الحب، الأخلاق، الحرية، الموت، وهذا كله
يهم الإنسان في سوريا وفي أي مكان على هذه الأرض.
لقد اختار (عبد اللطيف عبد الحميد) نماذجه السينمائية من
الحياة السورية، تشيع فيها الروح السورية، والمشاعر السورية، والبيئة
السورية، وهذا جعل المشاهد في كل مكان ينجذب إليها بقوة، لأنها أعمال تخاطب
الروح والوجدان.
وقد لفت نظري في أفلام مخرجنا الراحل (عبد اللطيف عبد
الحميد) عشقه للموسيقى والألحان المصرية، الموجودة في معظم أفلامه منذ
فيلمه الأول (ليالي ابن أوى) الذي كان مليئا بأغنيات لأم كلثوم، وعبدالحليم
حافظ، ومحمد قنديل وغيرهم.
كما أهدى فيلمه (نسيم الروح) للموسيقار العبقري بليغ حمدي،
وقدم البطل الذي أدى دوره (بسام كوسا) عاشقا لبليغ وأمنيته أن يزور القاهرة
ليراه، فسار في جنازته.
ولقد تحدثت مع مخرجنا الراحل في هذه النقطة تحديدا، وكان من
المقرر أن يكون بيننا حوارا عن الموسيقى والغناء في أفلامه، وكان سعيدا جدا
بالفكرة، لكن انشغالنا حال دون اتمام الحوار حتى فوجئت مساء أمس برحيله.
وفور وفاة (عبد اللطيف عبد الحميد) تحولت منصات التواصل
الاجتماعي إلى سرادق عزاء، فقد نعاه كثير من نجوم الفن السوري والعربي.
نعته وزارة الثقافة السورية، والمؤسسة العامة للسينما
كما نعته وزارة الثقافة السورية، والمؤسسة العامة للسينما،
في تدوينة نشرتها عبر صفحتها على فيسبوك، قالت فيها:
رحل عنا المخرج السينمائي الكبير (عبد اللطيف عبد الحميد)
مخلفا واءه إرثا سينمائيا غنيا حمل قيمة كبرى في تاريخ السينما السورية
والعربية عموما.
ولد
(عبد اللطيف عبد الحميد) في عام 1954 وتخرج في دراسة السينما من معهد
(فغيك) في موسكو عام 1981، اتسمت سينماه بطابع حقق فيها صيغة سينمائية
حملت بيئة الريف متميزة بالبساطة التي ظل محافظا عليها حتى آخر أفلامه
(الطريق).
فمنذ فيلمه الأول (ليالي ابن آوى) الذي قدم عام 1989 ظهر
أسلوبه المتفرد في السينما بمعالجة موضوعاته ببساطة وتلقائية.
وتابع مسيرته في فيلمه الثاني (رسائل شفهية) عام 1991 الذي
حقق انتشارا واسعا لدى الجمهور السوري والعربي.
كما قدم المدينة بروح ساحرة في فيلمه الأشهر (نسيم الروح)
فقدم دمشق من خلال أحد أحيائها في قصة تقطر غرابة، وشغفا بالحب، وفي فيلمه
التجريبي (صعود المطر) قدم سينما خيالية ساخرة لم يسبقه إليها أحد.
(عبد اللطيف عبد الحميد) هو أكثر المخرجين السينمائين
السوريين عملا، قدم خلال مشواره الفني سلسلة من الأفلام بدءها بفيلم (ليالي
ابن آوى) وأنهاها بفيلم (الطريق).
وهو أكثر المخرجين السينمائيين السوريين تحصلا على الجوائز
السينمائية، من خلال مشاركاته في مهرجانات إقليمية وعربية وعالمية، وحازت
أفلامه على تقدير كبار النقاد في مشاركاتها.
كان وفيا لعمله مع (المؤسسة العامة للسينما)، حيث قدم فيها
كل أفلامه، كما قدم فيلم (مطر أيلول) مع قناة (أوربيت)، وكتب فيلما
تلفزيونيا حمل عنوان (أسبوعان وخمسة شهور)
.
وكتب (عبد اللطيف عبد الحميد) كل أفلامه التي قام بإخراجها،
وهى: (ليالي ابن آوى، رسائل شفهية، أيام الضجر، قمران وزيتونة، ما يطلبه
المستمعون، صعود المطر، أنا وأنت وأمي وأبي، نسيم الروح، العاشق، طريق
النحل، الإفطار الأخير، مطر أيلول، عزف منفرد، الطريق).
وثّق المخرج السوري (عبد اللطيف عبد الحميد) حياة السوريين
أفلامه عبرت عن حياة السوريين
وثّق المخرج السوري (عبد اللطيف عبد الحميد) حياة السوريين،
وتفاصيل حياتهم، وأفراحهم، وهموهم بعدسته حتى أصبحت أفلامه ذاكرة وطن.
من يتابع حياته يجد أن الإخراج السينمائي لم يكن حلمه
الأول، وكان يرغب في دراسة الموسيقى، ونترك مخرجنا السوري الراحل يحكي عن
هذا الحلم، فيقول كما جاء في أحد حواراته:
في السبعينيات كانت كفة الموسيقى لديّ أكثر رجحاناً من
الإخراج، لكن ذلك لا ينفي عشقي للإخراج والتمثيل والخوض في عوالم الصورة
والمسرح.
لطالما خلدت إلى آلة العود، وكثيراً ما عزفت للعائلة
والأصدقاء، وتقدمت بعد ذلك لاختبارات القبول في البعثات الموفدة إلى خارج
سورية، مؤثراً اختيار الموسيقى كرغبة تسبق الإخراج.
ورغم حصولي على درجة تامة، إلا أن المؤلف الموسيقي (صلحي
الوادي)، المترئس للجنة الاختبار آنذاك، تعامل معي باستخفاف شديد.
حتى أنه رفض الإصغاء لعزفي معتذراً قائلا: (يا بني، بعثاتنا
كلها إلى الدول الاشتراكية، ولا نفع لعودك هذا)، أصابتني عبارته بجرح عميق
أعادني مثقلاً بالإحباط إلى اللاذقية.
بعد ذلك حرصت على التقدم لبعثة الإخراج، فقُبلت وسافرت إلى
موسكو لأخضع، مع أربعين مبتعثاً من دول العالم، لحصارٍ نفسي هائل يؤول
لقبول عشرة للدراسة بالمعهد العالي للسينما.
وبعض الطلاب لم يتحملوا الضغط النفسي فانسحبوا، أما عني فقد
شاء الحظّ أن ألتقي بشاب سوري أنهى لتوه دراسة الموسيقى، أصغى لعزفي.
هذا الشاب طلب مني بعض مؤلفاتي الموسيقية، قدمني بعدها إلى
مدير معهد الموسيقى هناك، لعلّي – وفق تعبيره – أجد فرعاً بديلاً إذا أخفقت
في امتحانات القبول السينمائي.
قابلت مدير الكونسرفتوار، الذي اختبر قدرتي على مجاراة
نغمات أصابعه على البيانو، وانتهى بالترحيب قائلاً: (المعهد معهدك يا بني)،
داعياً إياي للالتحاق بالمعهد، لكنني آثرت الإخراج على الموسيقى.
الطريف بالأمر أنه بعد النجاح الكبير لفيلمي الثاني (رسائل
شفهية) عام 1992، وعلى هامش إحدى الندوات، التقيت مصادفة بالأستاذ (صلحي
الوادي)، الذي تأهب مرحباً مهنئاً.
فلم
أتوانَ عن البوح بمكنوناتي تجاهه، سارداً أحداث ذلك اليوم البعيد، مستهلاً
بالقول: (في سنة 1975 تقدم شاب لامتحان القبول في المعهد الموسيقي جوار
جامع الثريا، في حيّ الميدان موقف أبو حبل، شخصياً يا أستاذ أحمل شعوراً
مزدوجاً تجاهك، فلا أعلم هل أحقد عليك أم أشكرك!).
بعد أن شاهده الرئيس الراحل (حافظ الأسد) سمح بعرضه
الأسد يشاهد فيلمه الأول
لفت فيلم (ليالي ابن أوى) الذي عرض عام 1988 الأنظار بقوة
إلى موهبة المخرج (عبد اللطيف عبد الحميد)، وعن هذا الفيلم تحدث مع المخرج
السوري الشاب (جود سعيد).
فقال
في حوار بينهما: (موضوع الفيلم له علاقة بتكويني الشخصي، فأنا فعلاً أعشق
حياة الريف، والطريقة التي يتحدثون بها، والعفوية والتلقائية الموجودتين في
الحياة الريفية.
وتعود فكرة هذا الفيلم لجلسة مسائية قضيتها مع مجموعة شباب
سوريين بالسنة الأولى أثناء دراستي في موسكو، والتي نتعلم فيها اللغة قبل
دخولنا معهد السينما.
وكان كل منا يروي (حدوتة) خاصة به، إلى أن رويت أنا (حدوتة)
الأب والأم (تبع الصفرة) عندما كان أبي يوقظ والدتي في الليل كي تصفِّر
لتهرب (بنات آوى).
وإذا بالجميع يضحكون بشدة، لتظل هذه الضحكة في ذهني سنوات
متسائلاً لماذا ضحكوا، ولعلمك يوجد أشخاص يستغربون من أن التصفير يطرد (ابن
آوى) بالفعل.
وطبعاً هذه (التيمة) تنسحب على أشياء أخرى في الفيلم فوجئ
بها المشاهد السوري الذي لا يعرف تلك البيئة، وبالفعل حاول هذا الفيلم أن
يغير الصورة النمطية عن هذه البيئة.
وهى فكرة ظلت عالقة في ذهني فترة طويلة، إلى أن أنجزت النص
وجعلتني الرقابة أعيد كتابته ثلاث مرات، وحذفوا لي منه مشهد الأب عندما كان
يدرب الفلاحين على آلية التعامل مع الطيران الإسرائيلي.
هذا المشهد بقي في الفيلم لكنه أخذ صبغة أخرى، وأنا أعتبر
أن المشهد كان أقوى بالصيغة الأولى التي حذفوها، حيث أن الفكرة كانت تدور
حول إحضار هؤلاء الفلاحين إلى الأرض، وجعلهم يحصدون محصولها.
بينما من ادعى أنه يريد تعليمهم التعامل مع الطيران
الإسرائيلي يضحك وهوجالس بالقرب منهم، طبعاً الرقابة وقفت عند هذا المشهد
واعترضت عليه معتبرة أنه استغباء للفلاحين.
وأعتقد أن تعرية شخصيات الفيلم بمنتهى (الحنية والحب
والاحترام)، هى السبب وراء نجاحه.
وأضاف (عبد اللطيف عبد الحميد): كاد فيلم (ليالي ابن أوي)
ألا يعرض، لولا تدخل وزيرة الثقافة حينها، السيدة (نجاح العطار)، ولم يعرض
الفيلم إلا بعد أن شاهده الرئيس الراحل (حافظ الأسد) وبعدها سمح بعرضه. |