لم يكن قد مر عام واحد على بداية عقد الثمانينيات، حتى كان
اللقاء قد تحقق بين قلم الكاتب أسامة
أنور عكاشة،
ووجه صلاح السعدني المنحوت من سمرة الريف، وخبرته التي كانت قد تجاوزت
العشرين عاماً وقتها، منذ أن بدأ مشواره المبكر مع فن التشخيص في بداية
الستينيات.
في عام 1981، يلتقي عكاشة في باكورة مشروعه الاجتماعي
لقراءة تحولات الشخصية المصرية، من خلال مسلسل "أبواب المدينة"، مع السعدني
صاحب الرصيد المتنامي والقوي في الدراما التليفزيونية المصرية، والتي كانت
على وشك أن تعيش أوج عصور تألقها، بعد عقدين فقط من انطلاق التليفزيون
العربي.
بعد 3 عقود من الصعود والهبوط السياسي، وما تبعه من تغيرات
جذرية في طبيعة واحد من أقدم المجتمعات في العالم، تحول عكاشة، الذي كان
مهموماً خلال تجاربه في السبعينيات، بشحنات من الأسئلة الوجودية ذات
التوهجات الفلسفية متفاوتة المستوى، تحول إلى طرح همه الأكبر والأساسي خلال
مشروعه الأصيل والأكثر وضوحاً في مشواره الزخم.
وبدأ مع "أبواب المدينة" في الغوص داخل تفاصيل المجتمع
المصري، في محاولة لفك شفرة التحولات، والعثور على صيغة لعودة هذا المجتمع
عفياً في تحضره، نقياً في صفاته المتفردة، التي جعلت من مصر على حد تعبير
المفكر جمال حمدان، معدة ضخمة قادرة على هضم روافد الفكر والثقافة
الإنسانية وخلاصة الحضارات المجاورة والبعيدة، ثم إعادة إنتاجها في صورة
نسيج شعبي متجانس ومنسجم وقابل للتعايش والتطور، طالما كان له الخيرة من
أمره، وهو التشبيه الذي سوف يأتي على لسان الأستاذ وفائي المثقف المستنير
في مسلسل "أرابيسك".
ائتلاف الهوى
5
مسلسلات "أبواب المدينة" بجزئيه، ثم "وقال البحر" ومن بعده "ليالي الحلمية"
بأسفاره الخمسة، يتخللهم "النوة" و"أرابيسك"، وفيلم واحد "تحت الصفر"، هي
محصلة "ائتلاف الهوى" بين المشخصاتي المخضرم في عقد توهجه الكامل، وبين
الكاتب صاحب الفكر والصنعة والأسلوبية المتفردة، والقدرة على رسم ملامح
شخصيات لا تنسى، لأنها ذاكرة في حد ذاتها.
في بداية الثمانينيات كان السعدني قد وضع كلا قدميه
الاثنتين (الموهبة والخبرة)، على سلم صاعد في مجال التمثيل، سواء في
السينما أو التليفزيون، صحيح أن نصيبه من النجاحات أو الاختيارات
السينمائية لم يكن على نفس درجة التألق والفوران والتنوع التليفزيوني، إلا
أن هذا لم يمنع تواجده خلال سنوات الثمانينيات في أكثر من تجربة ذات ألق
جاذب، ويكفي أن نشير مثلاً إلى فيلم "ملف في الآداب" مع عاطف الطيب ووحيد
حامد، في دور ضابط الشرطة المريض بالسلطة، الذي يهيئ له شيطان المكانة
الشرطية أن في مقدورة أن يتحكم في مصائر الآخرين، ويصيغ منها مصعداً إلى
الترقية.
لكن ذروة نشاطه المفعم بالتنوع ومراكمة الخبرات وتأصيل
الموهبة، تعدى حد الاعترافات بمدى صلابتها في مواجهة أي شخصية يقدمها، وجاء
من خلال العدد الكبير من المسلسلات التليفزيونية التي قدمها، والتي توجت
عام 1987، في مسلسل "ليالي الحلمية"، باللقب الذي سوف يٌمنح له ويستمر معه
حتى النهاية، وهو (العمدة)، ونعني به أيضاً الأيقونة الخالدة "سليمان غانم"
عمدة ميت الغانم، وصاحب واحدة من أروع علاقات العداء في تاريخ الدراما
التليفزيونية، مع غريمه اللدود "سليم باشا البدري".
لماذا العمدة؟
على الرغم من العدد الكبير من المسلسلات والشخصيات، التي
قدمها السعدني خلال سنوات الثمانينيات، وتنوعها إلى درجة لا يسهل استيعاب
قدرة هذا الممثل الكبير أن يغير من جلده الأدائي بينها بهذه الصورة الفذة،
(الطالب الريفي القادم للمدينة – الشيخ الأزهري- الكاتب المحبط- عامل
الفندق الشهم- ابن العز الفاسد)، ومن خلال أعمال حملت توقيع كبار الكتاب
والمخرجين في تلك الفترة، ومنهم على سبيل المثال حسن الإمام في تجربته
التليفزيونية "قافلة الزمان"، عن رواية عبد الحميد جودة السحار، ناهينا عن
نجيب محفوظ وروايته "عصر الحب" في تلفزتها الرائعة، ومحفوظ عبد الرحمن في
"الفرسان يغمدون سيوفهم"، ووحيد حامد في رائعتين هما "سفر
الأحلام"و"الجوارح"، إلا أن اللقب لم يأت إلى السعدني ويدمغه بكل ما هو
مستحق وكامل، إلا عبر شخصية "سليمان غانم"، التي شاهدها الجمهور العربي
لأول مرة عام 87 في الجزء الأول من الملحمة الاجتماعية الفذة "ليالي
الحلمية".
جدير بالذكر أن شخصية "سليمان غانم" كان من المفترض أن تذهب
إلى الممثل الكوميدي الكبير سعيد صالح، ولكنه اعتذر بحكم انشغاله في العروض
المسرحية اليومية، وعدم قدرته على أن يوازن ما بين ليالي المسرح ومواعيد
تصوير المسلسلات، وهو ما قاد الثنائي (عكاشة وإسماعيل عبد الحافظ)
للاستعانة بالسعدني، وقد صار نجماً تلفزيونياً مرموقاً في النصف الثاني من
الثمانينيات.
وليس من الغريب أن تصبح شخصية سليمان غانم، كما أداها
السعدني، صاحبة الفضل في دمغه بلقب العمدة، رغم كل الشخصيات التي قدمها
خلال هذه الحقبة أو حتى ما بعدها، تحديداً حتى يمنح الإضافة الشعبية
الخارقة على لقب العمدة، في ثاني أهم تعاون له مع عكاشة "أرابيسك: أيام حسن
النعماني"
استطاع السعدني أن يتشرب سليمان غانم إلى ما بعد الثمالة،
أدرك بعمق شديد أزمة الشخصية، ودرس تكوينها النفسي والاجتماعي بمهارة، ووضع
يده على عقدة النقص الرهيبة، التي يعانيها عمدة ميت الغانم، جراء تفوق
غريمه ابن البدري في جولات كثيرة، بعضها بدأ قبل أن يولد كلاهما، أي من وقت
بداية الصراع بين والدي سليم وسليمان (مع ملاحظة الجناس غير المتطابق بين
اسميهما)، ثم تراكم الهزائم التي كثيراً ما دفعت العمدة إلى إطلاق صيحته
التي اشتهر بها (جاااي)، والتي كانت أشبه بزئير أسد مهزوم، لا يملك رفاهية
الانسحاب ولا إرادة الاستسلام.
أخذ السعدني شخصية (أبو زُهرة)، كما كانت تتندر زوجته وصيفة
عليه في لحظات استفزازه العديدة، إلى منطقة أكثر عمقاً بكثير من التي كان
من الممكن أن يقودها إليها سعيد صالح، بأسلوبه البارد المنغمس في الانفعال
المكبوت، وضحكته الساخرة من كل شيء، سليمان غانم شخصية انفعالية شكلاً
موضوعاً بلا جدال، لغته الجسدية مفعمة بالغضب والسخونة الدائمة نظراً لما
يشتعل في داخله من فحم الثأر، وفي نفس الوقت هو فلاح ماكر، صبور، قلبه
يحتوي على خضرة لم تتمكن أدخنة المدينة من طمس خصوبتها، وهو شهواني عاطفي
كنتيجة طبيعية لكونه انفعالي، وصاحب سطوة يمنحها له المنصب الرسمي كعمدة،
ثم رتبة الباشوية وعضوية البرلمان، وأخيراً دخوله مجال المقاولات كرجل
أعمال كبير وثري متخم بالمال.
هذه شخصية مترعة بالصفات الجذابة، سواء كخصم أو كبطل درامي
في حرب شعواء، داخل إطار الإثارة الاجتماعية التي احترفها عكاشة، وهو صاحب
إفيهات نابضة بالحياة، على رأسها جوهرته الاستدراكية (قوم إيه)، والتي وسمت
الشخصية بخطوط كاريكاتورية لامعة، دون أن تهبط لابتذال التكرار أو يصيب
المشاهد منها سأم النمطية.
وهو في لغته الفلاحية بألفاظ مثل "ابن البدري" و"نزاكه" دلع
طليقته نازل السلحدار الأثير، وذروة انتصاراته القليلة على سليم، وارتباطه
التراثي بغفيريه بهروز والمليجي، كما في الحكايات الشعبية عن الحاكم
وتابعيه، وسبه الطريف أو تسبيخه (أي القاء السباخ والروث) على رأس وهدان
صفيه الدرامي، بالإضافة إلى طول الفترة الزمنية التي دخل فيها إلى بيوت
الملايين (1987-1995) كواحد من أطول مسلسلات الأجزاء في الدراما المصرية،
كل هذه العناصر مجتمعة كما احتواها أداء السعدني ومحافظته على النمو العمري
للشخصية، والكبر دون أن يمسها تفاوت في مستوى التشخيص أو التقمص، جعلت من
الضروري أن يصبح اللقب قريناً باسمه ومكانته، حتى ولو لم يذكر، ويكفي أن
يقلد أحدهم ضحكته الأيقونية الطريفة حتى يدرك الجميع أنه يقصد (العمدة).
أبو كيفه
هل كانت مفارقة قدرية، أو جزء من دراما المشوار المتقاطع،
في الحياة وليس على الشاشات، أن يكون ثاني أهم دور للسعدني، في ثاني أهم
تعاون بينه وبين عكاشة، يأتي من خلال اعتذر آخر أو لنقل اعتذارين بعد أن
تقدمت السنوات قليلاً.
نحن في بداية التسعينيات، حيث يعتذر عادل إمام عن تقديم
شخصية حسن النعماني، فنان الأرابيسك، والذي يمثل جزء من سؤال (المعدة
الضخمة)، التي أشرنا إليها في البداية، ضمن مشروع أسامة أنور عكاشة، في رصد
التحولات وقراءة الشخصية المصرية، ثم يعتذر محمود عبد العزيز نظراً لأنه
سبق وقبل بشخصية "رأفت الهجان" التي اعتذر عنها إمام، وذلك حتى لا يقال إن
عبد العزيز يقبل بالأدوار التي يعتذر عنها إمام، ليذهب الدور أخيراً إلى
العمدة، صاحب الرسوخ التليفزيوني والرصيد الباذخ، والشعبية الهائلة خلال
سنوات عرض "الحلمية".
من الضروري هنا أن نشير إلى حجم الاختلاف الفاصل بين شخصيتي
"العمدة" و"حسن أرابيسك"، والتي كان من الممكن أن يكون سبباً في أن يظل
السعدني محتفظاً فقط بلقب العمدة، دون أن يضيف عليه الجمهور اسم حسن
النعماني بمختلف تجلياته (أبو كيفه- النعماني- ارابيسك)، ولا يمكن حتى
لأجيال التلفزة التي نشأت أمام شاشات القنوات المصرية، خلال عقدي
الثمانينات والتسعينيات، وحتى الأجيال الجديدة التي وصلها طرف من خبر
الأعمال الذهبية، أن يٌذكر أمامها اسم أرابيسك أو النعماني دون أن تحدث
إحالة مباشرة إلى صلاح السعدني، فكيف استطاع، رغم التباين الهائل بين
الشخصيتين، أن يجمع اللقبين بانسجام شعبوي جميل.
أرابيسك عصبي لكنه حشاش، يدمن الجلسة الزرقاء منذ عاد من
الحرب في منتصف السبعينيات، وطحنته التحولات الرديئة في مجتمع الانفتاح
الاقتصادي العشوائي، الذي أفقد الكل بوصلته.
مرتبك وغير حازم وفاشل عاطفياً، ظلم موهبته وأضاع إرثه
(كرسي السلطان الذي صنعه جده النعماني الكبير)، وترك حبل أسرته على غارب
التقلبات المادية، لم يكن لديه هدف مثل العمدة ولا ثأر قديم، ولا خصم حقيقي
سوى نفسه، التي كان عليه أن يروضها لكي يستعيد توازنه، وبالتالي يسترد
مكانته كرمّانة ميزان ثمينة وسط مجتمع (خان دويدار)، النموذج المختصر
والمكثف لواحدة من بؤر المجتمع المصري في فترة حساسة من تاريخه الحديث.
حسن صاحب لغة جسد خاملة، ثقيلة بحكم كونه يحشش طوال الوقت،
صحيح أنه جندي سابق وصاحب قبضة قوية، لكنه يختلف في العمدة الانفعالي الذي
يترجم غضبه لحركة مستمرة، والنعماني قاهري أباً عن جد، نموذج ابن المدينة
كما يمكن أن يكون، وليس قادماً من جهة الريف الفلاحي بجيناته المميزة.
صحيح أن كلاهما "العمدة" و"أرابيسك" يجتمعان على خفة الدم
ورقة القلب، والجدعنة والشهامة والشهوانية والميل العاطفي المشبوب بالهوس،
لكن شتّان بين أصولهما وأهدافهما وحتى هيئاتهما، العمدة بشاربه الكلاسيكي
وعباءته وطربوشه وعصاه، و"أرابيسك" بفوضويته وشاربه الخفيف وشعر رأسه
الهائش، الذي يعطيه صورة فنان بوهيمي (على كيفه).
المبهر في السعدني أنه انتقل من "العمدة" إلى "أرابيسك"،
وعاد إلى "العمدة" مرة أخرى – في اخر تعاون مع عكاشة عام 95 بنهاية الجزء
الخامس من "الحلمية"- بسلاسة كبيرة ودون أن تطمس أي شخصية منهما الأخرى، لا
في مستوى الأداء، ولا في حجم الاحتفاء الجماهيري بكليهما، فلم يرفض الجمهور
عودة السعدني إلى دور "العمدة" بعد أن عشقه في "أرابيسك" ودمغه باللقب، بل
كان سليمان غانم فاكهة الجزء الخامس، وعنصر جذب شديد القوة والأهمية، خاصة
مع تقدم أعمار الشخصيات الأساسية وغياب خصمه المثير سليم البدري.
هاتان شخصيتان لن تسقطا بالتقادم، لأنهما صارا ذاكرة في حد
ذاتها، وبالتالي لن تنتقل ألقاب "العمدة" و"أرابيسك" إلى أي ممثل آخر بعد
رحيل صلاح السعدني، وهي التي سوف تحمل ذكراه حية ككل اصحاب مهنة التشخيص
العظام، الذين كلما مر الزمن على عصيرهم الإبداعي تعتق وفاح بالفن والجمال.
*
ناقد فني |