وائل السمري يكتب.. في وداع صلاح السعدني أيقونة السؤال
وجوهر المعنى .. في كل أدواره كان يبحث عن شيء مفتقد في ليالي الحلمية يبحث
عن "الجدارة" وفي "أرابيسك" يبحث عن الأصالة وفي حلم الجنوبي يبحث عن الوطن
وينفلت من بين إدينا زمان ...كإنه سَحبة قوس في أوتار كمان
و تنفرط الايام عود كهرمان... يتفرفط النور و الحنان و
الأمان
لم يمت صلاح السعدني لكنه انفلت.
مثل نغمة ساحرة تسمعها مصادفة وأنت ساهر بالليل ولا تعرف من
أين أتت.
مثل عطر غامض يغمر أنفك مباغتة فيجن جنونك، غير مدرك سبب
الجنون، أهي فتنة العطر أم وجع الغياب؟
انفلت صلاح السعدني مثلما انفلت الزمان في تتر مسلسله
الأشهر وشخصيته الأحب "أرابيسك" انفلت كأنه سحبة قوس في أوتار كمان، فغاب
عن الأنظار سنينا، ثم أوجعنا بالرحيل المؤلم البتار.
انفلت وتسرتسب من بين إدينا مثلما تسرسبت السنين في تتر
مسلسله الأروع "ليالي الحلمية" وانتهت ونحن لم نتجرأ على البدء.
الشر شرق و غرب داخل في حوشنا...حوشوه لا ريح شاردة تقشقش
عشوشنا
حوشوا شرارة تطيش تشقق عروشنا...و تغشنا المرايات تشوش
وشوشنا
سرى السعدني في قلوبنا ووقع بالحضور الأبي، وانفلت غير
مأسوف علينا، سرى وتسرسب، في الحلم في الأمل في الخيبة واليأس، سرى وتسرسب،
ثم قضى وعن ديارنا مضى.
"لا
فيه إيده سيف ولا تحت منه فرس" كما يقول صلاح جاهين، لكنه كان بطلنا الأحب،
ونجمنا الأعذب، لم يمتلك تلك الوسامة الأنثوية ليكون نجما للشباك تذاكر
السينما، ولم يصعد إلى النجومية بسرعة الصاروخ، لكنه ألقى في قلوبنا الفن،
بغضبه اليائس، وضحكته المجلجلة، وزهقه من الأيام التافهة والبوصلات
التائهة، والقلوب الخربة.
وكأني أسمعه وهو يقول "يوووه يا عمارة" ساخرا من "أبو بكر
عزت" في مسلسل أرابيسك، فأضحك من غباء المحيطين وعناد القدر، وكأني أسمه
وهو يقول : المهم نعرف أحنا مين وعايزين إيه..فأتيقن من حيرتنا وبوصلتنا
التي لم تغب عنا ولم تدل على مقصدنا.
نحن تائهون في زمن تائه، وكان صلاح السعدني أيقونة التائهين.
في أغلب الأدواء التي أداها كان صلاح السعدني يبحث عن شيء
ما.
في ليالي الحلمية يبحث عن ثأره من ابن البشوات، وفي حسن
أرابيسك يبحث عن الأصالة في زمن الزيف، وفي حلم الجنوبي يبحث عن الأثر
ليعرف الطريق، وفي الغول يبحث عن العدالة في زمن قانون ساكسونيا.
يوووه يا عم صلاح..
الغش طرطش رش ع الوش بوية .. ما درتش مين بلياتشو أو مين
رزين
شاب الزمان و شقيت .. مش شكل أبويا... شاهت وشوشنا تهنا بين
شين و زين
للأسف.. كثيرون لا يعرفون مسلسل أرابيسك، وكثيرون لا يعرفون
حسن النعماني، ونتيجة لهذا وذاك لا يعرفون كيف أثر هذا العمل الفني العظيم
في قلبونا وعقولنا وكيف صاغ مشاعرنا وأهمنا بحب الوطن وشخصياته المركبة.
بالنسبة لي فحسن أرابيسك كان الوجه الحقيقى لإنسان مصر، هذا
الإنسان الفاضل الكريم دون تزيّد، والعاشق المهزوم دون إذلال، والكبير دون
مكابرة، والمعطاء دون حساب، يرضى بالفقر ولا يرضى بالهوان، ويقبل السجن ولا
يقبل الكذب، يشغله سؤال الهوية «إحنا مين؟»، وحينما لا يجد إجابة يفضل أن
يصمت على أن يزيف وجهة نظره، وحينما يوضع فى مفترق طرق ينحاز بتلقائية
وشجاعة نادرتين إلى أصله العربى «الأرابيسك» لأنه يعرفه.
في الملسل تتجلى عقدة الحبكة الدرامية حينما يتفق حسن مع
الدكتور برهان على أن يتولى بناء فيلا «تحفة» تجمع تاريخ مصر الطويل، فسخر
«أرابيسك» من هذا الاتفاق بينه وبين نفسه، وترك الفيلا التى يعرف أن أساسها
متهاو لتسقط فى الزلزال، ولما حبسته السلطة بتهمة هدم بناء دون ترخيص، دافع
عن نفسه بخطبة عصماء ألقاها فى السجن أمام المساجين، وكأنه يخاطب مصر كلها
التى أصبحت بفعل فاعل داخل الزنزانة، لتتحول القصة كلها إلى رمز لحال مصر،
بعد أن أتعبها المخربون وضاق أبناؤها الأوفياء بالزيف والمغالطة.
ويرفرف العمر الجميل الحنون ..ويفر و يفرفر فرفة قانون
وندور نلف ما بين حقيقة وظنون.. وبين قسى هفهاف.. وهفة جنون
يقول حسن أرابيسك أمام المساجين الذين يعتبرهم قاضيه
الحقيقى «سواء كان أنا.. أو الزلزال.. أو التوابع.. فاللى حصل ده كان لازم
يحصل، لأنه الترقيع مينفعش، السلطة متنفعش، البزرميط مينفعش، وبعدين الفن
مهوواش طبيخ، الدكتور برهان جه وقال عايزين نعمل تحفة، ترمز لتاريخ مصر
كله، بس تاريخ مصر كبير أوى وطويل، فرعونى على قبطى على رومانى على يونانى
على عربى، ومن ناحية تانية بتبص ع البحر، لكن الذوق غير الذوق، الطعم غير
الطعم واللون غير اللون، ومفيش حاجة جت وعجنت ده كله فى بعضه وطلعت فن مصرى
نقدر نقول عليه الفن المصراوى اللى بجد، يبقى نعمل اللى إحنا عارفينه، وأنا
لعبيتى إيه «الأرابيسك» يبقى نتكل على الله ويلا، واحد تانى يقول مصرى مصر
دى طول عمرها ع البحر وزى ما الأوربيون عملوا إحنا نعمل، الجريك
والفرنساويين واليونان أخدوا مننا وهضموا واتطوروا، نعمل زيهم ونطلع لقدام،
ماشى مبقولش لأ مادام فاهم وبيحب مصر، والحمد لله إن الفيلا وقعت علشان
نرجع ونبتدى مع مصر من أول وجديد على ميه بيضا، لكن المهم نعرف إحنا مين
وأصلنا إيه، وساعة ما نعرف إحنا مين هنعرف إحنا عايزين إيه، وساعتها نتكل
على الله».
دنياك سكك حافظ على مسلكك ... وامسك فنفسك لا العلل تمسكك
وتقع فخيه تملكك تهلكك..اهلك يا تهلك ..دنتا بالناس تكون
سألنى صديق: منذ متى وأنت تحب تراث مصر هكذا؟ فقلت: منذ ذلك
اليوم الذى بكيت فيه بحرقة حينما سرق «كرسى النعمانى» من حسن أرابيسك
هذا أثر "صلاح السعدني" في حياتي، وإن بحثت سنجد لكل واحد
من أبناء جيلي أثرا مثله، فقد جعلني «صلاح السعدنى» مؤمنا تماما أن عبقرية
هذا البلد تتخفى حينا وتغيب حينا وتتوه حينا، لكنها تعلن عن نفسها بكل
نصاعة فى الوقت غير المتوقع وأورثنى حسن أرابيسك عشقا مزمنا لهذه الأرض بما
تحوى من جمال وبما يحيط بها من آلام وآمال.
بالنسبة لى صار ت شخصية ابن البلد متجسدة فيه، هو ابن
البلد، بالألف واللام، شهامته، جدعنته، شجاعته، تصعلكه، أحلامه، خفة دمه،
تهوره أحيانا، وتعقله أحيانا، ميله للصدق حتى ولو على حساب راحته أو حريته،
استهزاؤه بالصعاب والمصائب، سخريته من التدنى والتكالب، حتى مشيته العابثة
المترنحة، صورته وهو يمشى آخر الليل صارت بالنسبة لى معادلة أيقونية له،
يخطو فى الشوارع وكأنه ملكها، يضرب أحجار التعثر فى الأرض وكأنه يؤدبها
يربت على البيوت القديمة الدافئة بنظرة من عينه الحانية، يشق الهواء بصدره
المفتوح كفارس لا يتهيب من غبار المعارك، يبتسم حتى تكاد تسمع صوت
ابتسامته، ثم يتجهم فتكاد تسمع أصوات قبيلة من نحيب، أصله الشارع أو قل هو
أصل الشارع.
ان درت ضهرك للزمن يتركك .. لكن سنابك مهرته تفركك
وإن درت وشك للحياة تسبكك.. والخير يجيك بالكوم وهمك يهون
كان صلاح السعدني مثل حسن أرابيسك تماما، "واد عترة" ولقب
عترة هذا كان يقال قديما على أولاد الأصول، واشتقاقها جاء من حالة الافتتان
بعترة الرسول من آل البيت، في أحد لقاءاته التليفزيونية يقول صلاح السعدني
لقد أسست نظرية أطلق عليها اسم نظرية "الشبيه" نحن لدينا مؤسسات شبيهة
بالمؤسسات، ولدينا مناصب شبيهة بالمناصب، فإن اتخذت كرة القدم مثالا سترى
كل شيء لدينا شبيها بكل شيء في الخارج، لكنك ستجد في الخارج "كرة قدم" لكن
لدينا شيئا شبيها بها، ولا أعرف متى نتحول من خانة الشبيه إلى خانة الحقيقي"
رأيت هذا اللقاء مؤخرا فلم أعرف بأي لسان يتحدث صلاح
السعدني؟ هل يتحدث بلسانه هو أم بلسان "حسن أرابيسك"؟ ثم أيقنت أن الاثنين
سواء، وقد بقي صلاح السعدني في قلوبنا أيقونة للسؤال، أيقونة للبحث عن كل
جميل والهرب من كل قبيح، يسير فى الأزمان كما هو سائر فى الشوارع، غير عابئ
بشىء، غير مكترث بشىء، غير متأثر بشىء، وهو المؤثر لا المتأثر، هو هو،
الباقى على حاله وإن تغير كل شىء، ثابت لا يتحول، صامد لا يلين، تحبه وإن
عجزت عن الاقتداء به.
أراك وقد تعبت من البحث والسؤال يا عم صلاح، فذهبت إلى عالم
الأجوبة، لكنك أسئلتك وحيرتك وبحثك الدائم خلدت في قلوبنا بأعمال خالدة
امتد أثرها في الزمان والمكان وشكلت أجيالا مثلك، تحب عن كرسي النعماني
الكبير، وتحاول أن تصنع عالما حقيقيا، وليس شبيها. |