"رفعت
عيني للسما"... رقصة المأساة في شوارع الأمل
فوزه بجائزة مهرجان "كان" يكتب فصلاً جديداً في تعاطي
السينما المصرية مع فتيات الصعيد بعيداً من دوائر البؤس والكبت والتنميط
حميدة أبو هميلة
ملخص
بطلات الجنوب في الأفلام الروائية يعشن كبتاً وظلماً
ومغلوبات على أمرهن على عكس شخصياتهن القوية المثابرة في السينما التسجيلية
الأكثر واقعية... هذه قراءة في مدى إنصاف هؤلاء النساء على الشاشة.
دائماً ما تتهم السينما
المصرية بتنميط
بعض الشخصيات ودور الرجل الصعيدي على رأس القائمة، فبالتوازي مع السخرية من
تقديم اللهجة بصورة غير دقيقة، بل ومضحكة في بعض الأوقات، كان يعاب على كثر
من صناع السينما تقديم البطل الجنوبي
بصورة نمطية، بل وكاريكاتيرية، فهو إما ساذج مثل إسماعيل ياسين في "العتبة
الخضرا"، وإما خارج عن القانون ويعيش
في الجبل مع المطاريد، كما حدث في فيلم "الوحش"، وإما مزعج كمحمد سعد في
"كتكوت"، أو هزلي مثل محمد رمضان بفيلم "في واحد صعيدي".
والحقيقة أن نساء الجنوب أيضاً داخل هذه الدائرة، إذ يظهرن
على شاشة السينما في غالب التجارب على غير حقيقتهن، فهن عادة مقهورات
وحزينات وبائسات تماماً، حتى لو كان هناك شيء من الواقع في حكاياتهن، فإنه
نادراً ما حاولت السينما إبراز أنماط مثابرة وطموحة ومضيئة.
لكن البعض تمرد على الصورة المتكررة لرجال الصعيد بتقديم
أفلام في غاية الواقعية والتميز الفني مثل "الهرب" لأحمد زكي، فعلى رغم
تراجيديته تجاوز فكرة الصعيدي الساذج أو المبالغ في استعراض قسوته، وإن ظلت
النساء الصعيديات بطلات الحكايات الأشد سواداً، بملامح خائفة وعابسة وقلقة
على مدى عصور طويلة من عمر السينما الروائية، ولم تفلت من تلك النوعية
السائدة سوى نماذج قليلة، من بينها "شقة مصر الجديدة" (2007) للمخرج محمد
خان، لكن على ما يبدو فإن للسينما التسجيلية رأياً آخر، ففيلم "رفعت عيني
للسما" المتوج بجائزة "العين الذهبية" لأفضل فيلم وثائقي مناصفة مع الفيلم
الفرنسي "إرنست كول" ضمن المسابقة الرسمية لأسبوع النقاد في الدورة الـ77
لمهرجان "كان" السينمائي كأول فيلم مصري يصل إلى هذا المستوى التكريمي،
يسرد قصة مغايرة تماماً وشديدة الواقعية وحالمة وطموحة في الوقت نفسه.
قصة الفيلم تدول عن التحديات والأزمات التي تحاصر فتيات
المنيا في صعيد مصر، لكنه أيضاً يكشف ببساطة كيف يحققن ما اعتبرنه
مستحيلاً، وهو على رغم بساطته في مجتمعات أخرى فإنه يبدو كبيراً جداً في
مجتمع يتمسك بتقاليد تعد مجرد تفكير النساء في احتراف ألوان الفنون شيئاً
من الجنون، بل إنه العيب بحد ذاته، وهو أمر معروف، لكن الذي لم يكن يتم
التطرق إليه هو كيفية مقاومة النساء لهذا التفكير، بل وتجاوزه والقفز عليه.
أحلام في الشارع
"رفعت عيني للسما" يجسد رحلة سبع فتيات تحت الـ20 في قرية
البرشا بمركز ملوي بمحافظة المنيا نحو تحقيق طموحاتهن في التمثيل
والاستعراض والحكي على الملأ في عقر دار العادات الراسخة المتعلقة برفض
امتهان النساء للفن. لم يبتعدن مثلما تفعل أخريات هرباً من نزاع هن في غنى
عنه. ومثلما انتزع الفيلم التصفيق، ثم التتويج، إلا أنه جعل المهتمين
يسألون مجدداً: أين نساء الصعيد من التجسيد الفني السينمائي؟ ولماذا لا
يتذكر الجمهور سوى قصصهن الأكثر حزناً وقهراً في حين أنهن وبشهادة السينما
المسجلة يعرفن كيف يحققن ما يردن بطريقتهن الخاصة، بل ويفاجئن العالم
بالظهور على منصات المهرجانات العريقة بإمكانات بسيطة.
إحدى بطلات العمل هي هايدي سامح ابنة الممثلة دميانة نصار،
التي سبق وشارك فيلمها "ريش" للمخرج عمر الزهيري في الدورة الـ74 للمهرجان،
إذ حصل على جائزة أسبوع النقاد، ودارت أحداثه في إطار فانتازي، ولكنه لم
يبتعد عن تناول الواقع المرير لأسرة فقيرة، بينما يأتي "رفعت عيني للسما"،
المدعوم من صندوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي، ليقدم سردية واقعية، إذ
إن القرية بكل تفاصيلها هي مسرح الأحداث بين عضوات فريق "بانوراما برشا"
اللائي يحاولن مجابهة القيود المتوارثة عبر أجيال، وقد وجدن أنفسهن أسيرات
لها.
وعلى رغم أن فتيات الصعيد منذ عقود أثبتن جدارتهن العلمية
وحققن إنجازات رفيعة، فإن الفن يظل بالنسبة إلى الغالبية أمر غير مرحب به،
بالتالي فالفرقة الفنية التي قدمت عروضها في الشارع منذ عام 2014 عانت
كثيراً للاستمرار، إذ استقبلت بالاستهجان الذي وصل إلى حد الإهانة، بخاصة
أن أفكار العروض التفاعلية كانت حول مشكلات حياتية ملموسة، مثل العنف
والتحريض والزواج المبكر، والتقط مخرجا الفيلم ندى رياض وأيمن الأمير هذه
التجربة، وفطنا إلى أن هناك شيئاً غير اعتيادي يحدث، ليعشا مدة أربع سنوات
مع أحلام الفتيات، وقاما خلالها بالتحضير والتصوير للعمل.
صوت نساء الصعيد
هذا الأمل الذي تجسد في تجربة واقعية بلا تعقيدات تم تأطيره
من خلال عمل سينمائي تسجيلي، لكن البداية كانت لدى الفتيات الطموحات غير
الخانعات أو المستكينات للتنمر والسخرية ومحاولات التثبيط، وهو يقدم صورة
لا تقبل الشك حول نماذج موجودة لفتيات ونساء صعيد مصر اللاتي طالما كن
حبيسات رؤية مختلفة تماماً في الأفلام الاعتيادية، فحتى لو كن بطلات أفلام
متميزة فنياً فإن الانطباع المتروك دائماً عن فتيات الجنوب مليء بالمآسي.
يجد الناقد الفني طارق الشناوي هذا الفيلم خطوة مهمة في
إيصال الصوت الحقيقي لنساء الصعيد بعيداً من النمطية، مثنياً في البداية
على اسمه "رفعت عيني للسما"، وهي ترنيمة تدعو للاستجارة بالله. ووصفه بأنه
عمل فني حميم، فـ"هناك غالبية قبطية في القرية، وثمة تعايش بالطبع بينهم
وبين المسلمين، وشاهدنا خلال العمل الطقوس القبطية المعبرة عن الزواج
والأعياد، وهذا الجانب الاجتماعي يظهر عادة في الأعمال الدرامية من خلال
الشكل الإسلامي فحسب، والفيلم بالطبع به روح مصرية خالصة، ويستعرض معارك
الفرقة مع الحرية في ما يتعلق بحق المرأة في اختيار شريك حياتها ونوعية
تعليمها ورفض الزواج في سن صغيرة، وهو مقدم بصورة غنائية فولكلورية عصرية،
وعلى رغم رفض المجتمع لهم في البداية وتعرضهم لإساءات، فإنه في ما بعد
وجدنا أن من قاومهن من الرجال شعروا بالفخر لما قدمن".
لسان حر ودراما مكبوتة
الفتيات اللاتي تمكن من إحداث هذا التغيير في مجتمعهن
الصغير نادراً ما نجد نماذجهن مستعرضة إعلامياً، ولكن فتيات الجنوب بصورة
عامة ظهرن بصورة أكثر إنصافاً، أو في الأقل أكثر تنوعاً مع التركيز على
طرقهن في مواجهة التعصب والعنف والترهيب في الدراما التلفزيونية أكثر منها
في السينما، ومن بين المسلسلات التي كانت منفتحة في هذا الاتجاه "ذئاب
الجبل"، و"الفرار من الحب"، و"الضوء الشارد"، و"الرحايا"، و"الليل وآخره"،
و"الخواجة عبدالقادر"، و"دهشة".
تقول نرمين حبيب المسؤولة عن تدريب وتصميم الحركة بالفيلم،
إنها بحكم عملها تذهب إلى غالبية محافظات مصر وتلتقي مئات النماذج
النسائية، ولكن فكرتها عن فتيات الصعيد كانت مستقاة أولاً من الأعمال
الفنية، مبدية دهشتها من عدم الانصاف الذي يتعرضن له حتى على مستوى القص
الدرامي.
وتابعت المخرجة والفنانة الاستعراضية، "الأعمال الفنية صدرت
لي صورة مغايرة تماماً ولا تمت للواقع الذي لمسته بصلة، ففتيات الصعيد
لسانهن حر، ولديهم وجهة نظر غير تقليدية وتتميز بالعمق، وأفكارهن متقدمة
على رغم طبيعة مجتمعهن الذي يحمل سلبيات كثيرة، ولكنهن قويات للغاية في
مواجهتها، لا سيما في هذا العصر، بل ويتمتعن بشخصيات أقوى من القاهريات
أنفسهن، وحتى على مستوى اللياقة البدنية فإن لديهن طاقة وقدرة على تحمل
المشقة فاجأتنا كفريق عمل محترف، إضافة إلى قدرتهن على التكيف والتعاون،
كما أنهن أنجزن مشروع مسرح الشارع الخاص بهن قبل أن نتعرف عليهن ونبدأ
مشروع الفيلم التسجيلي، وقد أنجزنه بفطرة شديدة، وما استخلصته من التجربة
عموماً أننا في الحقيقة لا نعرف شيئاً عن نساء الجنوب الذكيات اللاتي يحصلن
على حقوقهن بطرقهن الخاصة ".
من سبب التهميش؟
المؤكد أن استمرار تقديم الصورة نفسها مع بعض التعديلات
الطفيفة حتى اليوم، يأتي بسبب التهميش الذي يعانيه الصعيد عموماً من حيث
الظهور الإعلامي، وهو ما يتوافق مع رأي الباحثة هبة فتحي حسانين التي أشارت
في دراستها قبل عامين بكلية الإعلام جامعة القاهرة تحت عنوان "صورة المرأة
الصعيدية في الدراما السينمائية والتلفزيونية وعلاقتها بإدراك الواقع
الفعلي لها"، إلى ذلك بصورة واضحة حيث كان من بين مستخلصات الدراسة أن
"وسائل الإعلام في العاصمة أسهمت في تهميش صورة المرأة في الصعيد وعدم نقل
الواقع بصورة متكاملة لدى الرأي العام".
ربما تبدو قصص القهر جذابة درامياً، إذ يمكن أن تولد
مفارقات تخدم الحكاية وتجعلها أكثر إثارة، ولكن ما يقوله الواقع يشير إلى
أن صورة بنات الصعيد تغيرت، ولم يعد منطقياً أن يتم الاعتماد على سمات
مجتمعية عمرها عقود طويلة، وتقديمها على أنها لا تزال كما هي، والواضح أن
الفتيات السينمائيات يحاولن تعديل هذا القصور بإظهار حقيقة ما يجري في
الجنوب ووضع حد للصورة المغلوطة، ولعل هذا أيضاً ما حاول فيلم "سابع سما"
تقديمه، وهو عمل تسجيلي آخر حصل قبل خمسة أعوام على جائزة الطلبة في مهرجان
الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة.
والفيلم من إخراج كريستين حنا، ويجسد رحلة إقناع فتاتين
للأب والأم بالتخصص في السينما، وعلى رغم أن الأبوين لم يكونا مقتنعين
بأهمية دراسة الفنون ولا يفهمان معنى الخروج عن المسارات التقليدية في
الدراسة مثل الطب والهندسة والتجارة والتدريس، فإن هذا لم يمنعهما من
المناقشة، كما أن الفيلم أكد أن الفتيات حتى لو كن يعلمن بمدى صعوبة تحقيق
ما يفكرن به فإنهن لا يخشين من التشبث به، بالتالي هن محاربات على أكثر من
مستوى، ويجعلن آباءهن يشعرن بالفخر بعد أن يثبتن جرأتهن بعد أن كن يشعرون
بالفزع من مجرد طرح فكرة عمل بناتهن في السينما، وهو ما حاول الفيلم أن
يظهره بصورة واضحة.
وراثة القهر والكبت
في المقابل فإن الصورة الذهنية الثابتة المقدمة على مستوى
السينما الروائية أقل سطوعاً بكثير، على رغم أن كثيراً من تلك التجارب قيمة
على المستوى الفني، حتى إن بعضها كان واقعياً في عصره، ولكن على ما يبدو ظل
نموذجاً متكرراً من دون عناء النزول لأرض الواقع وملاحظة التغييرات، فإحدى
أبرز التجارب الرائدة هنا تمثلت في فيلم "دعاء الكروان" (1959) عن قصة طه
حسين وإخراج هنري بركات، ودارت أحداثه حول جرائم الشرف والانتقام. وعلى رغم
استقلالية أفكار البطلة آمنة التي جسدتها فاتن حمامة، حتى إنها قد تبدو
أكثر تقدمية من نماذج تالية قدمت سينمائياً، فإن الواقع الذي سرده العمل
كان شديد القتامة حول نساء ليس لهن رأي، ولم يحصلن على قسط من التعليم،
ومجبرات على تنفيذ رغبات الرجال والتعايش مع القهر.
في عام 1968 قدمت السينما المصرية فيلم "البوسطجي"، عن قصة
يحيى حقي وإخراج حسين كمال. وعلى رغم أن الأدوار النسائية لم تكن رئيسة فإن
ما تم استعراضه من حياتهن دار في دائرة العادات نفسها التي تقهر النساء
وتسلبهن الإرادة وحق الاختيار فتقع جرائم الشرف.
بعد جيل الرواد، جاء جيل الوسط ليقدم تجارب سينمائية شديدة
الثراء في ما يتعلق بالقصص التي تتناول مجتمع الجنوب، لكن ظل الهوس
بالمأسويات سائداً، ومن أبرز هذه الأعمال "الطوق والإسورة" عن رواية ليحيى
الطاهر عبدالله، وإخراج خيري بشارة 1986، إذ البؤس في أكثر معانيه سطوعاً
من خلال قصة ثلاثة أجيال من النساء يرثن القهر ولا يعرفن كيف يفلتن من
قبضته، ويتم التنكيل بهن إذا ما حدن عن الخط الذي رسمه المجتمع له. ويجسد
العمل التمييز الذي يمارس ضد الأنثى في المجتمع الصعيدي باعتبارها جالبة
للعار.
الفيلم شاركت في بطولته شريهان، التي كانت بطلة أساسية
أيضاً في تجربة المخرج رضوان الكاشف "عرق البلح" عام 1999، الذي استعرض فيه
مخرجه البارع بمهارة خيالاً سينمائياً مظلماً حول قرية يغيب رجالها وتبقى
النساء يعانين الحرمان العاطفي والجسدي، إذ يظهرن ملتحفات بزي يخفي ملامحهن
الأنثوية ليصبحن شبيهات بالرجال انتظاراً لعودتهم من رحلة جلب لقمة العيش.
بالطبع كانت تلك القصص مناسبة لعصرها وتليق بالمجتمع حينها،
إذ تميزت بواقعيتها على رغم شطحات الإبداع، لكن حتى حينما قدم حكاية صعيدية
معاصرة من خلال فيلم "الجزيرة" بجزأيه (2007 – 2014) كانت الأجواء أيضاً
غير طبيعية، إذ جاء الفيلم في سياق مختلف عن السرد الاجتماعي حول عالم
الجريمة ومطاردة البطل الخارج عن القانون، بالتالي كانت الشخصيات النسائية
تدور في الفلك نفسه.
وليس من المنطقي بالتأكيد أن تستمر تلك السردية التي ألبست
نساء الصعيد الأسود ووضعت الحزن على وجوههن على مدى عقود سينمائية طويلة.
من هنا يأتي اختلاف "رفعت عيني للسما"، بحسب ما يقول الناقد طارق الشناوي
"يسرد العمل واقعاً لا يحمل أي مجال للبس، وهو مليء بالتفاصيل الفنية
الجيدة المستوى"، لافتاً إلى أن المشاركات به يتمتعن بدرجة عالية من
التلقائية تتماشى مع إيقاع الفيلم المتصاعد، وموضحاً صعوبة الحفاظ على
الإيقاع في فيلم تسجيلي بلا نص درامي، بل هو عبارة عن مادة حياتية يتم
توليد عمل فني محكم منها. |