مخرجو إيران... أو السينما حين تقول لا
رحلة هروب روسولوف إلى "كان" تفتح ملف التعذيب الوحشي
للمبدعين خلف قضبان المرشد
نجلاء أبو النجا
ملخص
جعفر بناهي وكريمي ونوري أبرز المبدعين الإيرانيين الذين
تعرضوا للسجن والتعذيب بسبب آرائهم المناهضة للسلطة، والتصفيات الجسدية
تهددهم حتى بعد الهروب إلى الخارج.
تحظى السينما الإيرانية
بترحاب شديد في معظم المهرجانات والمحافل
العالمية والدولية على رغم الظروف السياسية المتدهورة التي يعانيها صناعها
والتي تصل إلى حد مصادرة آرائهم وأعمالهم والحكم على أي معارض أو صاحب رأي
غير مؤيد للسلطات بالكامل.
ولعل المخرج الإيراني محمد روسولوف، الحائز جائزة لجنة
التحكيم الخاصة في مهرجان "كان" السينمائي في دورته الـ 77 عن فيلمه "بذرة
التين المقدس"، ورحلة هروبه من إيران بعد
الحكم عليه بالسجن، بمثابة شرارة ألقت الضوء مجدداً على ملف المبدعين
الإيرانيين والعقوبات الجنائية التي طاولتهم بسبب أفلامهم وتوجهاتهم وزجت
بهم وراء جدران السجون.
روسولوف حكمت عليه إحدى المحاكم الإيرانية بالسجن بتهمة
تتعلق بالأمن الوطني، خصوصاً أنه معروف بمناهضته للاستبداد والقمع الداخلي
في البلاد، واستطاع الهرب في مايو (أيار) الجاري من بلاده للوصول إلى
أوروبا وحضور مهرجان "كان".
خلف الجدران
في الثامن من مايو الجاري، أعلن محامي المخرج السينمائي أن
محكمة الثورة حكمت على موكله بالسجن ثماني سنوات، وكذلك حكمت بعقوبات أخرى
شملت الجلد وغرامات مالية ومصادرة أموال، وقال المحامي إن سبب الحكم هو
توقيع روسولوف على بيانات وإنتاج أفلام ووثائقيات تعتبرها السلطة داعمة
للتآمر والتواطؤ لارتكاب جريمة ضد أمن البلد.
روسولوف شرح ما يتعرض له بقوله إن السلطات الأمنية مارست
أشكالاً شتى من الضغوط عليه طوال الأعوام السبعة الماضية وصادرت جواز سفره
مرات عدة وأبلغته بأنه لا يحق له أن يكون مالكاً لهذه الوثيقة، وتعرض كذلك
لضغوط ومضايقات أمنية وملاحقات قضائية، ونوه إلى أنه خرج من إيران بمساعدة
بعض أصدقائه وأقاربه، وهو ممتن لهم كثيراً إذ عرّضوا أنفسهم للخطر
والملاحقة ولا يزالون في مرمى النار حتى الآن جراء مساعدته.
بعد هروبه خارج إيران علق روسولوف في منشور له عبر صفحته
الرسمية بموقع "إنستغرام"، قائلاً "إذا كانت إيران الجغرافية تعاني وطأة
طغيانكم الديني، فإن إيران الثقافية حية في العقول المشتركة لملايين
الإيرانيين الذين أجبروا على مغادرتها بسبب وحشيتكم، ولا يمكن لأي قوة أن
تفرض إرادتها عليها ومن اليوم، أنا مقيم في إيران الثقافية".
وروسولوف معروف عنه أنه من أكبر المعارضين والمنتقدين
للسياسة الإيرانية الداخلية والخارجية، وشدد في كثير من المواقف على دعمه
للاحتجاجات ورفضه القاطع لقمع السلطات للمتظاهرين وطريقة التعامل مع كل
مظاهر الاحتجاج السلمي، وسجل تعاطفه مع ضحايا الأمن من القتلى والجرحى
والسجناء المعتقلين وما يشهدونه من تعذيب غير منطقي، كما أنه مناهض
للسياسات المتعنتة في حق السيدات والطالبات، ويطالب بمساواة المرأة
الإيرانية بغيرها في جميع أنحاء العالم.
وهناك أفلام عدة لروسولوف انتقدت نظام الحكم في إيران
واتهمته بالفساد، ومنها "أمل اللقاء" و"المخطوطات لا تحترق" و"لا وجود
للشيطان".
وفاز روسولوف بجائزة "الدب الذهبي" في مهرجان "برلين"
السينمائي عام 2020 عن فيلمه "لا وجود للشيطان" الذي ناقش قضية عقوبة
الإعدام في إيران والشخصيات المكلفة تنفيذها، مما أثار جدلاً كبيراً إذ
تُعدّ إيران من أكثر دول العالم تطبيقاً للعقوبة.
ولد روسولوف في شيراز عام 1972، وقام بإخراج وإنتاج عدد
كبير من الأفلام السينمائية المهمة، منها "الجزيرة الحديدية" 2005
و"الوداع" 2011 و"المخطوطات لا تحترق" 2013.
وحوكم أيضاً مع روسولوف في التوقيت نفسه المخرج الإيراني
مصطفى الأحمد بسبب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تتعلق بانهيار مبنى
من 10 طوابق في مدينة عبادان في مايو 2022 أودى بحياة أكثر من 40 شخصاً.
واتهم الاثنان بالتحريض على الاضطرابات وتعطيل الأمن النفسي
للمجتمع.
تعذيب وحشي
ويأتي المخرج المعارض محمد نوري في مقدمة الإيرانيين الذين
تعرضوا كثيراً للسجن بسبب نقد السلطة عن طريق الفن أو عبر الآراء المعلنة،
وحُكم عليه في أغسطس (آب) 2019 بالحبس لأكثر من 17 سنة لإدانته بإهانة
المرشد الأعلى علي خامنئي.
وعانى نوري التعذيب الوحشي في السجن، وحقنت أعضاء حساسة من
جسده بمواد مجهولة أدت إلى تدهور حاله الصحية في سجن "إيوين" في طهران،
وحرم كذلك من الرعاية الطبية ومُنع من تناول الأدوية الخاصة بمرضي السكري
والقلب اللذين يعانيهما بصورة مزمنة، ونظراً إلى حاله الصحية المتدهورة
تدخلت منظمة العفو الدولي وطالبت بإدخاله المستشفى، وقالت إن هناك وحشية من
السلطات الإيرانية في التعامل مع حياة السينمائي الإيراني.
وشددت المنظمة على أن عدم تجاوب السلطات دفع المخرج
السينمائي إلى إلحاق الأذى بنفسه لكي تُستجاب طلباته، فعمد إلى جرح وجهه
ورأسه وعنقه بواسطة شفرة، مما أدى إلى تعرضه لنزف شديد.
وأوقفت السلطات الإيرانية نجله علي نوري زاد الذي حكم عليه
بالحبس ثلاث سنوات ونصف السنة، بحسب منظمة العفو الدولية التي اعتبرت أن
الحكم الصادر بحقه محاولة لممارسة مزيد من الضغوط على والده محمد نوري زاد.
ويعدّ المخرج الإيراني الشهير جعفر بناهي من أهم المخرجين
الذين تعرضوا لعقوبات بسبب معارضته للنظام الحاكم، فحكم عليه بالسجن لمدة
ست سنوات عام 2010 بتهمة "الدعاية ضد النظام"، ومُنع من إخراج الأفلام أو
كتابتها في أعقاب تأييده حركة الاحتجاجات التي تلت إعادة انتخاب الرئيس
الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد في 2009.
واعتقل بناهي (62 سنة) في يوليو (تموز) 2023، عندما احتج
على توقيف اثنين من زملائه المخرجين بسبب انتقاد السلطات الإيرانية، وتعرض
لمعاملة قاسية في السجن، وأعلن في فبراير (شباط) الماضي بعد حبسه بأشهر
الإضراب عن الطعام والشراب، وصرح وقتها بأنه مثل كثير من الأشخاص المحاصرين
في إيران ليس لديهم خيار سوى الاحتجاج على هذا السلوك اللاإنساني بأكثر ما
يعتز به وهو حياته، فامتنع عن الطعام والشراب وتناول الأدوية على رغم حاله
الصحية المعتلة، وبناء على موقفه أفرجت السلطات الإيرانية عنه بكفالة
مالية، وأعيد له جواز سفره، وسافر إلى فرنسا ليعيش في العاصمة باريس في
أبريل (نيسان) الماضي.
ولد جعفر بناهي عام 1960، وأخرج كثيراً من الأفلام
السينمائية المهمة التي صعدت إلى العالمية، ومنها "الصديق" عام 1992
و"البالون الأبيض" 1995 و"الدائرة" 2000 و"تاكسي طهران" 2015.
وحظيت أعماله بنجاح كبير جداً في المهرجانات الدولية
الكبرى، وتمكن من حصد كثير من الجوائز العالمية، منها الجائزة الأولى
لمهرجان "برلين" السينمائي الدولي عن فيلمه "تاكسي طهران" عام 2015، إضافة
إلى جائزة أفضل سيناريو في مهرجان "كان" السينمائي لفيلمه "ثلاثة وجوه" عام
2018.
نضال سياسي
وعوقب بالسجن أيضاً المخرج الإيراني الشاب سعيد روستايي
بسبب فيلمه "إخوة ليلى" الذي كتبه عام 2022 وهاجم فيه بعض التقاليد
الإيرانية والأعراف مثل البطريركية وروح الزعامة القبلية، وسلط الضوء على
أسرة إيرانية فقيرة تتعرض للظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد.
واعتبرت السلطات الفيلم هجوماً مباشراً ومسيئاً ضدها،
ورفضت السماح بعرضه داخل البلاد بعدما أثار جدلاً كبيراً بمجرد التعرف إلى
فكرته، فعرضه المخرج في مهرجانات عالمية مثل "ميونخ" و"كان"، وتمكن من حصد
جوائز كبرى عدة أبرزها "السعفة الذهبية" لمهرجان "كان"، لكن استمرت السلطات
الإيرانية في ملاحقته وحُكم عليه بالسجن.
كان الحكم بمثابة شرارة ثورة في الأوساط الفنية والحقوقية
خارج إيران، ووصفه مهرجان "كان" بأنه "انتهاك خطر لحرية تعبير الفنانين
والسينمائيين والمنتجين والفنيين الإيرانيين".
ولد روستايي في أغسطس (آب) عام 1989، وبدأ عمله في مجال
السينما عام 2016 بكتابة سيناريو وإخراج فيلم "حياة ويوم". وفي 2019 أخرج
فيلم "6.9" ونال عنه عدداً من الجوائز المهمة في المهرجانات السينمائية
الإيرانية.
ويعدّ المخرج الإيراني محسن مخلباف المولود بجنوب إيران عام
1957 من أكثر المخرجين المعارضين الذين واجهوا محاكمات قاسية.
أخرج مخلباف كثيراً من الأفلام الروائية والوثائقية، وفاز
بعشرات الجوائز والأوسمة في مهرجانات دولية، ومن أبرز أفلامه "قندهار" عام
2001، وهو الفيلم الذي ضمّنته مجلة "تايم" الأميركية في قائمتها لأفضل 100
فيلم في تاريخ السينما، ومن أعماله الشهيرة فيلم "لحظة من البراءة" 1996
و"الصمت" 1998.
بدأت رحلة مخلباف في المعارضة أثناء دراسته، فانضم إلى بعض
المنظمات المعارضة لحكم الشاه، مما تسبب في سجنه لفترة، ثم أفرج عنه بعد
نجاح الثورة الإسلامية، فأعلن عن مساندته للحكم بصورة موقتة قبل أن يتراجع
عن موقفه سريعاً معلناً معارضته له.
وبعد تعرضه للسجن أكثر من مرة عقب فترة قصيرة من انتخاب
الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، هاجر من البلاد مع عائلته الى
باريس عام 2005، وأطلق على هجرته هذه "العزلة الإجبارية" أو "المنفى". وقال
في كثير من تصريحاته إنه كان مستهدفاً من قبل الأجهزة الأمنية الإيرانية،
خصوصاً بعد الانتخابات الأخيرة لدرجة أن الوضع لم يعُد محتملاً، مشيراً إلى
أنه كان مجبراً وعائلته على الهجرة أو السجن، وحتى بعد المغادرة إلى باريس
كشف عن أن السلطات حاولت قتله أكثر من مرة هو والمقربين منه عن طريق إرسال
إرهابيين للتنفيذ.
إهانة القيم
أما المخرج كيوان كريمي، فحُكم عليه بالسجن ست سنوات مع
جلده 223 جلدة في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2015، بتهمة "إهانة القيم
المقدسة والدعاية ضد النظام" في فيلمه الوثائقي "الكتابة على المدينة" الذي
تناول الكتابة السياسية على الجدران في طهران خلال الثورة الإسلامية عام
1979، وفي أعقاب الانتخابات الرئاسية عام 2009.
أثار الحكم موجة عارمة من الغضب امتدت إلى إيران وخارجها في
الأوساط السينمائية والحقوقية حول العالم، وطالب سينمائيون مشاركون في
الدورة الـ69 من مهرجان "كان" السينمائي السلطات الإيرانية بإلغائه. وتم
توقيع بيان شاركت فيه قرابة 40 من الهيئات السينمائية الدولية للتنديد
بالحكم، ووصف البيان ما يحدث بأنه جريمة في حق مخرج كل مشكلته أنه مارس
مهنة السينما، وأظهر وجهاً للمجتمع الإيراني غير الوجه المقدم رسمياً.
وعقب ثورة الاحتجاجات التي أعقبت إعلان الحكم على كريمي
خُفضت عقوبته في محكمة الاستئناف لتصبح الحبس لمدة سنة واحدة، وغرامة بقيمة
20 مليون ريال تقريباً، وبعد قضاء المدة والإفراج عنه سافر إلى أوروبا
ليواصل العمل وإخراج أعمال فنية بعيداً من العنف الفكري والسلطوي الذي تعرض
له في بلده.
ولد كيوان كريمي عام 1985، وبرع في تقديم أعمال سينمائية
وثائقية طرحت كثيراً من القضايا المهمة، وعرضت أفلامه في محافل عالمية
ولقيت استقبالاً مميزاً في مهرجانات دولية عدة. |