أحمد شوقي يحكي:
سينما تصفية الحسابات السياسية في مهرجان كان
يزعم القائمون على مهرجان كان أنه أقل المهرجانات الكبرى
تسييسًا. صحيح أن المهرجان أتاح المساحة قبل عامين للرئيس الأوكراني
زيلينيسكي ليلقى عبر الفيديو خطبة عصماء تجاوزت العشر دقائق (مدة لا تمنح
لمن ينالون السعفة الذهبية التقديرية لإنجاز العمر)، لكن إدارة المهرجان
تصمم على كونه احتفالًا بالسينما فقط، بعيدا عن حسابات التمثيل الجغرافي
وتبني القضايا السياسية السائدة كما تفعل مهرجانات أخرى! فهل هذا صحيح؟
تعالوا لنبحث معا عن الإجابة في الحكاية التالية.
الحقيقة دائمًا ما تختلف عن التصريحات الإعلامية، فصحيح أن
“كان” يحرر نفسه من بعض القيود التي تُكبّل مهرجانات أخرى، كاختيار نسبة
معينة من أفلام المخرجات النساء أو السعي لزيادة عدد الدول عبر اختيار
أفلام من دول لا تصنع السينما بانتظام، لكن يظل للسياسة حضورها وتأثيرها في
اختيارات المهرجان. ومن بين 22 فيلمًا عرضت في مسابقة هذا العام، ظهرت في
ثلاثة منها على الأقل ما يمكن أن نسميه “سينما تصفية الحسابات السياسية”،
وهي أفلام تملك مستوى فنيا جيدا، كفل لها الوجود في المسابقة الأكبر في
العالم، لكنها تستفيد أيضًا من تبني خطاب سياسي يرحب المهرجان به، فلو
افترضنا -جدلًا- أن نفس الفيلم قد تبنى الخطاب المضاد، سيكون من العبث تخيل
اختياره لمسابقة كان، حتى لو احتفظ بنفس المستوى الفني.
في هذا المقال سنمر على أفلام تصفية الحسابات السياسية
الثلاثة في مهرجان كان 2024، والتي تدور أحداثها في الولايات المتحدة
وروسيًا وإيران.
المتدرب.. شيطان لا فكاك منه
فيلم عن حكاية الرئيس الأمريكي السابق -واللاحق غالبًا-
دونالد ترامب. هل هناك أي احتمالية أن يكون الفيلم إيجابيًا؟ أو أن يحاول
إظهار شخصيته الرئيسية من مدخل إنساني بعيد عن الشيطنة؟ الإجابة هي بالقطع
لا! فالرجل هو الهدف المثالي لكل أشكال الفنون والإعلام منذ أن بدأ مسيرته
السياسية، وربما من قبلها. تحديدًا من الفترة التي حاول المخرج الدنماركي
إيراني الأصل عليّ عباسي في فيلمه الأول الناطق بالإنجليزية أن يقدم نسخة
درامية منها: نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات. الفترة التي بدأ فيها
دونالد ترامب رحلته الاقتصادية التي كان من المنطقي أن تقوده إلى السياسة.
الفيلم يركز على علاقة مركزية في شباب ترامب، هي صداقته
بالمدعي العام والمحامي روي كوهين، الداهية الذي ساعده في بداية حياته على
أن يخرج من مآزق عديدة، ووضعه على بداية الطريق كرجل أعمال يقدس النجاح،
ويرفض الاعتراف بالهزيمة تحت أي ظروف (في تلميح واضح لما حدث بعد
الانتخابات الأمريكية الأخيرة).
يستوحي عباسي اسم فيلمه من برنامج تلفزيون الواقع الشهير
“المتدرب
The Apprentice”،
الذي كان ترامب شخصيته الرئيسية التي تحكم بين موظفين يرغبون في النجاح
المهني. البرنامج الذي ساهم في شهرة ترامب الإعلامية. المتدرب في الفيلم هو
ترامب نفسه، والذي يسلم نفسه طواعية لكوهين الذي يشكلّه على طريقته،
مستفيدًا من توتر العلاقة بين ترامب وأبيه وافتقاده لنموذج أب داعم حقيقي،
وهو الملمح الإنساني الوحيد الذي يمنحه الفيلم لبطله (يجسد الشخصية ببراعة
النجم سباستيان ستان).
تخلق تلك العلاقة المركزية في الفيلم مشكلة منهجية تذكرنا
بأزمة فيلم آخر شاهدناه في كان قبل عدة أعوام هو “إلفيس
Elvis”
لباز لورمان. فكما كان إلفيس بريسلي في فيلم لورمان كان ترامب في فيلم
عباسي: شخصية مستسلمة لرجل ظل قوي يسيطر على البطل ويخلق شخصيته التي
يعرفها العالم. صحيح أن ترامب يتحول في “المتدرب” لوحش ينقلب حتى على
أستاذه، لكن الجوهر في الحالتين هو تبسيط لتعقد شخص بمثل هذا النجاح
والتأثير، واختصاره في كونه رد فعل لأفكار واختيارات أستاذه.
في “المتدرب” فرجة تنبع منطقيًا من جاذبية ترامب، فالكل يحب
متابعته، حتى لو كان يكرهه، وما من لذة قدر الاطلاع على قصة صعود أكثر رجل
مكروه في العالم، حتى لو كانت دراما يصعب التأكد من صحة تفاصيلها، دفعت
ترامب نفسه للإعلان عن مقاضاة الفيلم وصناعه بتهمة الإساءة له.
ليمونوف.. عصر انهيار الأفكار
يثير “ليمونوف
Limonov”،
أحداث أفلام المخرج الروسي كيريل سيريبرينيكوف، الحيرة كأغلب أفلام صانعه،
وهو الرجل الذي كان على علاقة طيبة بالنظام الروسي حتى ضاق النظام ذرعًا
بانتقاداته فاتُهم بمخالفات مالية خلال إدارته لأحد المسارح قادته للإقامة
الجبرية ثم الفرار من البلاد. سيريبرينيكوف يتعرض لشخصية مثيرة للتأمل
والتساؤلات هو الأديب الروسي إدوارد ليمونوف، الكاتب والشاعر والمفكر
السياسي، اللاجئ السياسي في زمن السوفيتية، ومؤسس الحزب المعارض في زمن
بوتين الذي قاده للسجن، ثم المؤمن بعظمة روسيا القيصرية والمدافع عن حق
روسيا في المقاطعات الأوكرانية.
مات ليمونوف -لحسن الحظ ربما- عام 2020 فلم يشهد اجتياح
بوتين لأوكرانيا، لكن تأييده لضم المقاطعات الأوكرانية للأراضي الروسية كان
القرار الذي اختار المخرج أن يضعه على تترات النهاية، بعد ساعتين ونصف من
متابعة تفاصيل حياة صاخبة، تنقل فيها ليمونوف بين كل شيء: من شاعر واعد
يبحث عن فرصة في الإتحاد السوفيتي، للاجئ غاضب يكتشف ميوله الجنسية، لخادم
أمين في منزل رجل أعمال أمريكي، لغيرها من التجليات بالغة التباين في حياة
الرجل الذي تزامنت حياته مع سقوط كل الأيديولوجيات، فصار باحثًا عن التحقق
الذاتي البحت، يطارد سعادته وشعوره بالشهرة دون أي حسابات سياسية أو
أخلاقية.
نقول إن الفيلم يثير التساؤلات لأنه يجمع متناقضات عديدة،
ففيه صنعة سينمائية وتجربة انغماسية يجيدها سيريبرينيكوف، الذي يأخذك في
رحلة حافلة في الزمان والمكان، وفيه إفراط في إبراز تلك الصنعة، وهو أمر
متكرر يكاد يكون أسلوبًا ينتهجه المخرج. فيه فكرة سوداوية تستحق التأمل عن
انتهاء القرن العشرين وقد صارت البشرية صورة مكبرة من ليمونوف، لا تؤمن
بشيء سوى المصلحة المباشرة، وفيه أيضًا مسافة من الشخصية، تُشعرك في أوقات
عديدة أن المخرج يحاسب شخصيته، ولا يرغب في التورط بأن يدافع عنها أو حتى
يفسر اختياراتها بما يمكن اعتباره تعاطفًا. وهو ما يترك شعورًا غير مريح،
تستمتع ببعض مساحات الفيلم لكنك تشعر بأن ثمّة شيء غير صحي في علاقة صانعه
به، ثم تأتي عناوين النهاية لتمنحنا تفسيرًا ما عن ذلك الشيء.
بذرة التينة المقدسة.. الرابح المثالي
عندما تقرأ هذه السطور التي نكتبها قبل ساعات من حفل
الختام، سيكون المخرج الإيراني محمد رسولوف في الأغلب قد توّج بجائزة
رئيسية عن فيلمه “بذرة التينة المقدسة
The Seed of the Sacred Fig”،
لا نستبعد أن تكون السعفة الذهبية، فهو الفيلم الذي اجتمعت كافة الأسباب
التي تجعله رابحًا مثاليًا في كان 77، سواء مع قرار الحكومة الإيرانية بمنع
الفيلم من المشاركة والحكم على مخرجه بالسجن، ثم تمكن المخرج من الهرب من
البلاد ليتمكن من حضور عرض الفيلم، ثم مستوى أفلام المسابقة التي شاهدنا
فيها أفلامًا متميزة لكن لا يوجد بينها فيلم مدهش يُجمع عليه الكل، وأخيرًا
مستوى فيلم رسولوف نفسه، والذي عُرض في اليوم الأخير للمسابقة لينال
استقبالًا مرحبًا من الجميع، يستحقه بالتأكيد.
المخرج يصيغ فيلمًا ملحميًا من ثلاث ساعات، يتسلل فيه إلى
داخل عائلة موظف حكومي إيراني، لا تعرف ابنتاه حقيقة مهنته حتى يتلقى ترقية
يصبح خلالها محققًا، مسؤولًا على انتزاع الاعترافات من المتهمين، قبل أيام
من اندلاع الثورة الشعبية بعد مقتل الفتاة مهسا أميني. يمر النصف الأول في
دراما منزلية بطابع سياسي ثوري، عن الخلاف بين الأجيال، وانصياع جيل الآباء
لقواعد النظام في مقابل تطلع جيل الأبناء لواقع مختلف.
ينقلب الموقف كليًا بعد مضي ساعة ونصف كاملة يقع بعدها
الحدث المفجر الحقيقي في الفيلم، عندما يختفي السلاح الرسمي للأب، لتبدأ
سلسلة من التصاعدات غير المتوقعة، تنطلق كلها من رغبة الأب المحمومة في
العثور على المسدس، الذي يعني ضياعه تدمير مستقبله المهني، بل والزج به في
السجن، بالتزامن مع لحظة سياسية تجعل لكل مناقشة داخل المنزل دلالة أكبر
بكثير من حجمها المجرد. يتصاعد الإيقاع ويأخذ اتجاهًا غير متوقع لا يخجل
رسولوف فيه من اختبار أنواع فيلمية لم نعتدها من السينما الإيرانية.
لا نحتاج لتوضيح سر اعتبارنا “بذرة التينة المقدسة” من
أفلام تصفية الحسابات السياسية، بل هو تصفية نهائية يستحيل أن تشاهده ولا
تعرف أن مخرجه كان يصنع فيلمه الأخير داخل بلاده، فإما أن يقضي باقي حياته
سجينًا ممنوعًا من العمل أو يتمكن من الفرار، وقد نجح في الثانية لحسن الحظ.
سننتظر لنرى النتائج وما ستسفر عنه، وإن كان فيلم محمد
رسولوف الأقرب من الأفلام السياسية الثلاثة للتتويج، فهو الأكثر اكتمالًا
على الصعيد الفني، والأقدر على البقاء في الذاكرة، لكن ما يجمع الأفلام
المذكورة بخلاف طابعها السياسي هو أنها كلها مثيرة للاهتمام، صالحة
للمشاهدة، أتوقع أن تُطرح للنقاش أكثر خلال الشهور المقبلة بين جمهور أكبر
من حاضري مهرجان كان. |