يعود المخرج الإيراني محمد رسولوف إلى مهرجان كان السينمائي
بعد أن هرب مؤخرا من بلاده حاملا معه فيلمه الجديد – بذرة التين المقدس –
وقبل أن نذهب إلى الفيلم المثير للجدل والجاهز لاستقبال أهم الجوائز
السينمائية نشير إلى نبتة (التين المقدس) هي عبارة عن بذرة تسقط من شجرة
نادرة على مخلفات الحيوانات وتبدأ على حساب بقية النباتات التي تحيط بها
حتى تبذل جميعا بينما تشم وتكبر تلك على على ألم النباتات والمزروعات
الأخرى. وفي العنوان دلالات لما جاء به الفيلم.
مجددا يعود محمد رسولوف إلى مدينة كان ومهرجانها السينمائي
الدولي. رسولوف هو مخرج إيراني هارب ومنشق مطلوب من قبل الشرطة في بلده،
حيث تلقى حكما طويلا بالسجن والجلد. لقد جاء الآن إلى مدينة كان التي
عودتنا على أنصاف المبدعين الذين يحملون قضاياهم وهمومهم السياسية إلى
العالم. ونحن في أحدث افلامه أمام دراما سينمائية غير اعتيادية وصعبة
التصديق على تقديم وتحليل الأوضاع التي يعيشها الإنسان في بلاده.
باختصار شديد، نحن في فيلم – بذرة التين المقدس – أمام فيلم
عن كراهية النساء والإمعان في الإذلال وأيضا الثيوقراطية، ويهدف إلى تجسيد
الألم الداخلي والدراما النفسية للمواطنين المعارضين في بلد يمكن أن تتعرض
فيه النساء للتخويف والضرب قضائيا لرفضهن ارتداء الحجاب بل يذهب الأمر إلى
أبعد من كل ذلك حيث السجن والتنكيل ولربما الجلد والقتل مما دفع الشباب (من
الجنسين) للخروج في مظاهرات لرفض الأمر وقوبلت تلك التظاهرات بالعنف بل بما
هو أبعد من مفردة عنفا.
أهمية هذه التجربة أنها تعزف على وتر الدراما السياسية
والمحلية المتشائمة على الطراز المألوف للسينما الإيرانية، ثم يتصاعد
تدريجيا إلى شيء مجنون ومثير للصدمة إلى حد كبير. بل يشعر المشاهد بأنه
أمام كابوس يثقل يرقد على النفاسة يورطه في لعبة المشاهدة. -خصوصا- وهو
يمزج المشاهد الدراما بعشرات المشاهد الحقيقية من أفلام مأخوذة من
المظاهرات وممارسات الشرطة ضدهم.
المتن الروائي للفيلم يأخذانا إلى حكاية المحامي الطموح
إيمان (مساج زارح) والذي تمت ترقيته للتو إلى منصب محقق دولة- على بعد خطوة
واحدة من أن يصبح قاضيا في المحكمة الثورية، حيث يحصل على زيادة جيدة في
الراتب وإقامة الوفيرة له ولعائلته: زوجته (التي تلعب دورها الممثلة
والمتظاهرة المناهضة للحجاب سهيلة كالستاني) وابنتان في سن الطالبتين
(ستاره مالك ومهنة رستمي).
حتى لأن تبدو الأمور اعتيادية لذا؛ نرى السعادة والفرح التي
تعيشها تلك الأسرة وذلك المحقق (المحامي) ولكن، وعند ولكن تبدأ المسارات
الجديدة، حيث تلك الترقية تجلب خيبة الأمل والتوتر على الفور، فلا ترقية
دون حيثيات وضريبة عليه أن يدفعها، حيث يفاجئ "إيمان" وهو رجل محترم كما
نراه في المنطقة الأولى للحدث، ولكنه يكتشف أنه عليه أن يصادق ويعتمد بشكل
تلقائي على أحكام عقوبة الإعدام دون قراءة الأدلة بل حتى دون معرفة الأسباب
والحثيثات. فقد جاءته الأوامر أنه يجب عليه أن ينفذ الأوامر من أجل الترقي.
ثم تأتي المرحلة الثالثة حينما يتم إبلاغه بأنه معرض
للتهديد والاغتيال هو وأسرته لذا؛ يتم إعطاؤه مسدسا له لحماية عائلته، على
ما يبدو دون أي تدريب أو توجيه حول كيفية استخدامه أو تخزينه يتركه إيمان
الساذج ملقاة حول المنزل ويضعه في الجزء الخلفي من بنطاله مثل رجل عصابات
هوليوود. بكثير من العفوية ولربما السذاجة.
ويأخذنا الفيلم إلى عمق العلاقة الأسرية التي تجمع المحقق
إيمان وأسرته واللقاء يأتي على خلفية تصاعد المظاهرات تفجرت والاحتجاجات
المناهضة للحجاب في إيران، حيث تم قمع أي وازع ليبرالي كان لدى إيمان -ذات
يوم-.
وهنا نراه وهو يوبخ بناته ببرود على العشاء بسبب آرائهن
النسوية المتمردة ويتهمهن بالوقوع في فخ دعاية الأعداء والعناصر الأجنبية
في إشارة إلى عدة دول تقف وراء تلك الحملات وتأجيجها، ويفاجئ إيمان أن
بناته يحملان تلك الأفكار الليبرالية المطالبة بالحريات، لكن إيمانا يرفض
الخوض في تفاصيل. في مشهد لا يكاد يكتمل إلا على نظرة تحمل الكثير من
القسوة ولربما الوعيد بما قادم.
ويدخل الفيلم المرحلة حيث تتصاعد الأحداث بإيقاع متسارع
وقاس عندما تساعد زوجته وبناته إحدى التظاهرات الشابات مناهضات للحجاب
أطلقت الشرطة النار على وجهها، يجب إخفاء ذلك أيضا عن إيمان يتزامن ذلك مع
الحدث الأهم في الفيلم وهو اختفاء مسدس إيمان، ومع تزايد الاستياء
والغضبعنده، يشتبه المحقق في أن إحدى نساء عائلته (زوجته أو إحدى بناته) قد
استولت عليه وكذبت عليه. وهنا يتحول ذلك الإنسان الطيب المحب لأسرته إلى
وحش كاسر بل عبد من عبيد السلطة وجبروت لا يطاق حيث يقوم بنفسه وفي منزله
بالتحقيق من بناته وزوجته وهنا النقلة الأهم في مسارات المتن الدرامي
وبنائه الذي يتماسك ويتطور إيقاعه وتزدحم مضامينه.
بل إنه يقوم بنقله أسرته إلى إحدى المناطق النائية ويقوم
بحبسهن والتحقيق معهن وكأنه يحقق (فعلا) من المتظاهرين أو الخارجين عن
النظام. بكثير من القسوة، والعنف والصراخ والضرب.
على خط متواز يدخلنا الفيلم في لعبة الشك بالجميع فيمن سرق
المسدس والأمر يتجاوز تلك الذريعة التي تجعلنا نكتشف المعدن الحقيقي للأب
المحقق وأيضا خوفه من السلطة والنظام والتي تحوله إلى تلك النبتة التي تريد
أن تلتهم كل شيء حتى تبقي صامدة في خدمة النظام.
ويبقي ان نقول بأن فيلما – بذرة التين المقدس – سيكون حديث
العالم وحديث السينما الايرانية لسنوات على لعقود، وحضور الى كان على أكبر
من كل الجوائز... لانه فيلم (يصرخ) و (ينزف) الما، ووجع انساني، ويدعم
المراة وحقوقها، سينما لا تنتهي حينما تضيء الصالة انوارها، بل يتفجر حوار
واساله ومواقف، وهكذا دور السينما على الانسان وقضاياه، وطريقة السينما
الايرانية، ولكن فيلم صادم حاد وعنيف وقاس لا يجامل ولا يهادن، يقول كلمته
وهو يعرف جيدا بأن قسوة (المحقق) الذي شاهدناه في الفيلم وهو يعذب بناته قد
تناله وتنال فريق الفيلم بكاملة، ولكنها كلمة السينما وموقفها الصريح
والواضح.
ويبقي ان نقول بأن فيلم – بذرة التين المقدس – سيكون حديث
العالم وحديث السينما الايرانية لسنوات ولربما لعقود، وحضور الى كان هو
أكبر من كل الجوائز... لانه فيلم (يصرخ) و (ينزف) الما، ووجع انساني، ويدعم
المرأة وحقوقها، سينما لا تنتهي حينما تضئ الصالة انوارها، بل تتفجر حوار
واساله ومواقف، وهكذا دور السينما الحقيقي، الانسان وقضاياه. |