"كان"
77... كوبولا يحقّق حلمه وجنكه يتألق وفارجيه تصدم
البريطانية أندريا أرنولد تتأرجح بين الواقعية والفانتازيا
فراس الماضي
كان- فرنسا: توشك
الدورة السابعة والسبعون لمهرجان "كان" السينمائي الدولي على الانتهاء، بعد
مرور ثلثي أيام المهرجان مشوبة بتفاوت ملحوظ في مستويات الأفلام، وانقسام
بين آراء النقاد يتسع بشكل يفوق المعتاد. فهذه هي السنة الأولى منذ 6 سنوات
التي تمر فيها أربعة أيام على المهرجان من دون أن يحصل أي من الأفلام
المشاركة على علامة كاملة في النشرة اليومية التي توزعها "سكرين
ديلي"لمختلف النقاد حول العالم.
فعند إلقاء نظرة سريعة على الأفلام التي عُرضت في المسابقة
الرسمية، نجد أن الافتتاح كان مع "الماسة البرية" لأغاثا ريدنغر، في تجربة
سينمائية هجينة الأشكال لكنها لا تخلو من النهج المتكرر في هذا المهرجان
بالذات من ادعاء التجريب. أما عن سينما لانثيموس في فيلمه "أنواع من
اللُطف"، فقد قدمت تمرينها الغرائبي المعتاد لكن بشكل مطول، سالكة اتجاهات
غامضة ومصطنعة المعنى. أما سيريل سربرينكوف، فقد اعتدنا وجوده كل عامين أو
ثلاثة في المنافسة الرئيسة، هذه المرة يقدم سيرة ذاتية أخرى عن الكاتب
والشاعر الروسي المتمرد إدوارد ليمونوف.
أفلام جميلة ولكن...
بعيدا من الأفلام المحبطة التي امتدحها بعض النقاد وكرهها
البعض الآخر، لم يتخل المهرجان عن تقديم سينما جميلة وجيدة، قد لا ترتقي
إلى حدّ إبهار متلقيها عبر إحكام الصنعة السينمائية وجمالها، لكن يمكن
اعتبارها ممتازة في المجمل، كما رأينا في فيلم "بيرد" للبريطانية البارعة
أندريا أرنولد.
لم يوفَّق "بيرد" في
تحقيق الالتقاء بين حدة الواقع وسحرية الفانتازيا، ليأتي كثير من عناصره
زائدا على الحاجة
تدور أحداث الفيلم في الشوارع الداخلية لأحياء الفقراء
وشوارع الضواحي الخلفية. تصور أرنولد مجتمعات وحيوات يومية مختلفة لكنها
قريبة من الواقع الراهن، عبر متابعة طفلة على الأعتاب الأولى للمراهقة تدعى
بايلي، تعيش مع والدها في نزل في أحد ضواحي المدن الموجودة شمال إنكلترا.
ومع تقدم الأحداث نلتقي شخصية بيرد، الذي يضيف إلى الفيلم روح الواقعية
السحرية، ربما للمرة الأولى في سينما أندريا أرنولد، بشيء يقترب من أعمال
الإيطالية أليتشي رورفاتشر مثل "سعيد مثل لازارو" أو "لا كيميرا"، إلا أن
"بيرد" لم يوفَّق في تحقيق الالتقاء بين حدة الواقع وسحرية الفانتازيا،
ليأتي كثير من عناصره زائدا على الحاجة، سواء في بنية الفيلم أو على مستوى
الصورة.
تواجه الأفلام – والاعمال الإبداعية إجمالا- تلك التي تسعى
إلى الجمع بين الواقعية القاسية والفانتازيا الساحرة تحديا أساسيا يتمثل في
خلق العالم المتضاد، ووضع قواعد له تتسم بالاتساق في ما بينها وأن يكون
الانتقال بين الواقع والفانتازيا انتقالا سلسا وباهرا في الوقت نفسه، وهو
ما ينجح فيه قليل من تلك الأفلام فتصير هي الأروع لتميزها، سواء في بناء
عوالمها، أو طرقها السردية، وحتى في توليفتها.
التحدي في بناء العالم السينمائي الذي يفرق بين فيلم وآخر
في حكم الإتقان، يبدأ عند صناع هذه الأفلام لإحكامها، ويصل إلى المشاهد
الذي يلزمه الانفتاح على مشاهدة ما تحمله هذه الأنماط من تجريب إبداعي. ومن
هذه الأفلام لـ"كان" نصيب.
جنكه يقبض على المد والجزر
أول هذه الأعمال وأفضلها -إلى الآن-مما عُرض في "كان" 77،
فيلم "القبض على المد والجزر" لأهم مخرجي الجيل السادس في السينما الصينية
جيا جنكه. هذا الفيلم الروائي اللافت ينقسم ثلاثة فصول وفق خط زمني منتظم،
وهو النمط السردي نفسه الذي اتبعته أعمال جنكه السابقة مثل "قد تغادر
الجبال"و"الرماد هو الأبيض الأنقى". في الفيلم يتبدّل الزمن بتبدّل
الأماكن، فنبدأ من شمال الصين في 2001 نحو جنوبها في 2004، قبل أن نعود
إلى شمال الصين ثانية في الفصل الأخير من الحكاية عام 2022.
المختلف هنا عن أفلام جنكه السابقة التي اتبعت النمط نفسه،
هو تعزيزه للحكاية بعناصر أرشيفية ولقطات مصورة حديثا، إلى جانب لقطات من
أفلامه السابقة مثل"حياة ساكنة"و"متع مجهولة"، خالقا من ذلك المزيج حالة
شاعرية في سلسلة من المشاهد التي تنبض بالحياة والرقص والحفلات الموسيقية
والمناظر الطبيعية، والتظاهرات الضخمة بمختلف مواقعها التاريخية في الصين،
من دون الاستعانة بأي حوارات أو عبارات شارحة، لتُترك مهمة السرد للصورة
وتتابعها في صناعة السياق.
في
"القبض على المد والجزر"، يقبض جيا جنكه على حالة الصين التي جرفتها تحولات
كثيرة على مدار العقدين الأخيرين، بين مد وجزر في حالتها الاقتصادية
وتغيراتها الاجتماعية المتسارعة بفعل تغير السياسات العامة والهوية والوضع
الاقتصاديين، إلى أن يحين الفصل الأخير ليكشف كذلك عن ميلودراما تعبر كل
هذه السنوات.
"المادة"
لكارولي فارجيه
يمكن القول إن ما أحدثه فيلم كارولي فارجيه في العرض
الصحافي الأول ليس له مثيل في أي من الأفلام المعروضة في دورة "كان" هذا
العام. ما حدث هو انفجار شعوري بالمعنى الحرفي، تقلبت الصالة أثناء العرض
رعبا في مرات وضحكا قاتما في مرات أخرى. وعلى الرغم من أن العمل نفسه
مفاجأة، إلا أن توجه المخرجة الى هذا النمط من الأفلام لا يعد مفاجأة لمن
يعرف عملها السابق "انتقام" 2017، فمن شاهده أدرك أن هذا النوع من السينما
كان مرتقبا، هذا النوع من الصخب الذي يأتي تماما مثل رصاصة تكتسب قوتها
بمجرد انطلاقها، وتتصاعد قسوتها ويحتدم عنفها مباشرة بعد مرورها من الأجساد
التي تعبرها.
فارجيه تنقل الرعب من النفس إلى الجسد، ليأخذ شكلا ماديا
وإيقاعا عنيفا لا هوادة فيه
تنطلق
حكاية "المادة" عند قرار فصل النجمة السينمائية الخمسينية الخابي جمالها
إليزابيث سباركل (ديمي مور)، والتي باتت تقدم برنامجا تلفزيونيا
للـ"أيروبيكس"، وإعلان منتجها عزمه البحث عن نجمة شابة تحل محلها. في ذروة
يأسها، تكتشف سباركل "المادة"، وهي وصفة لا تعيد شبابها فحسب، وإنما تخلق
منها نسخة أخرى، أو بالأحرى: أفضل نسخة منها: شخصية سو، التي تؤديها
مارغريت كوايلي، وذلك وفق قواعد دقيقة تضعها فارجيه في عالم يتداخل فيه
الحاضر والماضي بطريقة غامضة.
القارئ العابر للقصة قد يظن أنها تتناول إثارة سيكولوجية
على غرار فيلم "مرثية حلم" أو هوسا بالجمال اليافع كما في "شيطان النيون"،
لكن فارجيه تنقل الرعب من النفس إلى الجسد، ليأخذ شكلا ماديا وإيقاعا عنيفا
لا هوادة فيه، في فوضى متصاعدة تتحكم بها المخرجة بشكل كامل. وفي كل مرة
يظن المتلقي أنه وصل إلى أقصى نقطة، تفتح فارجيه أفقا أكبر مما كان قبله،
مع فيض من الدم والهلع، وهجوم ماتع على مختلف الحواس البصرية والسمعية
والحسية، يتضاعف كل مرة لدى المشاهد.
"ميغالوبوليس"
فرنسيس فورد كوبولا
لا
شك في أن أكثر عمل منتظر ضمن قائمة الأفلام الرئيسة المنافسة لدى قاصدي
المهرجان هو بلا منازع عمل كوبولا ، "ميغالوبوليس"، الحلم المؤجل نصف عقد
من الزمن لصاحب "العراب" و"القيامة الآن".
الفيلم
يمثل المشروع المستحيل الذي حمله كوبولا معه طوال 4 عقود. والحقيقة أن هذا
العمل لا يخيب الآمال، على الرغم من أنه أكثر عمل انقسم حوله النقاد وحضور
المهرجان، وهو أمر مفهوم جدا، لأنه فيلم لمخرج شاب (كوبولا شابا) صنعه أكثر
المخرجين كهولة (كوبولا في الثمانين). أجل هو حلم تغيير العالم، الاندفاع
لبناء اليوتوبيا على أنقاض الديستوبيا، والتهور في صنع عمل بميزانية ضخمة
تتجاوز 120 مليون دولار، بقدر هائل من التجريب والمخاطرة، كما هي الحال مع
معظم أفلام كوبولا، وبقدر الاندفاع اليافع يأتي كأنه وصية، أو رسالة يتركها
للعالم تحمل أملا وسط كل هذا الدمار، والأهم من كل هذا، هو رسالة للسينما
في الكيفية التي يمكن بها أن تُسرد القصص، لإمكان خلق العوالم وبناء منطق
خاص بها، مفتوحا على جميع الاحتمالات.
يأتي
"ميغالوبوليس" لكوبولا كأنه وصية، أو رسالة يتركها للعالم تحمل أملا وسط كل
هذا الدمار
في "ميغالوبوليس"، القاعدة الأساسية في تلقيه، هي أننا نخوض
عالما بلا قواعد، بقدر المشهد الافتتاحي الذي يوقف به قيصر أو سيزر
باللاتينية (آدم درايفر) الزمن ويجعله يتحرك بمجرد أن يصدر أمرا بذلك.
نحن
هنا في أميركا الحديثة بلا شك، لكننا نعيش في مدينة خيالية اسمها روما
الجديدة، تحمل هوية مزدوجة، تجمع بين الفسيفساء الرومانية وأحرفها
اللاتينية، وبين نيويورك في تصاميمها المعمارية ومعالمها المميزة كتمثال
الحرية وغيره. كل شيء في هذا العالم غير واقعي، خيالي كأننا نخوض رحلة داخل
حلم شخص ما أو عقله. ومن خلال هذا الحلم المعقد صاحب المنطق الداخلي الخاص،
نتابع حكاية المهندس المعماري سيزر، وصراعه على المصير مع السلطة ممثلة في
العمدة شيشرون، والخط الذي يفصل ويجمع بينهما في الوقت نفسه: ابنة العمدة
جوليا، وسعي سيزر لبناء مدينة المستقبل (اليوتوبيا الأسطورية)، وسط هدير من
المكائد والمؤامرات والسعي للتحايل على كل شيء، بما في ذلك الزمن، لبناء
هذه المدينة التي يسعى سيزر لتحقيقها بجنون يعادل جنون كوبولا الذي تحقق في
"كان" أخيرا.
في
منتصف عرض فيلم "ميغالوبوليس"، وبينما نحن نخوض هذه الرحلة الخيالية، ظهر
على المسرح شخص يحمل مذياعا ودفترا ليعقد مؤتمرا صحافيا لا يتجاوز
الدقيقتين مع شخصية قيصر/سيزر. كانت هذه اللحظة واحدة من أكثر الصدمات
الساخرة التي تحمل معنى قويا ومقصودا داخل العالم غير الواقعي
لـ"ميغالوبوليس"، متجاوزة الجدار الذي يفصل المتلقي عن الفيلم، لتخلق شيئا
ملموسا يحدث كصحوة داخل هذه التجربة المذهلة. |