مجموعة من الفتيات القبطيات في إحدى قرى الصعيد المصري،
يتحدين قيود المجتمع الذكوري، ويؤسسن فرقة صغيرة لمسرح الشارع، للتعبير عن
همومهن وإحباطهن المرتبط بقيم المجتمع الذكوري المهيمن، وأيضا عن أحلامهن
في التحرر والتحقق الذاتي والخروج من القوقعة.
هذا موضوع الفيلم الوثائقي الطويل “رفعت عيني للسما”
(2024)، الذي أخرجه الثنائي المصري ندى رياض وأيمن الأمير، وقد استُقبل
استقبالا حافلا عند عرضه في تظاهرة “أسبوع النقاد” بمهرجان كان السينمائي
الـ77.
شاركت في تمويل هذا الفيلم جهات عدة، منها مؤسسة الدوحة
للأفلام، وصندوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وصندوق آفاق لدعم الثقافة
والفنون. وقد قضى مخرجاه سنوات في متابعة شخصيات الفيلم وما حدث لهن من
تطور، ورصد أكثر اللحظات خصوصية في حياتهن.
رصد اللحظات الحميمية البسيطة.. غوص في عالم الصعيد
هذا الفيلم عمل بديع، يفوق كثيرا من الأفلام التي تناولت
موضوع المجتمع المغلق في الصعيد، سواء بمستواه الفني الرفيع، أو بالقدرة
الفائقة لمخرجيه على الربط بين الخيوط المختلفة للموضوع، والسرد السلس الذي
ينتقل بين الشخصيات، ويكثف أيضا محنتها وتشابك علاقاتها بالأب أو الآخر-
السيد، البطريركي الذي يمتلك وحده سلطة أن يقرر لبناته.
في الفيلم لقطات بديعة كثيرة، وأداء تلقائي مدهش أمام
الكاميرا، في تجسيد حي للجدال الذي يدور بين الفتيات والفتيان، وبين الآباء
والبنات، من دون افتعال أو إعادة تجسيد تقليدية.
فقد نجح المخرجان كثيرا في رصد لحظات حميمية بسيطة، تتدفق
من تلك الحوارات أو المواجهات والمشاجرات الصغيرة، وتصنع كل ذلك التراكم
الدرامي في فيلم وثائقي يتميز بأنه يخلص لدور السينما الأساسي، أي رواية
قصة مترابطة الأطراف، تثير الاهتمام بشخصياتها المتعددة وأجوائها الريفية
المميزة، مع وحدة الموضوع والبُعد عن النمطية.
وكان المخرجان قد وجدا بطلات الفيلم في قرية البرشا بمركز
ملوي في محافظة المنيا، وهن فتيات قبطيات يجسدن بشكل عام وقوي تمرد الفتاة
الصعيدية عموما -سواء كانت مسلمة أو مسيحية- على الموروث والتقاليد الصارمة
التي تفرض على البنات البقاء في داخل المنزل، والاكتفاء بالوظيفة التقليدية
للمرأة، أي الزواج والإنجاب.
صورة الفيلم.. جمال طبيعي ورمزية تعج بالدلالات
نرى غالبية مشاهد الفيلم خارج المنازل، في الحقول والشوارع
والحارات الضيقة التي توحي بالفقر، ومع ذلك فإن الطبيعة التي تتجلى في
الحقول وعلى شاطئ النيل ساحرة، تقطع مسار الفيلم بين وقت وآخر، لتصنع مساحة
من التأمل.
وكان شريط الصوت رائعا يميز الفيلم، فلا يبدو مفروضا على
البيئة والمكان، بل يتسق مع تلك الطبيعة السرمدية الممتدة منذ عشرات
القرون. لا شيء يتغير كثيرا في حياة الناس، لكن هؤلاء الفتيات قررن تغيير
أنفسهن، وتوجيه صرخة من أجل تغيير الواقع أيضا.
في الفيلم مشاهد للجوء الفتيات إلى الكنيسة، لا سيما ماجدة،
فربما كانت تبحث عن نوع من اليقين يشحذ همتها للمضي فيما أرادته لنفسها،
وهي تتوقف أمام المذبح وتصلي وتبتهل، ولكننا نشعر أيضا بثقل الموروث الديني
الذي يفرض سطوته على اختيارات الفتيات.
وفي لحظات أخرى، ترصد الكاميرا لقطات لنساء منتقبات من وراء
النوافذ، أو تتوقف الكاميرا عند امرأة منتقبة تعبر سريعا على العرض المسرحي
في الشارع، وتشير بيدها إشارة رفض واستهجان، ثم يتبدى لنا منظر قط يعتلي
السور، أو يتطلع نحونا من وراء كوة في السور. والحضور الحي للشارع محسوس
بقوة في الفيلم عموما، ومظاهر العيش ظاهرة، وتجمع مختلف الفئات.
“فرقة
بانوراما برشا”.. فتيات قبطيات يجتمعن لبناء الحلم
ينتقل الفيلم انتقالا سلسا بين شخصيات الفتيات القبطيات،
ويتوقف أمام ثلاثة منهن بوجه خاص، إحداهن ماجدة مسعود، ويبدو أنها وراء
تأسيس مشروع فرقة مسرح الشارع التي تطلق عليها “فرقة بانوراما برشا”، فهي
التي تجمع الفتيات، ونراها في البداية تسعى لجمع دعم يكفل لفرقتها مكانا
صالحا لممارسة التدريبات، وهي التي ستواصل حلمها حتى النهاية في الانطلاق
إلى عالم المسرح الكبير، إلى القاهرة.
ومنهن مونيكا، وهي مغنية تروي أنها قيل لها في طفولتها أن
لا تفتح فمها وتنطق بسبب خشونة صوتها، لكن ها هي الآن تتحدى نفسها وتتحدى
الجميع، وتثبت أن لها صوتا بديعا قويا يجيد التعبير، فهي تغني كلمات عذبة
موحية، تعبر عن الرغبة في التحقق، والتحرر من الوظيفة التقليدية التي تنتظر
الفتاة في عمرها.
ومنهن هايدي، وتبدو أشد خجلا من غيرها في التعبير عن نفسها،
وهي التي ستختار الزواج استجابة لنداء الحب، مع صعوبة الاختيار وعدم يقينها
من اختيارها، ومع خجلها وترددها تأتي لحظة ما عندما تشتد المواجهة مع
والدها، فتعبر عن غضبها بقوة، وتتشبث بموقفها.
“تحكمون
على بناتكم بالموت البطيء خلف الجدران”
نرى الأداء المسرحي وقد أصبح في الشارع أمام الجميع، وهو
مجازفة خطرة، فالفتيات يشتركن في الرقص والغناء والتمثيل أمام حشد من أهالي
القرية، فتنالهن الإهانة والإدانة والسباب، بل وإلقاء الحجارة عليهن أيضا،
لكن العرض يستمر من غير مبالاة بغضب الكثيرين.
ولعل من أكثر مشاهد الأداء المسرحي تعبيرا مشهد المحاكمة
الذي يحاكمن فيه النساء اللاتي يتفرجن في صمت:
لماذا تزوجت وأنت صغيرة؟
هل أنت راضية عن وضعك الحالي؟
وهل تجدين السعادة في الزواج؟
وهل كانت لديك حرية في الاختيار؟
أليس من حق المرأة أن تحب وتختار؟
إنكم جميعا المجرمون الذين تستحقون العقاب لا نحن.
أنتم (أيها الرجال) الذين تحرمون الحب، وتحكمون على بناتكم
بالموت البطيء خلف الجدران، وأنتن أيتها النساء من تجنين على أنفسكن بالصمت
والرضوخ والانصياع.
وربما لا تتردد هذه الكلمات حرفيا في العرض المسرحي، لكن
هذه هي المعاني الواضحة التي تصلنا دون مواربة، من بين الكلمات.
عش الزوجية.. نهاية حتمية لكل الأحلام المحلّقة
من المشاهد البديعة المصاغة سينمائيا بلغة أقرب إلى الشعر،
ما ترويه الفتيات عن الحلم الذي لا يفارق ذاكرتهن قط، وكلها أحلام تجسد
الرغبة في التحرر، في التعبير عن الذات بالحب والانطلاق في عالم الغناء
والرقص والمسرح، بعيدا عن أسوار العزلة في القرية.
في المنزل تندمج ماجدة في حوار مع أخيها حين يبدي اعتراضه
على ما تفعله مع صديقاتها، ويصر على أن كل هذا سينتهي حتما إلى الزواج
وملازمة البيت. إنه ليس عنيفا، لكن من الواضح أنه يتبنى الرؤية الذكورية
المستقرة، ومع ذلك فنحن لا نعرف هل كان صادقا فيما يقوله، أم يؤدي دورا
يشعر بأن عليه فعله، وهو يبرر موقفه أيضا بأنه لا يستطيع مواجهة أهالي
القرية، إن اختارت ماجدة سكة التمرد على الموروث التقليدي.
تشترك مونيكا أيضا في جدال أكثر سخونة مع خطيبها، فيقول لها
إن الحياة بعد الزواج تختلف تماما عن ما قبله، وإنه لن يسمح لها بالغناء،
لكنه سرعان ما يتراجع، ويقول إنه كان يمزح معها فقط. لكن هل هذا صحيح؟
يبقينا الفيلم بين الشك واليقين.
ما يحدث فيما بعد هو أن مونيكا تزوجت هذا الشاب فعلا داخل
الكنيسة، فرقصت وغنت في حفل كبير أمام أهالي القرية، وأصبحت زوجة ثم رُزقت
طفلا أو أكثر، وظل الفيلم يتابع مصيرها بعد أن أصبحت أما. ويبقى السؤال هل
سيظل الحلم القديم قائما؟
انفراط عقد الفرقة.. خضوع وتضحية بدافع الحب
يتشبث خطيب هايدي يتشبث بفكرته المتزمتة، بل يطلب منها محو
أسماء صديقاتها أعضاء الفرقة من هاتفها، ونسيان علاقتها بهن نسيانا تاما،
حتى أنه ينتزع هاتفها ويلقي به بين الحقول، مكررا أنه لن يسمح لها بعد
الزواج بالاستمرار في التمثيل.
تستجيب هايدي بكل رضوخ، وتقطع علاقتها مع الفتيات، وتتوقف
عن حضور تدريبات الفرقة، لكنها لا تبدو سعيدة، ويبدو والدها الذي يظهر في
مشهدين يدخن النارجيلة، وهو يحاورها ويحاول أن يفتح عينيها على خطورة
اختيارها، أي الانصياع لما يطلبه منها خطيبها، فهي تحبه كثيرا ولا تستنكف
من التضحية للبقاء معه.
يتخذ الأب هنا موقفا منفتحا جدا، على عكس خطيبها نفسه،
ويحذرها من تبعات اختيارها، مرددا “إننا نحن المسيحيين ليس لدينا طلاق”.
لكنها لسبب ما تبدو منكسرة، تقطع علاقتها بالفرقة، لكن لسنا واثقين من أنها
ستنجح في تلك المخاطرة.
يُشعر انفراط عقد الفتيات ماجدة بالإحباط، لكنها تبقى مصرة
على المضي قدما في حلمها، فهي الأكثر تعبيرا عن ذلك الحلم منذ البداية، أي
الحلم بالخروج من القرية والانطلاق إلى القاهرة، لدراسة التمثيل والعمل في
المسرح الاحترافي الكبير، مع أن أخاها يحذرها من إمكانية الفشل، في مشهد
حميمي يعكس رؤية قروي بسيط للعاصمة، ففيها قطارات الأنفاق السريعة،
وأبوابها يمكن أن تغلق عليك فجأة، فتصعقك بالتيار الكهربائي، لكنها لا
تكترث، وينتهي الفيلم وهي تغادر نحو مصير مجهول.. إلى القاهرة.
“رفعت
عيني للسما”.. حصاد 4 سنوات من المعايشة وبناء الثقة
قضى المخرجان ندى رياض وأيمن الأمير أكثر من 4 سنوات في صنع
هذا الفيلم، ولا شك أنه لم يكن ممكنا أن يأتي الفيلم على كل هذا الجمال
وانسيابية الحركة والحديث، والتقاط أكثر اللحظات حميمية بعفوية كبيرة وصدق
مدهش، إلا بعد المعايشة والاقتراب الوثيق من شخصيات الفتيات وأقاربهن، ونيل
ثقة الجميع، وقبولهم جميعا بفكرة “البوح”، والتعبير الصريح عن ما يرونه،
فجاء الفيلم مثالا للفتاة المصرية في الريف، لا نموذجا لمجتمع صغير مغلق من
الأقلية القبطية في الريف الصعيدي فقط.
عُرض الفيلم في تظاهرة “أسبوع النقاد” بمهرجان كان،
فاستُقبل بحفاوة كبيرة من جانب الجمهور، وكان الفيلم الوثائقي الوحيد داخل
مسابقة هذه التظاهرة المميزة التي ينظمها اتحاد نقاد السينما الفرنسيين،
وتضم 7 أفلام، بل كان أيضا أول فيلم وثائقي يدخل هذه المسابقة طوال تاريخها
كله.
وكانت المفاجأة صعود الفتيات الست إلى المنصة، فتولت ماجدة
مسعود الحديث عن تجربة الفرقة، وعن سعادتهن بالتواصل المباشر مع جمهور
مهرجان كان، ورغبة الفتيات في مشاركة أحلامهن مع الجمهور. لقد جئن من أقاصي
الصعيد إلى المهرجان الكبير، وكان هذا في حد ذاته اختراقا كبيرا للتقاليد
المتزمتة المفروضة. |