عقب عرضه الأول ضمن فعاليات الدورة الثالثة لمهرجان البحر
الأحمر السينمائي، ديسمبر 2024، ضمن مجموعة مشاركات سعودية هي الأوفر كماً
والأكثر جدلاً على المستوى الفني والسينمائي، خلال السنوات الأخيرة، فاجأ
الفيلم السعودي
"نورة"
من
كتابة وإخراج وإنتاج توفيق الزايدي، الوسط السينمائي العربي والدولي
باختياره ضمن واحدة من أهم المجموعات الرسمية لمهرجان
كان السينمائي في
دورته القادمة الـ 77، ضمن تظاهرة "نظرة ما" التي يعتبرها البعض ثاني أهم
تظاهرات المهرجان الأشهر بعد المسابقة الدولية.
لم يمض إذن عقد كامل منذ أن شاركت المملكة لأول مرة عام
2018، بجناح يحمل العلم الأخضر ضمن مجموع أعلام الدول التي ترفرف في سماء
الكروازيت، حيث سارعت الدولة الناهضة بحركة ثقافية وتغيير حضاري كامل بعد
أقل من 4 أسابيع من افتتاح أول صالة سينما تجارية في عاصمتها أبريل 2018،
للمشاركة عبر المجلس السعودي للأفلام، وللمرة الأولى بشكل رسمي، في محفل
مهرجان كان السينمائي.
سلط الجناح الضوء على بعض التجارب السعودية القصيرة، من باب
التوطئة لما هو قادم عبر عرض 9 أفلام قصيرة لصنَّاع أفلام سعوديين، وكشفت
صراحة وبصورة غير قابلة للتشكيك عن نيتها للتركيز على دعم ورعاية المواهب
في مجال صناعة الأفلام محلياً وإقليمياً ودولياً، وصرح وقتها تيري فريمو
مدير المهرجان بأنه سعيد جداً بأنه صار بإمكان مشاركة القصص السعودية مع
العالم من خلال مهرجان كان.
ولم تكن المشاركة بجناح 2018 مجرد بيضة ديك، بل أصبح
الحضور السعودي مستداماً في الدورات التالية من مهرجان كان، وانتقل التمثيل
الرسمي إلى هيئة
الأفلام التابعة
لوزارة الثقافة التي يديرها المخرج عبد
الله آل عياف،
وكان أميز ما تم الإعلان عنه في مشاركة 2018 هو الكشف عن موعد تصوير فيلم
"المرشحة المثالية" للمخرجة السعودية هيفاء
المنصور،
وهي صاحبة أول فيلم روائي سعودي طويل من إخراج مخرجة سعودية، ومصور بالكامل
في السعودية "وجدة"، وهو ما يمكن اعتباره إرهاصة براقة للتحول في سياسات
المملكة تجاه السينما، كنشاط ثقافي محوري ضمن واجهة أي دولة حديثة.
في العام التالي 2019 شارك "المرشحة المثالية" من بطولة
ميلا الزهراني، في مهرجان فينيسيا خلال فعاليات الدورة 76، وهي المرة
الثانية بعد "وجدة" التي يشارك فيها فيلم سعودي في مهرجان بحجم فينيسيا،
كان "وجدة" قد عرض ضمن فعاليات الدورة 69 للمهرجان، بل وحاز 3 جوائز فرعية،
وهي جائزة سينما "فناير" لأفضل فيلم، وجائزة الاتحاد الدولي لفن السينما،
وجائزة "إنترفيلم"، وقد تم اختياره في السنة نفسها ليكون مرشح المملكة
لجائزة الأوسكار أفضل فيلم أجنبي.
لم تتوقف المشاركات السعودية كذلك على مهرجان كان السينمائي
فقط، وإنما وصلت إلى عدة مهرجانات أخرى من أبرزها مشاركة فيلم "الدنيا
حفلة" لرائد السماري في مهرجان صندانس السينمائي عام 2019، وهي أول مشاركة
سعودية في المهرجان الأميركي الكبير، والتي توجت بفوز الفيلم القصير بجائزة
لجنة التحكيم، هذه المشاركة والفوز بإحدى جوائز المهرجان، هي بحد ذاتها
تحول كبير في تاريخ مشاركات الأفلام السعودية القصيرة في المحافل الدولية.
وفي شتاء 2023، وقبل أسابيع قليلة من انطلاق الدورة
الثالثة مهرجان البحر الأحمر، عرضت 3 من أهم إنتاجات العام القادمة من
المملكة ضمن فعاليات مهرجان تورنتو، هذا المهرجان الذي يمثل شاشة مهمة
لمئات المبرمجين والنقاد وأسواق التوزيع الهامة حول العالم، وهي أفلام
"هجان" لأبو
بكر شوقي،
و"ناقة" لمشعل الجاسر، وأخيراً "مندوب الليل" أول أفلام علي الكلثمي، والذي
كان فيلمه القصير "وسطى" ضمن مجموعة الأفلام السعودية القصيرة الـ 9، التي
سبق وأشرنا أنها كانت ضمن العرض الذي قدم لأول مرة على شاطئ الكروازيت في
جناح 2018.
"نورة"و"وجدة"
و"مريم"
الملاحظة الأساسية على المشاركات الدولية المباشرة بالنسبة
للأفلام السعودية في المهرجانات الكبرى، ونقصد بها الأفلام التي من كتابة
وإنتاج وإخراج كوادر سعودية، سواء مخضرمة أو شابة، وليس الأفلام الممولة
والإنتاجات المشتركة، إنها تحمل توجهاً نسوياً واضحاً، أو تلعب فيها النساء
أو المرأة تحديداً أدوار البطولة الرئيسية، سواء درامياً أو فكرياً
ونفسياً، ويكفي أن نضرب مثلاً بأفلام "وجدة"، و"المرشحة المثالية"، و"نورة"
الذي التحق بهم مؤخراً، فيلمان في فينيسيا وفيلم سوف يعرض في كان.
يعتبر كلا من "وجدة" و"المرشحة المثالية"، أقرب لثنائية في
مشروع المنصور، بل إن من شاهد الفيلمين يمكن أن يتصور أن ثانيهم يكمل
أولهم، فـ"وجدة" الفتاة التي التحقت بمسابقة حفظ القرآن الكريم، من أجل أن
تحصل على دراجة تقودها في مجتمع يحرم قيادة الفتيات لأي مركبة، هي التي
عندما كبرت صارت الطبيبة الشابة التي تسعى لتغيير نمط التفكير المتحفظ في
مجتمعها، عبر تجاوز العقبات التي تواجهها، حين تقرر الترشح لخوض الانتخابات
البلدية في دائرتها المحلية، بسبب التمييز الجندري.
وفي حين ينتهي "وجدة" بالفتاة، وهي تقود دراجتها بعد أن
تحقق حلمها الذي حاربت من أجله، يبدأ "المرشحة المثالية" ببطلة الفيلم
"مريم"، وهي تقود سيارتها، بعد أن تخفيف قيود الولاية على النساء في
المجتمع المتحول نحو انفتاح كبير.
أما "نورة" والذي سيشاهده الجمهور الدولي خلال فعليات "نظرة
ما"، فيبدأ بالصحراء وينتهي بصورة البطلة معلقة في متحف فني، وفي حين تدور
أحداث "وجدة" قبل الانفتاح الاجتماعي بقليل، بينما تدور أحداث "المرشحة
المثالية" عقب الانفتاح، يعود "نورة" بالزمن إلى منتصف التسعينيات، حيث
ذروة المد الديني وحالة الانغلاق والتصحر النفسي والعائلي، في بيئة خشنة
تعلوها طبقة من رمال الكبت والسيطرة، وممارسة فنون الولاية والقهر ومطاردة
الأحلام الحلوة.
ما يربط بين "نورة" و"وجدة" و"مريم" هي أن ثلاثتهن أصحاب
إرادة وقرار، هم بطلات دراميات فاعلات في مواجهة ريح السموم، التي كثفتها
البداوة وأزمنة الصحوة والكمون الحضاري، ثلاثتهن يملكن أحلاماً تبدو في أي
مجتمع آخر عادية جداً، واحدة تريد دراجة والثانية، تريد ممارسة حقها
السياسي، والثالثة تريد أن يتم رسمها كي تحتفظ العيون بذكرى براقة عن
جمالها اللؤلؤي، ولكن في مجتمع خشن له سياقاته المحافظة وأصوله الشائكة
وأصوليته الحادة، فإن تلك الأحلام تصبح مستحيلات كبيرة، تحتاج إلى تلال من
الجهد والمحاولات التي يترصدها الإخفاق في كل لحظة، لو توانت إرادة
صاحبتها، أو تمزق إخلاصها لتحقيقها.
أسئلة "نوره"
هل يمكن القول إن أكثر ما جذب المهرجانات الكبرى في الأفلام
الثلاث، هو تلك الحالة النسوية والهالة التحررية التي تفوح من تلك التجارب؟
هذا السؤال يشبه الأسئلة التي تؤرق "نورة/ماريا البحراوي"
في عزلتها الصحراوية داخل حدود القرية المنسية، التي تعيش فيها نصف حياة مع
عمتها وزوجها، منذ توفي والداها في حادث سيارة على الطريق، بينما كانا
عائدين للمدينة بعد زيارتهم للقرية قبل سنوات.
ربما هي تلك الأسئلة التي تداعب خيال المراهقة التي تدمن
تصفح المجلات، التي تأتي مهربة أو متسللة عبر متجر الهندي الذي يرتزق من
إحضارها للفتاة المختلفة عن واقعها الصلد.
وحين يطأ المدرس الجديد "نادر/ يعقوب الفرحان" رمال القرية
الميتة حاملاً أدوات الرسم، ومقاوماً لأصول الولاية ودائرة القبلية
المغلقة، المتمثلة في "زوج العمة عبد الله المحيسن" وشيخ القرية، يبدو وكأن
"نورة" قد عثرت على كثير من إجابات الأسئلة التي طالما أرقت خيمة خيالها
السرية.
وحين تتوجه له بطلب رسمها، تصبح اللوحة التي لن تكتمل إلا
عبر المرور بصراط الدم، حين يتعرض "نادر" للمطاردة من قبل خطيب "نورة"
المزعوم، لقتله بعد ان قرر المدرس الأعزل إلا من قلمه أن يعود بها للمدينة،
حيث تنتمي، لتعيش مع جدها الذي أرسله، تصبح اللوحة أقرب لذاكرة ونبوءة في
نفس الوقت، ذاكرة الحقبة التاريخية التي خفت فيها ضوء الحضارة تحت دعاوى
المحافظة والتدين، وذاكرة "نادر" الذي يكمل رسم اللوحة، ونبوءة لما سوف
يتحقق لاحقاً.
أحداث الفيلم تدور عام 1996، وتصبح صورة "نورة" بشعرها الحر
هي مصيرها الحقيقي، وليس رقدتها في فراش ملوث بعرق الاحتجاز القسري، في بيت
زوج عمتها تنتظر زيجة دموية، أو موت يلوث نعومة جمالها بخشونة الرمال.
من البداية وأسئلة "نورة" تبدو متقاطعة مع أسئلة "وجدة"
و"مريم"، حتى ولو لم يلتق ثلاثتهن، لماذا لا يكون لدى وجهي فرصة أن تقتنص
ملامحه ريشات رسام أو عدسة مصور؟، لماذا تبدو المدينة مثل مستحيل قاص؟
لماذا تحمل ذاكرتها أطيافاً نورانية عن حياة أخرى عاشتها، لكنها لم تعد
كائنة حتى أن الشك يدب كل ليلة في أطراف أفكارها؟.
في المشهد الأول من الفيلم، نرى هيكل سيارة محترق في
الصحراء الملتهبة، وفي المشاهد الأخيرة يعترض الخطيب سيارة "نادر"، ليحول
دون فرار "نورة" إلى المدينة، لنعلم أن السيارة الأولى هي سيارة والديها
التي تعرضت لحادث قدري على الطريق، بينما تدخل الثانية في مواجهة مباشرة لا
تريدها مع الحدود والأسوار العقلية والنفسية، للبيئة الرافضة للون والحرف
والابتسامة.
أليست أسئلة "نورة"ا هي ذاتها أسئلة "وجدة" لأمها حول الأب
الغائب، الذي لا يعود من عمله سوى لكي يتزوج بأخرى لتنجب له ولداً، وهي
نفسها أسئلة مريم حول منطق الرفض الذي تواجهه من دون مبرر حقيقي، حين تدرج
اسمها في قائمة المرشحين لانتخابات البلدة، وما مواجهة الخطيب المحتقن
بالرفض وتعاليم الولاية والقهر إلا وجه جديد من وجوه المواجهات، التي تعرضت
لها "وجدة" و"مريم" في معاركهما كل في فيلمها، الذي يكمل منظومة النقد،
ويؤصل للتحرر كسياق معارض، وليس كخاطرة مستحيلة.
هل انتقلت تلك الأسئلة إلى خيال أصحاب القرار، باختيار هذه
الأفلام للعروض الدولية في المهرجانات الكبرى؟، أم تم اختصارها في نظرة
ضيقة عن المجتمعات الغريبة الغامضة التي ربما عانت بها المرأة، لكنها
استطاعت في النهاية ان تقود الدراجة، أو تقوم بدور سياسي، أو تطلق شعرها
لريح الحرية، كي تمجد خصلاته الفائرة بالحياة؟.
*
ناقد فني |