خمسة أيام ملؤها الإبداع والشغف تجري فيها أمـواج دجلة
وتتراقـص على شاشات سينما الرشيد والمسرح الوطني أخـيلة الأفلام المشاركة
في مهرجان بغداد السينمائي في دورته الأولى.
المهرجان الذي عُـقـد بمشاركة عربية كبيرة وحضور لافت
للفنانين للمصريين استمر في الفترة ما بين 10 و14 فبراير وبميزانية تقدر
بـنحو مليون وربع المليون دولار.
حملت الدورة اسم المخرج العراقي محمد شكري جميل وتم تكريمه
هو والفنانين العراقيين سامي قفطان وقاسم الملاك بجوائز انجاز العمر. وفي
حين كانت أجواء حفل الافتتاح براقة ومبتهجة لم تكن الأفلام بتلك الوداعة
المتوقعة ولم تشي الأجواء السعيدة بمآسي قصص الأفلام التي سنعاينها على
شاشات عروض المهرجان؛ سواء في الأفلام الروائية او القصيرة أو الوثائقية أو
أفلام التحريك أو حتى في أفلام فضاءات عراقية وهي 10 أفلام تم انتاجها
خصيصا للمشاركة في المهرجان في سابقة أظن أنها الأولى في تاريخ المهرجانات
العربية وبميزانية تتراوح بين 20 و25 ألف دولار للفيلم الواحد ما يشير إلى
اهتمام حقيقي من العراق بالسينما المحلية وتفريخ مواهب جديدة نرى إبداعاتها
على الشاشة.
نال العراق حصة لا بأس بها من جوائز المهرجان وأولها فيلم
"آخـر السعاة" من اخراج سعد العصامي، الذي حاز على جائزة أفضل سيناريو لسعد
العصامي وولاء المنّـاع، وجائزة أفضل ممثل للفنان رائد محسن، الفيلم مرثية
شفيفة لزمن أقل صخبا كان لساعي البريد مكانه قبل أن تندثر مهنته بفعل
الرسائل القصيرة وتطبيقات الهواتف الذكية، وفي حين تتهاوى مهنته يتداعى
عالمه الصغير هو الآخــر فيسـلـبه جاره الطامع بيته بمباركة شيخ العشيرة
ليبحث بطلنا عن صديق قديم وعمل جديد وليبدأ رحلته هو وأسرته باحثا عن موطن
وسكن جديدين وبعد مغامرات عدة لم تخلو من الأنقياء الداعمين أو الخصوم
المتربصين لا يسعه هو وأسرته وصديقه الوفي وأطفاله الجدد الذين تبناهم إلا
تروسيكل صغير يحتويهم جميعا سيجوبون به الطرقات بحثا عن مرفأ أو مستقر.
حين شاهدته في قاعة السينما لم أتخيل أنه كان فيلما قصيرا
لصانعه وأعاد صياغته كفيلم روائي طويل. عادة ما تصاب الأفلام بالترهل إذا
ما حاولنا اعتماد هذا الإجراء. لكن لطبيعة القصة ذاتها ولمهارة وحذق مخرجها
أفلت فيلم "ميسي بغداد" من ذلك الشَـرَك.
يفكك سهيم عمر خليفة مخرج الفيلم قضية التطرف والتعدد
الطائفي في عراق ما بعد صدام عبر صبي موهوب بكرة القدم يضطر إلى الرحيل من
بغداد بعد استهداف والده المترجم لدى قوات الاحتلال الأمريكي، وبعد أن فقد
الصبي إحدى رجليه جراء حادث إرهابي. ليبدأ رحلته من الطفولة إلى اليفاعة
وسط مجتمع محتقن يبحث عن التعافي. الفيلم حصد تنويه خاص من لجنة التحكيم
وذهبت جائزة المهرجان لأفضل ممثلة إلى بطلة الفيلم زهراء غندور.
رغم موعد عرضه المتأخر كفيلم افتتاح المهرجان وحرص العديد
من الجهور على مشاهدته؛ أقيم لفيلم "وداعا جوليا" حفل إضافي آخر لإعطاء
فرصة المشاهدة لأكبر عدد من جمهور السينما المتعطش للفن الرفيع. لذا لم يكن
مستغربا حصوله على أفضل فيلم روائي طويل في المهرجان وليظفر المخرج
السوداني محمد كردفاني بأبرز جوائز المهرجان. الفيلم يتناول قضية تقسيم
السودان بشكل فني عبر قصة أسرتين من شمال وجنوب السودان يتقاطع مصيرهما في
لحظة تاريخية حرجة، وبرغم حضور القضية السياسية وكونها نواة الحبكة إلا
أننا نشاهد سينما خالصة وصراع درامي محبوك وقوي لوصف حقبة هامة وحيوية من
تاريخ السودان الحديث.
أما الفيلم اليمني "المرهقون" لعمر جمال فيحصد جائزة أفضل
تصوير لمايكل ديساي، والفيلم تتبع لمقطع زمني من حياة أسرة يمينة متوسطة
أرهقتها أساليب التكيف مع الأزمة الإقتصادية الطاحنة التي ألمّـت بالبلاد
فتجعلها غير قادرة على استقبال وليد جديد منتظر ولتبدأ في البحث عن سبل
التخلص منه.
في حين تذهب جائزة لجنة التحكيم الخاصة للفيلم الأردني "أن
شاء الله ولد" من اخراج أمجد الرشيد والذي تميز بسيناريو محكوم ولاهث نتتبع
فيه مسيرة أرملة شابة تسعى للحفاظ على حقها وحق أبنائها في ظل قوانين تنتصر
للرجل حتى لو شاركته المرأة صناعة ثروته.
تنافس في مسابقة الأفلام الروائية كل من الفيلم الفلسطيني
"حمى البحر المتوسط" من اخراج مها الحاج، والمغربي "مطلقات الدار البيضاء"
من إخراج محمد عهد بنسودة، والمصري "طرف الخيط" من اخراج شريف شعبان،
والسوري "رحلة يوسف" من إخراج جود سعيد، والتونسي "بنات ألفة" من إخراج
كوثر بن هنية، والكويتي "الشرنقة" من إخراج أحمد التركيت، كما عُرض الفيلم
السوري "يومين" للمخرج باسل الخطيب في عرضه العربي الأول.
في مسابقة الأفلام القصيرة يفوز الفيلمين الفلسطيني "فلسطين
87" من إخراج بلال الخطيب والعراقي "ترانزيت" من إخراج باقر الربيعي بجائزة
أفضل فيلم مناصفة. ورغم حضور السياسة في كلا الفيلمين إلا أن التعبير عنها
جاءا في إطار بالغ الفنية حيث تنبت قصة حب وشيكة رغم مطاردات قوات الاحتلال
إبّـان الانتفاضة الأولى في الفيلم الفلسطيني، في حين تلاحق استغاثات أهالي
المتغيبين موظف المشرحة الذي ينفي وجود جثثهم لدفعهم للتشبث بالأمـل في
الفيلم العراقي. كما نال الفيلم السوري "فوتوغراف" من إخراج المهند كلثوم
تنويها خاصا من لجنة التحكيم.
أما مسابقة الأفلام الوثائقية فيحصد الفيلم اليمني "سـطـل"
أفضل فيلم من إخراج عادل محمد الحيمي والذي يستعرض حياة عبد الله عامل
البناء الذي يرمم مباني صنعاء الأثرية باستخدام دلوه. في حين ذهبت جائزة
افضل فيلم تحريك للفيلم العراقي "سكتش" من إخراج عُدي عبد الكاظم.
أمـا جائزة مسابقة فضاءات سينمائية عراقية والتي تنافس فيها
10 أفلام من انتاج المهرجان فقد حصدها فيلم "شعلة" من إخراج هاني القريشي.
محتجزون وهاربون ولاجئون .. أطفال تحت الأنقاض وجنود سابقون
هم أبطال جُـل أفلام هذه الدورة من مهرجان بغداد السينمائي التي تُـعد صدى
اللحظة التاريخية الراهنة، حيث عكست شاشات العرض في بغداد وقائع عالمنا
العربي على قتامتها. فشبح الحروب أو محاولات التعافي منها هي القاسم
المشترك بين معظم الأفلام.. نتمنى دورة تالية أكثر ألقـا وواقعا عربيا أقـل
بـؤسـا. |