"برلين
السينمائي 74" ينطلق اليوم: نهاية عصر الاستكشافات؟
مشاركة عربية وسكورسيزي مكرما
فراس الماضي
برلين: تنطلق
مساء اليوم، الخميس 15 فبراير/ شباط، أنشطة الدورة 74 لمهرجان برلين
السينمائي الدولي، وتستمر حتى 25 من الشهر نفسه، ويبدأ معها موسم
المهرجانات الكبرى لهذا العام، إذ يليه مهرجان "كان"في مايو/ أيار ثم
فينيسيا- البندقية في أغسطس/ آب. وتُفتتح دورة هذا العام بفيلم "أشياء
صغيرة مثل هذه" للمخرج الأيرلندي تيم ميلانتس، من بطولة كيليان ميرفي
وإميلي واتسون وكلير دون.
دورة هذا العام من المهرجان، وكالعادة، لا تأتي هادئة. إذ
بدأت أحداثها وأخبارها مبكرا جدا بالإعلان المفاجئ عن تغييرات هيكلية،
أعلنتها إدارة المهرجان في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بدأت بتقليل
الأفلام المختارة بنسبة الثلث ليصبح عدد الأفلام المشاركة 200 فيلم فقط،
انخفاضا من 300 فيلم شاركت في دورة العام الماضي. وأرجعت إدارة المهرجان
قرارها إلى خفض التكاليف، في اتجاه معاكس لما تُقدِم عليه المهرجانات
الدولية الشبيهة التي تسعى إلى زيادة أقسامها الموازية للمسابقة الرئيسية
وكذلك زيادة الأفلام المختارة للعرض والتنافس في الأقسام المختلفة
وتنويعها. إلا أن قرار مهرجان برلين يمكن تفسيره بما تمر به ألمانيا - أقوى
اقتصادات أوروبا من انكماش.
آثار الهيكلة
وبعيدا من الضغوط الاقتصادية، تمتد آثار الهيكلة التي
قررتها إدارة المهرجان لتشمل تغييرا غير معلن في الرؤية، إذ تنتهي بهذه
الدورة فترة عمل المدير الفني الإيطالي كارلو تشاريتيان الذي شهد المهرجان
منذ توليه المنصب تغييرا استراتيجيا ملحوظا، تمثل في اتجاهه إلى خلق خصوصية
سينمائية للمهرجان تميزه عن المهرجانات العالمية الأخرى.
غدا
المهرجان تطبيقا حرفيا لقيمة المهرجانات ومسؤوليتها في الكشف عن الاتجاهات
السينمائية الجديدة والمغايرة
تجسدت تلك الخصوصية في تنوع المهرجان في اختياراته
الفيلمية، وفاعلياته التي صنعت فارقا في اكتشاف المواهب السينمائية
الجديدة، لتتألق عبر المهرجان - عبر السنوات الأربع الماضية- أسماءعدة
واعدة، أحدثها ليلا أفيليس مخرجة "طوطم"، ولويس باتينو في "سامسارا"
وكلاهما عرض خلال الدورة الماضية 2023.
وتألقت على مدار السنوات الأربع الماضية كذلك أسماء
أليكساندر كبردزه، وروث بيكرمان، وأندرياس فونتانا، وسوي شيانغ وغيرهم. هذا
النهج رسمه كارلو من قبل في مهرجان لوكارنو على مدار 9 أعوام قبل انضمامه
إلى برلين، اكتشف خلالها مواهب لا نبالغ إن قلنا إنها اليوم تقود سفينة
الأفلام في المهرجانات الكبرى الأخرى، مثل راوسكي هاماغوتشي، وماتياس
بينترو، وبي جان، وغابرييل ماسكارو.
اتجاهات سينمائية
لعب مهرجان برلين السينمائي خلال السنوات الأخيرة دورا مهما
في هذا المضمار، وغدا تطبيقا حرفيا لقيمة المهرجانات ومسؤوليتها في الكشف
عن الاتجاهات السينمائية الجديدة والمغايرة، وإبراز أفلام العالم غير
المعروف لدينا بأروع الطرق. ويمكن أن نستشهد في هذا المقام بما أوجده
المهرجان من مساحة لإبراز أسماء وأفلام
مهمة عربيا،
مثل صهيب الباري في الفيلم السوداني الرائع "الحديث عن الأشجار"، وما قدمه
المهرجان العام الماضي من رواج للفيلم
اليمني "المرهقون"،
ليبرهن من خلال أولئك المخرجين وغيرهم من المبدعين المُكتَشَفين، عن ما
يمكن أن تحدثه الاختيارات السينمائية لدول ليست بالضرورة ناجحة سينمائيا أو
(لا تملك إنتاجا حقيقيا)، من أثر في دفع ظهور المواهب من تلك الدول،
وقدرتها على الخروج - عبر برلين- إلى العالم، بأفلام قوية وحقيقية.
إلا أن هذا المنهج الشغوف بفن السينما، الصحي والحقيقي،
يبدو أن المهرجان يبحر بعيدا عنه من خلال استراتيجية جديدة تعطي الأولوية
لبريق السجادة الحمراء لا لقاعات السينما، على عكس ما كان عليه في سنوات
قيادة كارلو الأربع الماضية. فالمهرجان يتجه في المستقبل للبحث عن النجوم
والأضواء، وهو ما يجعل هذه النسخة مميزة باعتبارها الأخيرة لهذا الفريق
المخلص للسينما، قبل الاتجاه إلى نموذج المهرجانات الاعتيادي الذي يُخشى أن
يجعل مهرجان برلين شبيها بسواه، غير قادر على خلق أية قيمة مضافة
يحتاجإليهاالمشهد السينمائي بشدة.
وعود
للمستقبل
الدورة الجديدة هذه هي دعوة لذواقة السينما- نرجوألا تكون
الأخيرة- يعلن المهرجان من خلالها العديد من الأسماء الجديدة على الساحة،
فبالطبع معظم الأفلام هي هدايا مغلفة، لا نعرف عن مخرجيها إلا أسماءهم،
لكنّ هناك أعمالا قد نجزم بأنها ستكون ضمن أفضل الأفلام مع حلول نهاية
العام، وهو ما يصنع الفرق دوما.
نأمل أن يأتي الاحتفاء بقدر قيمة سكورسيزي التي كانت ولا
زالت مساهمة في عالم الأفلام
عربيا هناك أسماء وأفلام واعدة يستقبلها برلين هذا العام،
أبرزها الفيلم التونسي "ماء العين" الذي يشارك في المسابقة الرسمية لمخرجته
مريم جعبور في أول فيلم طويل لها، بعد فيلمها القصير الرائع "إخوان"
(2018)ويهدينا المهرجان كذلك الوثائقي "مذكرات من لبنان" للمخرجة مريم
الحاج في قسم بانوراما، وفيلم المخرج هشام قرداف "في تبجيل البطء" في قسم
فورم، والفيلم الأردني "سكون" لدينا ناصر، المشارك في قسم أجيال.
يقف فيلم "ماء العين" في مواجهة أفلام لأسماء عالمية كبرى
عادة ما تنحصر المنافسة في المسابقة الرسمية بينها، يتصدرها فيلم المخرج
الكوري هونغ سانغ سو "احتياجات المسافر" من بطولة الفرنسية إيزابيل هوبير
في ثالث تعاون بينهما بعد فيلم "في بلاد أخرى" (2012)و"كاميرا كلير"
(2018). وفيلم "دوهيمي" للسنغالية الفرنسية ماتي ديوب (ابنة الموسيقي
الشهير واسيس ديوب، شقيق المخرج السنغالي العملاق جبريل ديوب مامبيتي)،
ويشارك أفريقيا أيضا الموريتاني عبدالرحمن سيساكو، صاحب "تومبكتو"
(2014)والرائع"باماكو" (2006).يعود سيساكو هذا العام مع الفيلم الذي طال
انتظاره وعمل على إنتاجه منذ 2019: "شاي أسود".
أما السينما الأوروبية، فيمثلها في برلين هذا العام عديد من
الأسماء الفرنسية التي تشغل اهتماما كبيرا وتحوز شهرة غير هينة، وأبرزهم
برونو دومونت في فيلم الخيال العلمي "الإمبراطورية" وأوليفييه أسياس بفيلم
"وقت مستبعد".
أما السينمائيون التجريبيون، فإنهم كذلك يحتلونحيزا لا بأس
به هذه الدورة، ابتداء من بن راسل مع فيلمه "فعل مباشر" في القسم المفضل
لدي شخصيا "تقاطعات".
وبعد اعتزال تساي مينغ ليانغ مع "كلاب ضالة" (2012) ثم
عودته في برلين بعدها في"أيام" (2020)، يقدم هذا العام في قسم "نظرة خاصة"
فيلما طويلا آخر من سلسلة أفلام "الماشي"، عن الراهب الذي يمشي ويجول
العالم بخطواته الساكنة، هذه المرة في واشنطن مع فيلم"abiding
nowhere أو
لا يدوم في أي مكان.
وتأتي لجنة التحكيم في المنافسة الرئيسية هذا العام بقيادة
شابة كما جرى العام الماضي، ترأسها الممثلة الأميركية لوبيتا نيونغو، والتي
تتضمن كذلك المخرج الإسباني ألبرت سيرا، الأميركي برادي كوربت، والمخرجة
الهونغ كونغية آن هوي، والألماني العريق كريستيان بيتزولد، والمخرجة
الإيطالية جازمين ترينكا، والكاتبة الأوكرانية أوكسانا زابوتشكو.
وفي سياق مشاركتها في المحافل السينمائية الدولية، تشارك
المملكة في هذه الدورة عبر جناح خاص بهيئة الأفلام، بالشراكة مع فيلم
العلا، والصندوق الثقافي، ومبادرة "استثمر في السعودية"، ومهرجان
البحر الأحمر السينمائي الدولي،
ومركز إثراء، وذلك بهدف التعريف بجهودها في دعم صناعة الأفلام وتطوير
الإنتاج السينمائي، وتنمية المواهب المحلية عبر تشجيعهم للمشاركة في
المهرجانات العالمية.
وختاما، يحتفي المهرجان هذه الدورة بمارتن سكورسيزي، المخرج
الهائل صاحب المسيرة الكبيرة، ونأمل أن يأتي الاحتفاء بقدر قيمة سكورسيزي
التي كانت ولا زالت مساهمة في عالم الأفلام، ورمزا من رموز عشاق
السينماالذينيحتفلون بنوادرها ويعملون دوما على إعادة إحيائها. |