ليس مثل الفن في قدرته على التسلل إلى جوهر الأشياء وتفسير
ما يعجز العقل الواعي عن فهمه. وليس مثل أفلام مارتن سكورسيزي في قدرتها
على الإمساك بتلابيب الروح الأمريكية وفهم طبيعة الشر الذي يتملكها حينا،
ويعذبها حينا.
هذه الروح التي ولدت في أحضان الخطيئة، أو “الخطيئة الأولى
التي أثمرت هذا البلد”. كما يكتب ديفيد جران، مؤلف كتاب “قتلة زهرة القمر”،
الذي اقتبس عنه سكورسيزي فيلمه الأحدث. والذي يحمل الاسم نفسه.
ما أشبه اليوم بالبارحة!
مثل تلميذتها على الجانب الآخر من الأطلنطي، بنيت أمريكا
على فكرة المستوطنات الطفيلية التي يتم زرعها بالقرب من، أو داخل، أراضي
أصحابها الأصليين. واحدة تلو الأخرى، وتهجير وقتل وسرقة أصحاب هذه الأراضي.
بدعوى لم نزل نسمع أصداءها تتردد إلى اليوم: “نشر التحضر في مواجهة
البربرية”.
يروي فيلم “قتلة زهرة القمر”، كما الكتاب، واحدة من مئات،
أو آلاف الوقائع، حول الجريمة الجماعية الممنهجة. التي قام من خلالها
الغزاة البيض باستعمار القارة ونهبها. وهي قصة جرت وقائعها منذ قرن وبضعة
سنوات، في مدينة “فرفاكس”، بمقاطعة “أوساج” بولاية أوكلاهوما.
جريمة دافعها النفط، أو الزيت كما يطلقون عليه. بدأت مع
اكتشاف الإنسان لإمكانية تحويل هذه القذارة السوداء، المسماة بالذهب
الأسود، الصاعدة من باطن الأرض إلى طاقة. والباحثون القدامى عن الذهب في
جبال الغرب الأمريكي. حفارو الذهب كما يطلق عليهم، سرعان ما حولوا الاتجاه.
وراحوا يحفرون بحثا عن النفط، في بعض الأراضي الأمريكية. ثم في الخليج
وبقاع الدنيا الأخرى لاحقا.
هذه الجريمة التي تحمل لون النفط الأسود، التي لم تزل
مستمرة إلى اليوم. ليس من المنتظر أن تتوقف في المستقبل القريب.. كما يؤكد
“قتلة زهرة القمر” في خلاصته الختامية المبتكرة.
بحثا عن الذهب الأسود
وقبل أن نقفز إلى الخاتمة، نعود إلى “فرفاكس”،هذه المدينة،
التي تم تهجير عدد من السكان الأصليين إليها، من المنتمين إلى قبيلة
الأوساج. بعد أن تم طردهم وإجلائهم من عدة ولايات أخرى.
بعد سنوات من استقرار السكان الأصليين في هذه الصحراء التي
تم طردهم إليها. اكتشف الطاردون، لحسرتهم، أن هذه البقعة من الأرض تعوم فوق
حقول من النفط. وبين ليلة وضحاها تحول هؤلاء السكان الفقراء المطرودون إلى
أغنى بشر. ليس في أمريكا فقط، ولكن في العالم كله.
حيث وصل إجمالي دخلهم في عام واحد، 1923 إلى 30 مليون
دولار. أي ما يعادل 400 مليون اليوم (وفقا لكتاب “قتلة زهرة القمر”). ولكن،
كما يقول أحد السكان الأصليين في مشهد من الفيلم: كان يجب أن نعلم أن هذه
الثروة ستأتي معها بأشياء سيئة.
التاريخ المنسي يبعث من جديد
تبدأ وقائع القصة التاريخية، التي يرصدها ديفيد جران،
معتمدا على وثائق غير منشورة للمباحث الفيدرالية ويوميات وشهادات شخصية.
عندما تبدأ واحدة من بنات الأوساج، عقب موت أخواتها الثلاث وأمها، وأفراد
آخرون من أبناء القبيلة. بطرق غامضة، دون أن تبدي السلطات المحلية. في حلقة
بيضاء جهنمية من التواطؤ، أي بادرة للتحقيق في الأمر.
مولي، المتزوجة من رجل أبيض يدعى إرنست بيركهارت، تشعر أيضا
أن زوجها ووالد أطفالها، الذي تزوجته عن حب. عندما كان فقيرا معدما عائدا
من الحرب العالمية الأولى بخفي حنين، يقوم بتسميمها تدريجيا. تسافر مولي
إلى واشنطون، للقاء المسئول عن السكان الأصليين. ثم الرئيس، وتشكو له،
فيكلف مكتب تحقيقات كان قد أنشئ حديثا. سيقدر له أن يتحول إلى “المباحث
الفيدرالية” لاحقا (يحمل الكتاب عنوانا فرعيا هو “اغتيالات الأوساج ومولد
المباحث الفيدرالية”) بالتحقيق في الأمر.
ويتبين أن العقل المدبر وراء هذه الجرائم هو محامي وراعي
مصالح قبيلة الأوساج، ويليام هال. الذي يلقب نفسه بـ”الملك”، بمشاركة عصابة
مكتملة العناصر، من أبناء أخته. ومنهم إرنست زوج مولي، وقتلة محترفين
وأطباء. بل يظهر الفيلم بوضوح لا لبس فيه، أن العصابة تضم مجتمع البيض كله.
الذين جاءوا إلى المدينة بحثا عن عمل لدى شركات وأصحاب البترول. ولكنهم،
بدافع الجشع والعنصرية، يتواطئون لقتل شعب الأوساج ونهب ثرواتهم.
حدوتة الديك والذئاب
في مشهد مبكر من الفيلم، عندما تنشأ قصة حب بين مولي
وإرنست. بمباركة خاله “الملك” الذي يرتب زواج أقاربه ومعارفه من البيض
بنساء هنديات ثم قتلهن للحصول على إرثهن. تقول مولي للصعلوك الأبيض الذي
يعمل سائقا لديها. في إشارة إلى تجربة سابقة مع رجل أبيض: “عندما فتحت
الباب ليدخل الديك.. دخل الذئب!”. غير مدركة أنها فتحت باب بيتها لقطيع من
الذئاب.
من المدهش أن سكورسيزي، المغرم بروي حكايات الذئاب،
والعصابات. كما فعل في “رفاق طيبون” و”كازينو” و”الراحلون” و”عصابات
نيويورك” و”ذئب وول ستريت”. قرر هنا أيضا أن يروي القصة من خلال عيون هذه
الذئاب. وأن يسند أدوارها لممثليه المفضلين: روبرت دي نيرو في شخصية ويليام
هال. وليوناردو دي كابريو في شخصية ابن أخته إرنست بيركهارت.
ولكن الفارق بين “قتلة زهرة القمر” وأفلام عصابات سكورسيزي
الأخرى. أن المجرمين هنا ليس لديهم “كاريزما” القوة والوسامة والذكاء التي
يمتعون بها في أعمال سكورسيزي سابقة الذكر. ولكنهم هنا مجرد قتلة وضيعون
خبثاء، ينجحون فقط لإنهم جزء من نظام ومجتمع متواطئ.
ومن المدهش أن نرى كلا النجمين المحبوبين في مثل هذين
الدورين “الحقيرين”. خاصة دي كابريو الذي يظهر هنا كرجل غبي بلا همة خاضع
لنهمه الذي لا يروى إلى المال. ولخاله الذي يقوم في أحد المشاهد بـ”عبطه”
على مؤخرته مثل الأطفال. لأنه لا يسمم زوجته بالقدر الكافي!
المال أصل الشرور.. وأمريكا
على عكس الكتاب الذي يمجد في الدور الذي لعبه مكتب
التحقيقات الفيدرالية، ويصوغ وقائعه في سرد بوليسي. يكشف سكورسيزي سر
الجرائم منذ البداية. ويبين أن معالمها واضحة ومكشوفة، وأن وراءها نظام
اجتماعي رأسمالي شره. كان قد كشفه بطرق أخرى في “عصابات نيويورك” و”ذئب وول
ستريت”. ليثبت، مرة أخرى، أن حي المال هو أصل كل الشرور، وأن الرأسمالية هي
أكبر جريمة منظمة عرفها التاريخ البشري. وأن أمريكا، وإن لم تكن منبع هذا
النظام، لكنها قلعته الكبرى ومقر إدارته.
وهو ما يتبين في الخاتمة، التي تكسر الحائط الرابع بين
الإيهام القصصي والمشاهد. خاصة الأمريكي، الذي يجد نفسه عاريا، مجبرا على
التفكير في ماضيه وحاضره الإجرامي التعيس. الفيلم، من ناحية أخرى، هو تحية
دافئة ومحبة للسكان الأصليين وحياتهم وتقاليدهم. وتجسد ليلي جلادستون التي
تلعب دور مولي نقطة الارتكاز والتعاطف بأدائها الراقي والجليل والجميل
لشخصية مولي. وسكورسيزي لا يهتم هنا بالبعد التجاري للسينما بقدر ما يهتم
بسرد قصته ورؤيته بصدق وبإيقاع هادئ بطيء. حيث يصل زمن الفيلم إلى ثلاث
ساعات ونصف الساعة.
هذا واحد من أهم وأفضل أفلام العام. ومن أفضل أعمال المبدع
الكبير الذي لا يزال قادرا على إثارة التفكير والشغب رغم تجاوزه الثمانين. |