يحيلنا شعار مؤتمر النقد السينمائي "ما وراء الإطار"
والمقتبس من كتاب أندريه تاركوفسكي "النحت في الزمن"، إلى اعتبار أن
اللامرئي هو المهيمن الأساسي على الصناعة السينمائية وأن التأطير وخلفياته
تخلق دوما حالة جدلية داخل الحقل السينمائي وخارجه، وذلك بضرورة وجود حركة
نقدية موازية للمشهد السينمائي السعودي.
وهو ما سعت إليه هيئة الأفلام التي أطلقت في العاصمة
السعودية الرياض الدورة الأولى من مؤتمر النقد السينمائي في الفترة الممتدة
من 7 إلى 14 من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري والتي جاءت بعد ملتقيات
نظّمتها في مدن مختلفة مثل أبها وتبوك وجدة والظهران.
انطلق المؤتمر كتجربة رائدة تحت هذا العنوان في "قصر
الثقافة" في حي السفارات مع حشد كبير من النقاد من جميع دول العالم وهي
تظاهرة لم يسبق لدولة أن إقامتها من قبل.
وقد أوضح الرئيس التنفيذي لهيئة الأفلام عبد الله آل عياف
ضرورة انعقاد المؤتمر في هذا التوقيت لما له من تأثير على الحركة التي
يشهدها الوسط السينمائي السعودي، إذ يركّز المؤتمر على الوعي النقدي كما
يشجّع المبدعين على تطوير أعمالهم مع المساهمة في بناء جسر تواصل بين صناع
السينما والجمهور مما يعزّز تطور المشهد السينمائي بصورة عامة.
تخضع اشتراكات الرسائل الإخبارية الخاصة بك لقواعد
الخصوصية والشروط
الخاصة بـ “المجلة".
على كل مخرج في أول تجربة له أن يطرح على نفسه هذا السؤال
بجدية: لماذا أصنع الأفلام؟ وعليه حين ينجز أن يضع الحاضر نصب عينيه مع
الأخذ في الاعتبار أن السينما ليست أخبارا وتقارير، فهناك فرق بين أن ترى
العالم وبين أن تصنعه
يسري نصرالله
الكثير يمكن الإشارة إليه في البرمجة الخاصة بالمؤتمر من
المعلومات والتحليلات والنظرة الشمولية لفعالياته، وإلى أي مدى استطاع حقا
في دورته الأولى أن يُقدم النظرة التحليلية الباحثة بين السينما كفن إبداعي
فردي واجتماعي في آن معا وخلفيتها كنتاج صناعي تجاري والوقوف مطولا عند دور
النقد في نهضتها.
ولعلّ من المحطات اللافتة ضمن فعاليات المؤتمر، الكلمة التي
ألقاها المخرج السينمائي المصري يسري نصرالله في افتتاح المؤتمر، خاصة وأنه
من سمات عرض المراحل الانتقالية أنها تفرش بساط التأمل استعدادا للخطوات أو
القفزات المقبلة، ونصرالله صاحب سلسلة من الأفلام النوعية، في تاريخ
السينما المصرية مثل "سرقات صيفية" و"مرسيدس"، و"باب الشمس"، و"القاهرة
منورة بأهلها".
حلّ نصرالله
ضيفا متحدّثا مع رئيس الاتحاد الدولي لنقاد السينما "فيبريسي" الناقد أحمد
شوقي في اليوم الأول من فعاليات المؤتمر قبل عرض فيلمه التسجيلي " صبيان
وبنات" والذي أنتج في منتصف تسعينات القرن الماضي، فسرد لنا بارتجال وعفوية
رحلته من عالم النقد إلى عالم الإخراج السينمائي كنوع من التأمل في عمل
بحثي غايته إلقاء الضوء على نظريات جديدة، مشيرا إلى ما تحقق من مسار تاريخ
السينما حينما كان يشاهد أفلام الدول الصديقة بعد نكسة 67 في المراكز
الثقافية مثلنادي السينما وجمعية الفيلم واتحاد النقاد.
عرض فيلم للمخرج يسري نصرالله
يتساءل
يسري نصرالله: "أين السينما في كتب الأدباء مثل طه حسين ولويس عوض من هذا
البحث الفلسفي؟ ولماذا لم تؤخذ على محمل الجد في النقد؟ هذا السؤال دفعني
للكتابة ومن الكتابة إلى الترجمة كنت أفكر وأكتب وأريد أن أتخلص من كل شيء
عدا انحيازاتي السياسية إنما في السينما محاولة تجديد علاقتي مع هذا الفن،
لكن هذا الانحياز دفعني لاحقا إلى أرض الواقع كي أختار الكاميرا كوسيلة
لقول ما أريد، ذلك أنه يجب على كل مخرج في أول تجربة له أن يطرح على نفسه
هذا السؤال بجدية:لماذا أصنع الأفلام؟ وعليه حين ينجز أن يضع الحاضر نصب
عينيه مع الأخذ في الاعتبار أن السينما ليست أخبارا وتقارير، فهناك فرق بين
أن ترى العالم وبين أن تصنعه، بهذا تتحقق الموازنة الصحية بين النقد و
المنجز الفني".
يركّز المؤتمر على الوعي النقدي كما يشجّع المبدعين على
تطوير أعمالهم مع المساهمة في بناء جسر تواصل بين صناع السينما والجمهور
مما يعزز تطور المشهد السينمائي بصورة عامة
صُحبة النقاد
شهد المؤتمر افتتاح معرض فني مصاحب لجميع الفعاليات حمل
عنوان "تركيبات الأفلام" احتوي عرض مقتطفات وصور من الأفلام العربية
والعالمية حتى تسهّل على محبّي السينما التعرف على كواليس الفيلم قبل
تصديره كمنتج مكتمل.
ومن بين الفعاليات البارزة أيضا في المؤتمر فعالية "صحبة
النقاد"، والتي جمعت عددا غفيرا من النقاد من كل أنحاء العالم ممن شاركوا
في الندوات والورش وحلقات النقاش بصفة يغلب عليها الطابع التكريمي لا الصفة
الوظيفية الفاعلة في برامج المؤتمر، نستثني منهم بعض النقاد الذين أداروا
ندوات ومنهم: الناقدان فراس الماضي وطارق الخواجي من السعودية، والناقد
اللبناني شفيق طبارة، والناقد الكولومبي ريتشارد بينيا، فقد اجتمع هؤلاء
النقاد مع محبي السينما في حلقات نقاشية بعد عرض أفلام لمخرجي السينما
الموازية للسينما التجارية، من قبيل فيلم "ميكروفون" (مصر، 2010)للمخرج
أحمد عبد الله، و"صبيان وبنات" (مصر، 1996) ليسري نصر الله، و"ليلة الجمعة
وصباح السبت" (2007) للمخرج البرازيلي كليبر ميندوسا.
ولعل فعالية "صحبة النقاد" بدت موفقة أكثر من غيرها في أيام
المؤتمر من حيث العرض والطرح مقارنة ببقية الفعاليات مثل "ماستر كلاس"،
"بعيدا عن النقد" و"صحبة فنان" والتي تضاربت عناوينها مع مضمونها، وكذلك
سوء الترجمة أثناء العرض الفني على الشاشة، أما فقرة "ركن النقاد" فقد
تضمنت ندوات بحثية عميقة تستخلص العمل الفني وتكشف الوحدة الداخلية للمتن
الإبداعي لكل مخرج، مثل فيلمEOللمخرج
البولندي جيرزي سكوليموفسكي إنتاج 2022، وفيلم "الطيور" إنتاج 1963 للمخرج
ألفريد هيتشكوك.
ولكن تبقى هناك ثغرة في تنظيم هذه الجلسات، إذ لا تستطيع
عقد جلسة تطرح فيها بناء بحثيا شاملا عن فيلم ما، أكان قديماأمحديثا،لمدة
تتجاوز الساعة مع هامش جيد من المداخلات دون أن تمهّد بعرض مسبق له، مما
يمكن أن يؤدي إلى تشويش الجمهور وإلى تقييم غير دقيق للأفلام، وهو ما ولّد
لدى الحاضرين الشعور بعدم ضمان جودة النقاش بسبب تلك الفجوة الطفيفة بين
الفيلم ومادته النقدية.
يبقى تمني مريدي السينما ونقادها بأن تتطوّر البرمجة في
الدورات المقبلة لكي تعزّز تجربة المشاركين، مما يضع الأساس لنجاحات
مستقبلية متخفّفة من العناوين المضخمة والمربكة
اختيارات
لم يعتمد اختيار الأفلام ومواضيعها كطرح فلسفي أو كعرض
جماهيري في مؤتمر النقد، على قاعدة الأنجح أو الأفضل،فبعضها كانأكثر
استجابة للتجديد في اللغة السينمائية كهم بحثي، وبعضها جاء شارحا لتظاهرة
جماهيرية مثل عرض ومناقشة فيلم"باربي" إنتاج2023.
وإذا ما استثنينا بعض الجلسات التي أضاعت البوصلة بعناوينها
المبهمة مثل جلسة"الفنان المغلق جذريا" للدكتور والباحث جلال توفيق، وجلسة
"السينما السعودية استعمرت بالنقد" تقديم د. هيا الحسين، كذلك جلسة الباحث
أوزغور يارين، عن المسلسلات التركية، كانت هناك جلسات تكمن فيها لعبة الفعل
والتفاعل وهي تتحدث عن السينما من حيث التلقي والتعبير، من بينها ورشة
"برمجة الأفلام" بإدارة بثينة كاظم، مؤسسة "سينما عقيل" وورشة الكاتبة
المصرية جيهان الطاهريعن الاعتبارات الأخلاقية في الأفلام الوثائقية
والأرشيفية عند سعي صناعها إلى تصوير الواقع بكل دقة، ودور النقاد إزاء تلك
الأفلام.
أما الحلقات الحوارية، فكان من أبرزها الجلسة التي أقيمت في
ثالث أيام المؤتمربين الناقدة الأسكتلندية سيوبهان سينوت والناقد والصحفي
التايلندي كونغ رثدي، تحت عنوان "استكشاف المتاهة الإعلامية"، كونها مرتبطة
ارتباطا وثيقا بالحاضر وما آل إليه النقد والناقد أمام هذا الطوفان المفتوح
من المنصات ومواقع التواصل الاجتماعي، و كيف يسعى النقاد الجدد إلى نشر
أسمائهم، مما أدى إلى اختلال موازين النقد، وهو ما يحيلنا إلى التساؤل عن
كيفية التمييز بين الناقد المحترف والهاوي والمدون الانطباعي.
في المحصلة نجح المؤتمر، على الرغم من الهنات التي ترافق
التجارب الأولى عند المخاض، في خلق تلك الحالة الجدلية التي تنتج عن جمع
عدد كبير من النقاد والعاملين في الفن، وتأكيد أهمية السينما بسياقها
التاريخي والاجتماعي وأثرها السيكولوجي كطبيعة ثانية للجمهور.
ويبقى تمنّي مريدي السينما ونقادها بأن تتطوّر البرمجة في
الدورات المقبلة لكي تعزّز تجربة المشاركين، مما يضع الأساس لنجاحات
مستقبلية متخفّفة من العناوين المضخمة والمربكة وذلك بنسج علاقة انسيابية
بين وعي الجمهور وتنمية ذائقته الفنية. |