عشرة أيام في "البحر الأحمر السينمائي" وبين المشاهدين:
السعودية انطلقت والمغرب تألّق وكايج أُخرِج من باب
الطوارئ!
هوفيك حبشيان
اختُتِمت في نهاية الاسبوع الفائت الدورة الثالثة من #مهرجان
البحر الأحمر السينمائي التي
أقيمت من 30 تشرين الثاني إلى 9 كانون الأول، وقد حان زمن تقييم مجمل
الطبعة انطلاقاً ممّا شاهدناه ولمسناه وعشناه طوال الأيام العشرة، جنباً
إلى جنب مع متفرجين من أنحاء العالم كافة. أصر على مفردتي "لمسنا وعشنا"
لقطع الطريق على مَن يصدرون الاحكام الاعتباطية، استناداً إلى بعض الصور
المتداولة على وسائط التواصل، أو من خلال القاء نظرة خاطفة على البرنامج،
أو حتى لدوافع تتعلّق بمواقف إيديولوجية. فأي مهرجان يُعَاش ويُلمَس ولا
يصح تقييمه غيابياً. المهرجانات أماكن وناس وأجواء. ولا شك انها أفلام.
هذه الأيام العشرة حوّلت #جدّة إلى
وجهة سينمائية جديدة للعديد من المهتمين بالفنّ السابع، أكانوا من سكّان
المدينة أم من خارجها، من دون ان ننسى ماذا تعني هذه التظاهرة من "قوة
ناعمة" على مستوى ادخال فنّ جماهيري مؤثّر يحمل ذاكرة البشر منذ أكثر من
قرن وربع قرن، إلى بلاد محافظة اجتماعياً وثقافياً.
عدد غير قليل من الأفلام شارك في المهرجان. أفلام من
القارات الخمس وُزِّعت عروضها بين بقعتين أساسيتين: فندق "ريتز كارلتون"
الفخم، وصالات "فوكس" داخل مجمّع "البحر الأحمر" التجاري. احتضن الفندق
أفلاماً معينة، عروض الـ”غالا” على سبيل المثل، وبعض الأفلام السعودية
والعربية التي كان يتوقع لها جمهور غفير. صالة الفندق الرئيسية استُخدِمت
أيضاً لحفلي الافتتاح والختام (لا أحد اكترث إلى "في النيران"، الفائز
بجائزة أفضل فيلم)، وهي غاية في الأناقة، مع كراس يحلو النوم عليها. لكن،
هذه الأناقة المفرطة من شأنها ان تذكّرنا في كلّ لحظة بأننا داخل فندق لا
داخل سينما. البعض يحبّها، شخصياً فضّلتُ عروض مركز "البحر الأحمر" التجاري
(نحو ثلث ساعة بالسيارة من مقر المهرجان)، حيث مشاهدون من مختلف الطبقات،
الا ان لهذا جوانب سلبية أيضاً، فهؤلاء المشاهدون من الممكن ان يكونوا
مزعجين فعلاً، اذ بعضهم لا يمانع من المجيء إلى العرض بعد ساعة من انطلاق
الفيلم، فيضايقون الآخرين بالهواتف النقّالة والوشوشة، وغيرها من التصرفات
التي ينبغي لادارة المهرجان وضع حدّ لها، أقله عدم السماح للمشاهدين
المتأخرين بالدخول، وهذا عرف معمول به في كلّ المهرجانات.
ما عدا هذه الملاحظة العابرة، فإن متابعة بعض الأفلام وفّرت
لحظات من المتعة الخالصة، ففي نهاية العام نحن في حاجة إلى التقاط ما فاتنا
في العديد من المهرجانات التي شاركنا فيها، وهذا ما ساعدتنا عليه الإدارة
من خلال الإتيان بأفلام من كانّ وبرلين والبندقية وغيرها. لكن، كما ذكرتُ
في مقال سابق، رغم العديد من الأفلام الجيدة، كان يُمكن للبرنامج ان يكون
أكثر تنوعاً وان يردم الهوة بين سياسة المبرمجين وأهوائهم وأذاوقهم من جهة،
وما يطلبه المشاهدون من جهة أخرى، خصوصاً ان المهرجان أصبح له مكانة معينة
في المنطقة صنعها المال والعلاقات، وبالتالي بات الحصول على الأفلام أسهل.
أما الصيت والحضور المتواصل، فهذا ما لا يُمكن شراؤه، ووحده الزمن كفيل
بتأمينه.
*****
قدّم البرنامج 36 فيلماً من السعودية، 9 منها روائي طويل.
بالدعم الرسمي الذي يلقاه منذ بضع سنوات، استطاع المخرجون السعوديون الوصول
إلى هذا العدد القياسي من الأعمال وعرضها داخل مهرجان يمدّ لهم يد العون
وهو في الأخير منصّتهم الأولى. السينيفيلي الذي في داخلي، ذاك الذي ينتمي
إلى كوكب السينما، لا إلى بقعة جغرافية معينة، قادني إلى أفلام بصرف النظر
عن مصدرها، فيما آخرون جاؤوا من الغرب، وجدوا في "البحر الأحمر" فرصة سانحة
للغوص في الأفلام السعودية والعربية، ونقل "مشاكلها وقضاياها" إلى القارئ
كاكتشافات تحثّ على الفضول، كشيء اكزوتيكي لا أكثر.
أياً يكن، انفتاحي على مجمل الأفلام، بصرف النظر عن الأقسام
والهويات، جعلني أشاهد عدداً معيناً من الأفلام السعودية، ويبدو ان حظّي
ساعدني في الوقوع على أفضل ما أُنتِج هذا العام سعودياً (بحسب الكثير من
الآراء التي سمعتها من حولي)، وأقصد به "مندوب الليل" للمخرج علي الكلثمي.
هذا عمل في منتهى الجمال يحملنا إلى ليل الرياض حيث رجل يضطر إلى ان يشتغل
عامل توصيلات، لكن أحواله العاطفية وظروفه المادية ومرض والده، هذا كله
سيزج به في مغامرات يجد نفسه فيها كالغارق في مستنقع. لا مبالغة في القول
ان التاريخ الفعلي للسينما السعودية يجب ان يبدأ بهذا الفيلم الذي يستمد
أهميته من قدرته على البوح عن المجتمع السعودي، من دون ان يأخذ في الحسبان
المحظورات القديمة، لا بل تحمله جرأته إلى تناول موضوع الكحول الذي يُباع
تحت الطاولة بأسعار فلكية. ينطوي الفيلم على كلّ ما يغيب في "هجان" (إنتاج
سعودي) للمصري أبو بكر شوقي، الذي سبق ان قدّم "يوم الدين" (عُرض في مسابقة
كانّ). هذا الفيلم يعطيك الإحساس بأن المخرج لا علاقة عاطفية أو تاريخية
تربطه بالموضوع الذي يصوّره، ولا أعرف ما الفائدة من إخراج دفتر الشيكات من
أجل مشروع سينمائي مصنوع بعقلية سينمائية طواها الزمن. لقد ولت هذه السينما
المعلّبة، خصوصاً اذا كانت موجّهة إلى مجتمع متعطّش لرؤية نفسه وحكاياته
وشؤونه، ولن يسعده هذا العمل البليد والمستهلك التي يفتقر للروح.
فيلم سعودي ثالث قيل فيه الكثير خلال المهرجان: "ناقة"
لمشعل الجاسر الذي لم أشاهده بعد، وهو حالياً معروض على منصّة "نتفليكس".
بهذه الكلمات يقدّم المهرجان الفيلم على صفحته: "بعد أن يوصلها والدها إلى
السوق، تتسلّل سارة بهدوء في موعد على أمل العودة قبل حظر التجول الخاص
بها. ولكن ما بدأ كرحلة هادئة بالسيارة في الصحراء، سيتحوّل إلى مغامرة
غامضة تتضمن حفلة سرية وسيارة معطلة".
في المركز التجاري، بعد عرض "ناقة"، أوقفني مخرج عربي معروف
وعبّر لي عن اعجابه بـ"هجان"، وقال لي إنني سيزيد تقديري له اذا شاهدتُ
"ناقة"، لأن "هجان" هو الرواية والثاني "تكسير" لها، أو شيء ما في هذا
المعنى.
*****
عربياً، كانت 2023 سنة السينما المغربية. عدد من الأفلام
يتراوح مستواها بين الجيد والممتاز عُرض في مهرجانات، بينها كانّ حيث
شاهدنا ثلاثة منها. انتبه "البحر الأحمر" لهذه الطفرة المغربية، والنتيجة:
خمسة أفلام روائية طويلة في ثلاثة أقسام مختلفة. "كواليس" لخليل بنكيران
وعفاف بن محمود (تونسية)؛ "55" لعبد الحي العراقي؛ "أنيماليا" لصوفيا
العلوي؛ "كذب أبيض" لأسماء المدير و"عصابات" لكمال لزرق. بسبب تأخّر عرض
"كذب أبيض" نصف ساعة، وبالتالي تضاربه مع موعد عرض فيلم آخر نويتُ مشاهدته
مهما كلّف الثمن (ولم يخب ظنّي)، اضطررتُ ان أخرج منه بعد 45 دقيقة، وهذا
يعني أني غير قادر على تكوين رأي. أما "أنيماليا" و"عصابات"، فمن الأفلام
التي تستحق احتفاء أوسع من هذه المقالة، كونهما يحملان نضجاً على كلّ
المستويات، وكلٌّ على طريقته.
بسبب بدء العروض في ساعات متأخرة نسبياً، محدودٌ هو عدد
الأفلام التي يمكن مشاهدتها، ولا يتعدى الـ20 حداً أقصى. الفيلمان اللذان
استمتعتُ فيهما بالمعنى الحرفي للكلمة، لا بل شكّلت مشاهدتهما بهجة ونشوة
لا يمكن وصفهما، هما "داخل قذيفة الشرنقة الصفراء" للفييتنامي فام تيين أن،
الذي نال "الكاميرا الذهب" (جائزة أول فيلم) في كانّ الأخير، و"الجانحون"
للأرجنتيني رودريغو مورينو.
في الأول، نتعقّب رحلة شاب إلى الريف من أجل نقل رفات زوجة
أخيه المختفي. يرافقه في الرحلة ابن أخيه الذي يطرح العديد من الأسئلة التي
تختلط بتساؤلاته. يصعب قول أي كلام يختزل هذه الرائعة البصرية عن الحياة
والموت وكلّ شيء يحدث بينهما، يقدّمها المخرج بلغة تأملية واسلوب متمهّل
يحمل المشاهد إلى ذروة المعنى من خلال تفاصيل صغيرة. يا لها من تجربة
نعيشها!
"الجانحون" مختلف عنه كثيراً، ولو تقاطعا في بعض اللحظات.
رجل في منتصف العمر، يقرر ان يسرق المال من المصرف الذي يعمل فيه، لتأمين
مستقبل لا يضطر فيه إلى العمل البتة. "يستلف" بالضبط المبلغ الذي سيجنيه لو
ظلّ يعمل حتى سن التقاعد، ويسلّمه الى زميله على ان يحتفظ به ريثما ينهي
محكوميته في السجن التي تبلغ مدتها الثلاث سنوات ونصف السنة. يبدأ الفيلم
على نحو وينتهي بنحو ثانٍ كلياً، ينتقل من كفّ البطل المضاد إلى كفّ زميله
المعذّب، ومن فيلم "نوع" إلى عمل حر لا حدود له يحتفي بالحياة والحرية
بأبهى طريقة، ولا ينسى القاء تحية على روبير بريسون في مشهد دخول البطل إلى
السينما ومشاهدة فيلم "المال" للمخرج المذكور. اللافت ان الفيلم يحمل
العديد من مَشاهد التعري وممارسة الجنس، وقد عُرضت بالكامل بلا حذف، أما
كيف تلقَّاها بعض المشاهدين، فتلك حكاية أخرى، تنتمي إلى علم السلوكيات
الاجتماعية.
*****
أكثر ما تسلينا به هذا العام في "البحر الأحمر" وكان عنصر
مفاجأة متواصلة، هو وصول عدد من النجوم من دون سابق إنذار. في حين كان عدد
الندوات الحوارية المفترضة 10 لا أكثر، سقطت علينا في آخر يومين أسماء
اضافية، من مثل غوينيث بالترو وأندرو غارفيلد ونيكولاس كايج وهالي بيري
وأدريان برودي، جاؤوا للقاء الجمهور والحديث عن سيرتهم وتجربتهم. ويبدو ان
الاتيان بهم إلى جدّة، بدعم مالي وعلاقاتي، لا يحتاج إلى أكثر من إتصال
بالواتس آب، كما لمّح أحدهم لي ممازحاً خلال حديث جانبي. لكن هذا كله كان
في الأخير لمنفعة الجمهور الذي حضر للاستماع اليهم. وكان لافتاً الجنون
الذي ساد خلال اللقاء مع كايج، اذا تهافت العديد من الهنود، إلى درجة صعب
على الرجل الذي غيّر وجهه بوجه جون ترافولتا، ان يشقّ طريقه إلى مخرج
الطوارئ في نهاية الحصّة. |