“يوم
أحد أبدي”.. هل نحن مرحب بنا في هذا العالم؟
رامي عبد الرازق- فينيسيا
حين أراد بطلنا المراهق كيفين أن يكسر حصار التهميش الذي
تفرضه حوله روما/ المدينة/ الأم، دون سبب واضح، رغم انها من أحضرته-
مجازأً- إلى هذه الحياة، قرر أن يترك أثرا لا يُمحي من ذاكرتها؛ أن يقتل
البابا/ الأب.
هكذا يمكن ان نقرأ المشهد الأخير من فيلم “يوم أحد أبدي” An
Endless Sunday للمخرج
الإيطالي الشاب آلان باروني
Alain Parroni
والحائز على جائزة اتحاد النقاد الدوليين الفيبريسي كأفضل عمل أول وجائزة
لجنة التحكيم الخاصة ضمن فعاليات مسابقة آفاق بالدورة الـ80 لمهرجان
فينيسيا السينمائي الدولي.
في ضوء المشهد الأخير لإطلاق الرصاص على البابا من فوق أحد
الجسور المسوّرة بقضبان تجعل الواقف عليها اقرب للواقف داخل قفص– ضمن حالة
الحصار والتهميش المفروضة على المراهقين الثلاثة أبطال الفيلم- في ضوء هذا
المشهد يمكن ان نتأمل الكثير من التفاصيل التي تناثرت هنا وهناك في سياق
يبدو تشظيا غير مرتب بدقة لكنه خلاق ومؤثر بقدر ما هو صادم وفوضوي.
هل
هو يوم القيامة؟
اختيار يوم الأحد في عنوان الفيلم لا يمكن فصل دلالاته عن
كامل السياق، أو عن المشهد الاخير، فالأحد هو يوم مقدس لدى المسحيين في بلد
يحتوي على قلب المذهب الكاثوليكي النابض بالحب والسلام (الفاتيكان). وهو
اليوم الذي يخرج فيه البابا عقب القداس لتحية شعب الكنيسة البطرسية الذي
يأتي بعضهم من آخر الدنيا من أجل أن يتبرك برؤية الحبر الأعظم. وهو
يوم الإجازة الرسمية في الدولة، واليوم الذي قام فيه يسوع حسب المعتقد
المسيحي بمختلف مذاهبه.
هذا عنوان يذكرنا بعناوين افلام صاحب “الأبدية ويوم”
(أنجلوبولوس)- فالفيلم كله يبدو وكأنه يدور في يوم واحد طويل بلا نهاية
محددة او منتظرة. وكأن أعمار المراهقين الثلاثة تحولت إلى يوم عطلة رسمية
مقدسة، لكنه لا ينتهي ليبدأ أسبوع العمل، وتبدأ معه حياتهم المتوقفة عند
حدود العبث والضياع وفقدان الهوية والأمل.
الحياة تشبه طفلا متعثر الولادة – كما الجنين الذي تحمله
الفتاة في المشهد الأخير وتتعذب وهي تحاول أن تحضره إلى الحياة لكنها
محتجزة في إشارة مرور بلا مساعدة، وهو ما سنعود إليه لاحقا.
يوم
الأحد هو نفس اليوم الذي يقرر فيه المراهقون الثلاثة – الولدان والبنت – أن
يحتفلوا بعيد ميلاد أحدهم عبر اختراق طرقات المدينة بسرعة خارقة كأنهم
يريدون أن يبثوا الروح في شرايينها/ شوارعها الميتة من وجهة نظرهم.
هكذا نراهم في البداية كأنهم انبثقوا من الفراغ، لا نعلم
عنهم أي معلومات تخص خلفياتهم الأسرية، ولا نرى لهم آباء ولا امهات
باستثناء جدة المراهقة الصغيرة التي تستضيفهم في منزلها من أجل أن تتأكد
الفتاة ما إذا كانت حاملا أم لا من صديقها – أو صديقيها كما سنشك فيما بعد!
تبدو
الجدة التي تعيش في ضاحية بعيدة نسبيا عن المدينة كأنها ما تبقى من أسرهم
الغائبة عن قصد، تحمل تراث الجدات الدافئات اللائي لا يملكن سوى محبة مطلقة
لأحفادهن، وعصير خبرات شعبية وإنسانية تبخر من ذاكرة المدينة بحجة الحداثة
ومرور الوقت.
مع
فجر يوم الأحد الذي لا ينتهي، ينفجر إطار السيارة التي تصرخ من سقفها
المفتوح حناجر المراهقين الثلاثة كأنهم يريدون إيقاظ سكان المدينة، هذا
الانفجار هو إرهاصة واضحة لما سوف يصيبهم فيما بعد من عثرات وهزائم، وكأن
القدر والمدينة والحياة نفسها متآمرين عليهم.
أطفال
المدينة
تجدر هنا الإشارة إلى سيطرة تيمة البلوغ
(Coming of age)
على غالبية أفلام مسابقة آفاق بموسترا 80 سواء الأعمال الأولى او غيرها،
وهو ما يفتح طاقة تأمل ذهبية للاستغراق والتورط في السؤال الأهم الذي طرحته
مجموعة التجارب السينمائية القادمة من اركان الكوكب (هل يشعر أبناء الزمن
الحالي بأنهم مرحب بهم في هذا العالم؟)
يطرح فيلم “يوم أحد أبدي” هذا السؤال بمنتهى الوضوح،
والقسوة في قصف وعي المتلقي بعلامة استفهام ليس من السهل الاجابة عليها.
حين تشعر البنت بأنها حامل، تصارح حبيبها الصغير الذي يقرر
أن يبدأ في ممارسة أي عمل من اجل الاستعداد لتكوين أسرة محكوم عليها
بالهشاشة من قبل أن تشكل، يعمل فيما يشبه المزرعة، يخرج بمجموعة من الغنم
كل يوم لكى ترعى في سهول الضواحي، هذه المزرعة الغريبة يملكها رجل
(مافيوزي) غريب الأطوار، يبدو كأنه زعيم عصابة لسرقة السيارات وتفكيكها تحت
ستار مزرعة الحيوانات البدائية التي يديرها والذي يعثر عليه مقتولا في
النهاية- داخل لقطة سريعة- في قاع السلم بمنزل الجدة المقابل للمزرعة
الغريبة.
أين
تبدأ الأزمة تحديدا؟ ونعني بها الأزمة الدرامية التي تشكل كتلة الحبكة
وتدحرجها باتجاه الذروة!
في الحقيقة لا توجد أزمة درامية بالمفهوم التقليد، فالفيلم
كله عبارة عن أزمة وجودية واجتماعية وإنسانية ضخمة تلقي بظلالها على
الشخصيات الثلاث. صحيح أننا يمكن أن نعتبر أن الشكوك التي يبثها الفتى
الثالث في قلب صديقه، بداية للأزمة والانشقاق بينهما – حين لطمه بسؤال حاد
قائلا ومن أدارك أن الذي في رحم حبيبتك هو ابنك انت؟
لكن هذا السؤال الذي يخلق مشكلة بين الاطراف الثلاثة الغضة
لا يمكن اعتباره أزمة بقدر ما هو جزء من عملية الطرح المجازية لفكرة أطفال
المدينة الأيتام.
أن كلا الولدين هما وجهان لعملة واحدة، كأنهما كائن واحد
برأسين، الأول يريد أن يكون أسرة لأنه يفتقد هذا الشعور الجامع الدافئ
ولهذا يفرح بحمل رحم حبيبته الصغير لجنين من صلبه، ويسعى للعمل وتأمين
المال، والثاني متمرد شبق لكل ما هو عبثي وفوضوي وطفولي، فهو لا يترك جدارا
ولا سطحا ولا قائما ولا نائما إلا وعبث به ولوثه بالكتابة او السب أو
الرسم، كأنه يريد أن يترك أثره على بشرة المدينة – تماما مثل صديقه في
المشهد الأخير حين قرر ان يغتال البابا.
السؤال الحاد الذي مزق خاصرة الحبيب ليس سوى إشارة إلى أن
الفتاة ربما تكون حاملا من كلا الولدين، لأنهما كما اشرنا كائن واحد، بل
إنها حين تقرر التمرد على حبيبها بشكل غير مباشر تخرج مع الصديق ويقرران أن
يكسرا جمود التهميش الذي يعيشانه بأن يتركا أثرهما في خلفية صور السواح
الذي تكتظ بهم شرايين المدينة ونوافيرها وميادينها الشهيرة، فنرى في تتابع
لاهث كيف أنهما يتخيرون خلفيات صور السواح ويقفان ليقبلا بعضهما في عنف
وشهوانية وشبق لترك الأثر.
إنهما نموذج لأطفال المدينة الذين يرون في أنفسهم أحق الناس
بالعيش بها والاستمتاع بكل ما تقدمه للغرباء والعابرين في مقابل حرمانهم
منه، وبالتالي يقرران بلا ثرثرة أن يتركا أثرهما بأسهل وأسرع طريقة
يعرفانها؛ القُبل.
قلم
ومدية وجنين
بجانب شفاههم التي تلتقي في قبلات لا تعد ولا تحصى في
الشوارع وعلى الشاطئ وفي السيارة، فإن لأطفال المدينة أدواتهم الاخرى من
أجل ترك الأثر؛ أي القلم الذي يقومون باستخدامه لرسم والإمضاء على الجدران
والمدية التي يحملها الصديق والتي تجرح مسام السيارات والحوائط والاسوار،
كأنه ثمة تعمد لان تنزف المدينة كما ينزفون هم ارواحهم الضائعة ولكن لأن
جلدها سميك فهي لا تشعر بأي من تلك الندوب الباهتة.
ومع نهاية الشهور التعسة وفي يوم أحد أيضا – ربما هو نفسه
يوم الأحد الذي بدأ فيه الفيلم ولم ينتهي- يأتي مخاض البنت الصغيرة بينما
يكون حبيبها قد ذهب لترك الأثر الأكبر وهو قراره العشوائي باغتيال البابا.
ونتيجة لحالة الفوضى التي تعم المدينة يتم اغلاق الشوارع
أمام حركة المرور وبالتالي، يتعطل الصديق ومعه الحامل الصديقة في طريقهم
للمستشفى، ساعتها يهبط من السيارة وترتد إليه طفولته المفتقدة والمفقودة
فيصرخ مستنجدا بركاب السيارات المتوقفة (أرجوكم أريد المساعدة! ساعدوني)
ولما لا يستجيب له أحد يقرر أن يعترف ولأول مرة بالحقيقة المرة التي كانوا
يحاولون دائما أن ينكرونها (عمري 16 سنة فقط واحتاج إلى المساعدة).
هذه العبارة هي استغاثة جيل بأكمله، بل استغاثة طبقة كاملة
من المراهقين حول العالم في هذه اللحظة الزمنية المضنية بالألم.
أما الجنين المتعثر في الولادة فهو أداة أخرى من أدوات ترك
الأثر، وهو أيضا جزء من استمرارية السؤال الذي سبق وأن أشرنا إليه – سؤال
الترحيب الغامض. إن احتفاظ الحبيبين الصغيرين بالجنين القادم داخل رحم
البنت الجديد هو أيضا جزء من رغبتهم في أن يتركوا أثرا على وجه المدينة أو
في ذاكرته، إنه جزء من محاولتهم الاجابة على سؤال: هل نحن ومن بعدنا مرحب
بنا في هذه الحياة وذلك العالم؟
ولأن علامة الاستفهام مفتوحة، فإن اللقطة الأخيرة ليست سوى
نظرة علوية من عين الإله، حيث المدينة المصابة بعسر مروري خارق، وفوضى
غامضة بعد محاولة اغتيال الأب/ رمز الدين المتعالي الملوح دون أثر يذكر على
أنفسهم، هكذا تبقى اللقطة تصعد وتصعد كأنه التخلي السماوي او الوجودي وكأن
ما يحدث في الأسفل لا يخص احدا! رغم أنه في الحقيقة، يخص الجميع. |