لا ضير من عرض أفلام وودي آلن ورومان بولانسكي في كان
والبندقية إن كانت جيدة
هنا في مهرجان البندقية السينمائي، يسرح رجال هوليوود
الأشرار بين محتف بهم ومتودد إليهم على رغم سحب الاتهامات القاتمة التي
تحوم فوق رؤوسهم من حركة #أنا_أيضاً
جيفري ماكناب
هل تتحول مهرجانات الأفلام الأوروبية إلى الملاذ الأخير
للأوغاد المسنين في قطاع السينما؟ هذا سؤال طرحه كثيرون على أنفسهم خلال مهرجان
البندقية السينمائي بنسخته
الـ80 الذي اختتم في عطلة نهاية الأسبوع الماضي. فهم يتساءلون عن سبب
الاستقبال الحار الذي يلقاه حتى الآن مخرجون أو نجوم سينمائيون تشوهت
سمعتهم، في شارع لا كروازيت في كان أو جزيرة ليدو في البندقية. يمنح أشخاص
تلاحقهم مزاعم اغتصاب وتعنيف لزوجاتهم واعتداءات على أطفال فرصة عرض
أفلامهم. ويرسم منظمو المهرجان خطاً فاصلاً بين سمعة هؤلاء في الصحف
الصفراء من جهة، وأعمالهم من جهة أخرى.
وليس رومان
بولانسكي سوى
واحد من الفنانين المخضرمين سيئي السمعة الذين عرضت أفلامهم الجديدة في
البندقية هذا العام. وطرح فيلمه الكوميدي المريع الجديد، "القصر"
The
Palace،
خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي. وانضم إلى المخرج البولندي في ليدو، وودي
آلن الذي
عرض فيلمه الطويل "ضربة
حظ"
Coup
de Chance
المصور باللغة الفرنسية، ولوك بيسون الذي حضر العرض الأول لفيلمه الجديد
والغريب، "دوغمان"
Dogman.
كل واحد من بين هؤلاء المخرجين متورط بدعاوى قانونية فاضحة وفاقعة تتعلق
بحياته الخاصة.
ويعتبر بولانسكي شخصية جدلية إلى أبعد الحدود. ما بعد حركة
#أنا_أيضاً، تجدد تسليط الضوء على اغتصابه فتاة قاصرة اسمها سامنثا غيمر في
سبعينيات القرن الماضي، وفراره من القضاء الأميركي، كما تجدد طرح التساؤلات
إن كان من المناسب الاستمرار بعرض أعماله.
أما آلن، فلا يستطيع التخلص من مزاعم التحرش الجنسي التي
اتهمته بها ديلان فارو ابنة زوجته التي تبناها، مع أنه يستمر بنفي هذه
الادعاءات بشدة. ومن جانبه، واجه بيسون مجموعة من الاتهامات بالاغتصاب.
وتسبب وجود الثلاثي في الليدو بانقسام حاد في الآراء. يرى
بعضهم في انتقاد هؤلاء الفنانين، وهو أقسى بكثير في الولايات المتحدة
والمملكة المتحدة من القارة الأوروبية، دليلاً على النفاق وعلى سرعة مقلقة
في إصدار الأحكام. ففي النهاية، برأ بيسون من الاتهامات كافة الموجهة ضده.
وكرر وودي آلن في مقابلته مع مجلة "فاريتي"
Variety
هذا الأسبوع رداً على سؤاله عن ادعاءات فارو، قوله "خضعت القضية للتحقيق من
قبل. هيئتي تحقيق كبيرتين. وخلصت كل منهما، بعد تحقيقات مطولة ومفصلة، إلى
أن هذه الاتهامات باطلة ولا أساس لها من الصحة".
لقد مر 46 عاماً على واقعة ممارسة الجنس غير القانونية بين
بولانسكي وسامنثا غيمر ذات الـ13 سنة في 1977. أخرج الرجل أفلام عدة، وفاز
بالأوسكار منذ ذلك الوقت، فيما سامحته غيمر نفسها منذ وقت طويل (مع أن
عديداً من النساء غيرها وجهن إليه تهماً، هو ينفيها).
حتى بعد تبرئتهم في المحاكم، أو مسامحة الضحايا لهم، وجد
صانعو الأفلام أنفسهم أشخاصاً منبوذين من فعاليات عدة، ولا سيما تلك في
المملكة المتحدة أو أميركا الشمالية. ومن المعبر جداً أن مهرجاني تورنتو
ولندن لم يختارا أياً من الأفلام التي من أخرجها بيسون أو بولانسكي أو آلن
للعرض (مع أنهما عادة يعرضان أفلاماً بارزة من مهرجان البندقية).
ما زالت المهرجانات السينمائية الأوروبية على قدر كبير من
الاستيعاب والمجاملة. حتى عندما كانت المزاعم الموجهة ضد صناع الأفلام
والممثلين تستند إلى وقائع، لم تسحب الدعوات الموجهة لهم. صدرت في حق جوني
ديب أحكام تشهير متناقضة، أولاً في المملكة المتحدة إذ خسر الدعوى التي
أقامها ضد صحيفة "صن"، على خلفية اتهامها له بتعنيف زوجته، ثم في الولايات
المتحدة، حيث ربح
الدعوى بعدما
صدر أمر بأن تدفع له زوجته السابقة آمبر هيرد تعويضاً لقاء التشهير بسمعته.
لكن على رغم الجدل المحيط به إلى الآن، ما يزال الوجه الإعلاني لعطر
"سوفاج"
Sauvage
الذي ينتجه دار الأزياء الفرنسية "ديور"
Dior
وما يزال يدعى إلى فعاليات سينمائية كبيرة مثل كان وسان سيباستيان.
قدم ديب أداء ساحراً، قاتماً ويغوص في أعماق الذات، عندما
لعب دور ملك فرنسا لويس الـ15 في الفيلم الدرامي التاريخي الفخم "جان
دو باري"
للممثلة والمخرجة مايوين، الذي افتتح به مهرجان كان في مايو (أيار)، ومع
ذلك، امتعض كثيرون من وجوده هناك. كما سافر إلى الريفييرا في أعقاب طلاقه
المرير من هيرد، وسط استمرار تلك الاتهامات بالتعنيف الأسرى. استخف مدير
المهرجان تييري فريمو بهذه الهواجس، ولفت إلى أن أحداً لم يمنع ديب من
التمثيل في فيلم. ولو فعلوا ذلك "ما كنا هنا، نتحدث عن (فيلمه الجديد)".
رداً على سؤال وجهته له "اندبندنت" أخيراً حول خسارة ديب
لمكانته السابقة، شبه تيم بورتون، مخرج فيلم "إيد وود"
Ed
Wood
الذي يتعاون بشكل منتظم معه في مشاريعه، دعاة تطبيق العدالة الأهلية الذين
يعبرون عن سخطهم وامتعاضهم الأخلاقي في الفضاء الإلكتروني ويستهدفون ديب،
بالقرويين الغاضبين في فيلم فرانكنشتاين. وقال "كنت دائماً أرى المجتمع
هكذا، مثل القرية الغاضبة. ترى ذلك بشكل متزايد الآن. إنها دينامية بشرية
غريبة جداً، وصفة إنسانية لا أحبها ولا أفهمها تماماً".
مثل فريمو في كان، لم يشعر مدير مهرجان كان السينمائي،
ألبرتو باربيرا، بأي أسف في شأن استضافة شخصيات تطرح أسماؤها علامات
استفهام كبيرة. وقال لصحيفة "غارديان"، "لست قاضياً أنيطت به مهمة إصدار
حكم حول سوء سلوك أحدهم. أنا ناقد سينمائي، ووظيفتي هي الحكم على نوعية
أفلامه".
لكن الحجة المضادة البديهية هي أن تخصيص مساحة لفنانين مثل
بولانسكي في المهرجانات يعني تأييد سوء سلوكه المزعوم أو الحقيقي واستغلال
السلطة. وهذا يشكل خطراً بتقويض منجزات حركتي #أنا_أيضاً
MeToo#
و#الأوسكار_أبيض_جداً
OscarsSoWhite#
من ناحية تغيير المواقف المتجذرة في القطاع. فما الجدوى من كل ذلك الكلام
عن التنوع والمساواة بين الجنسين في ظل الاحتفاء اليوم بأشخاص اتهموا
بارتكاب انتهاكات جسيمة؟
صحيح أن واينستين المسجون تلاشى من المشهد. لكن الأمر نفسه
لا ينطبق على بولانسكي وآلن. ما يزال صانعا الأفلام هذين يستقطبان
الانتقادات. وفي البندقية الأسبوع الماضي، أثارا تساؤلات صعبة للجمهور
والمعجبين والنقاد على حد سواء.
كان من الصادم أن ترى التناقض بين المزاج الجيد للنقاد
الخارجين من فترة العرض الصباحية للأفلام أمام الصحافة يوم الإثنين بعد
مشاهدة فيلم وودي آلن الجديد من جهة، وسخط المتظاهرين خارج العرض الأول
للفيلم في وقت لاحق من اليوم نفسه. فيما تفاجأ الحشد الأول إيجابياً بدرجة
الفطنة وحس الفكاهة والعمق العاطفي لفيلم "ضربة حظ"، صاح الحشد الثاني
بالمخرج معبرين عن ازدرائهم الصريح له وغضبهم منه.
يرغم بولانسكي وآلن على العمل مع ممولين أوروبيين لأن
الأميركيين لا يقربوهما حتى، يلمح بعض المعلقين إلى أن القطاع في أوروبا
متساهل أكثر بكثير في شأن الأمور الأخلاقية مقارنة بجماعة الأستوديوهات
الأميركيين المتزمتين الذين لا يقبلون أبداً أن يربطوا أنفسهم بنجوم سمعتهم
مشوهة. لكن هذه الفكرة سخيفة تماماً. أذكر أني قابلت الممثل نيك نولتي منذ
سنوات عدة، بعد فترة قصيرة من اعتقاله بتهمة قيادة السيارة على الطريق
السريع على ساحل المحيط الهادئ فيما كان ثملاً. التقطت الشرطة له صورة
جنائية بعد اعتقاله. وتصدرت صورته تلك بمظهره غير المرتب وقميصه المزركش
عناوين الصحف حول العالم. هل شعر بالقلق من التأثير السلبي المحتمل عليه؟
أبداً، كما أجابني بسرور. ما دام الأمر لا يتعلق "بتصرفات إباحية مع أطفال
ولم تقتل أحداً"، لا يكترث الأستديو بما تفعله طالما ما زال قادراً على كسب
المال من خلالك.
عندما ألغت أستوديوهات أمازون اتفاق تصوير فيلم مع آلن عام
2019، زعم عملاق البث أن السبب هو سمعته والتعليقات التي جعلت تسويق أفلامه
كما يجب أمراً مستحيلاً. لكن الرسالة ما بين السطور هي أنه ما عاد بالإمكان
الاستفادة منه مالياً. فالقرار إذاً مالي بقدر ما هو أخلاقي.
إن الأمر الذي يتضح أكثر فأكثر هو التناقض وانعدام المنطق
الظاهر من طرفي الجدال حول أي من صناع الأفلام يجب إقصاؤهم ولماذا. ليس آلن
وبولانسكي وبيسون المخرجين الوحيدين الذين وجهت إليهم ادعاءات خطرة بإساءة
التصرف. إذ كشف أحد الأفلام الأخرى المعروضة في البندقية، وهو وثائقي أخرجه
ماثيو ويلز بعنوان فرانك كابرا: مستر أميركا، عن أن صانع الأفلام الأميركي
من أصول إيطالية الذي أخرج عام 1946 فيلماً عن عيد الميلاد يعد من الأفلام
المفضلة لدى الجميع، وهو "إنها حياة رائعة"
It’s a
Wonderful Life،
كان في الحقيقة عنصرياً كال الإهانات لكل المجموعات العرقية التي يمكن
للمرء تصورها، بما فيها تلك التي ينتمي إليها. هل علينا إلغاؤه كذلك أم
السماح بعرض أفلامه في المهرجانات فحسب؟
ماذا عن أوتو بريمينغر الذي اشتهر بميوله السادية، أو جون
فورد، المتنمر اللئيم الذي من المستبعد تحمل سلوكه في موقع التصوير في
أيامنا هذه، أو هيتشكوك الذي اعتدى على تيبي هيدرين وتحرش بها جنسياً أو
مايكل باول، الذي يعرف بأنه كان يرهب أعضاء فريق العمل أو إنغمار بيرغمان
وفورات غضبه الأسطورية الشهيرة أو برناردو بيرتولوتشي ومعاملته المخزية
للصبية ماريا شنايدر أثناء تصوير فيلم "آخر تانغو في باريس"
Last
Tango in Paris
(1972)؟ اللائحة تطول.
لو نويتم أن تسيروا على مبدأ ثابت في التعامل مع مزاعم سوء
السلوك والتصرفات البغيضة، ستضطرون على الأرجح إلى إلغاء نصف صناع الأفلام
في تاريخ السينما بدءاً بـ دي دبليو غريفيث على أساس عنصريته الصارخة
ووصولاً إلى شخصيات معاصرة مثل بريت راتنر الذي واجه اتهامات عدة بسوء
السلوك الجنسي (وهي اتهامات ينفيها بقوة). وفي الوقت نفسه، يبدو ضرباً من
الجبن عدم إدانة المخرجين عندما يضايقون زملاءهم وأصدقاءهم وأفراد أسرهم أو
يرهبونهم أو يعتدون عليهم أو يستغلونهم.
لا شك أننا بحاجة إلى بعض التوازن ومنظور أوسع الآن؟ حصلت
تغييرات إيجابية هائلة في القطاع السينمائي الأوروبي والأميركي خلال
السنوات الخمس الماضية. أصبحت عضوية أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية،
الهيئة المسؤولة عن التصويت لجائزة الأوسكار، أكثر تنوعاً وعالمية بكثير
مما كانت عليه عام 2016، حين قاطع سبايك لي الفعالية لأن المرشحين كلهم
تقريباً من البيض.
تكلمت المخرجة النمساوية جسيكا هاوزنر (كان العرض الأول
لفيلمها الجديد "نادي زيرو"
Club
Zero
التي تدور أحداثه في بريطانيا في مهرجان كان) أخيراً عن الشوفينية السائدة
التي واجهتها في بداية مسيرتها المهنية قائلة إن هذا السلوك ما عاد مقبولاً
في قطاع السينما الأوروبي. "تحدتنا جميعاً حركة #أنا_أيضاً وبينت لنا أن
هذه السلطة الأبوية موجودة. كنت على وشك أن أنسى ذلك. كنت أعيش في عالم
قررت فيه أن أتقبل الوضع. لكن عندها، ظهرت #أنا_أيضاً وقررت أنني غير مضطرة
ربما إلى القبول به، ولست مجبرة أن أتعايش معه. بالنسبة إلي، فتحت حركة
#أنا_أيضاً عيناي فعلاً وغيرت كثيراً".
لا أحد يريد إلغاء هذه التغييرات لكن لا بد أن يمنح مهرجان
كان والبندقية الحق بعرض أفلام لأمثال بولانسكي وبيسون وآلن إن كانت جيدة
ما فيه الكفاية. لأن البديل هو أن تقع تلك المهرجانات في حفرة لا قعر لها
من الصوابية السياسية، بحيث يتوقف منظمو المهرجان عن الحكم على عمل بحد
ذاته بل يقيمون كل فيلم جديد على أساس القصص الشخصية الملتوية لمن صنعوه.
إن احتكمنا إلى الناحية الجمالية وحدها، فلا شك أنه كان من
الحكمة أن يلقي رئيس مهرجان البندقية السيد باربيرا بكرات فيلم "القصر"
لبولانسكي، وهو ربما أسوأ فيلم أخرجه البولندي على الإطلاق، في بحر
البندقية بدل أن يعرضه على الجمهور. فشراسة الهجوم الذي شنه النقاد على
الفيلم جعلت سلوك الكلاب القاتلة في فيلم التشويق الغريب الذي صوره بيسون
يبدو لطيفاً بالمقارنة. لكنهم في الأقل هذه المرة، كانوا يهاجمون الفيلم
بدل أن يطلقوا هجوماً شخصياً على الرجل الذي صنعه.
© The Independent |