مهرجان البندقية (4):بولانسكي ينتحر...وودي آلن يعود ليودّع
السينما
محمد صبحي
في الجزء الرابع من رسالة مهرجان البندقية السينمائي في
نسخته الـ80، قراءة لفيلمين من بين الأكثر ترقّباً في اختيارات هذا العام،
رغم عرضهما خارج المسابقة، وكلاهما لمخرجين أثارا الجدل وطاردتهما الفضائح
في السنوات الأخيرة. "القصر" لرومان بولانسكي، الذي تدور أحداثه في فندقٍ
سويسري فاخر عشية الاحتفال بدخول الألفية الجديدة؛ و"ضربة حظّ" لوودي آلن،
وهو فيلمه الخمسين وربما الأخير. ورغم أنباء عن أن آلن (المُلاحق باتهامات
بشأن اعتداءات جنسية على ابنته بالتبنّي) لن يأتي إلى ليدو البندقية
لمرافقة العرض العالمي الأول لفيلمه الجديد "ضربة حظّ"، الذي أقيم الإثنين
الماضي، إلا أن المخرج البالغ من العمر 87 عاماً وصل وحضر العرض مرتدياً
زيه المعتاد، قبعة صغيرة ونظارات سميكة.
في العام 2019، انطبع مهرجان البندقية السينمائي بجدلٍ واضح
ودالّ. حينها، اختار مدير المهرجان ألبرتو باربيرا، الفيلم الأخير لرومان
بولانسكي "إنّي أتّهم" كجزء من المنافسة على جائزة الأسد الذهبي. وكانت
رئيسة لجنة التحكيم في تلك الدورة هي الأرجنتينية لوكريثيا مارتل، التي
قالت في المؤتمر الصحافي التقليدي في بداية المهرجان إنها لن تحيّي الرجل
ولا فيلمه، بل إنها فكرت في الاستقالة من منصبها بسبب مشاركة بولانسكي،
المذنب بارتكاب جريمة اغتصاب في العام 1977 ولم يقض بسببها سوى جزء صغير من
عقوبته قبل فراره من الولايات المتحدة واستقراره في فرنسا التي اتخذها ملجأ
ووطناً.
وما زاد الأمور تعقيداً أن بولانسكي ــ الذي لا يستطيع أن
يطأ إيطاليا لأن لديها معاهدة لتسليم المجرمين الهاربين مع الولايات
المتحدة ــ أرسل إلى المهرجان فيلماً أكثر من جيّد، رأى فيه البعض مرافعة
فنّية للدفاع عن نفسه. وبالتالي، دارت المداولات داخل لجنة التحكيم حول
قرارٍ صعب يتعلّق بمنح جائزة لشخص اغتصب قاصراً منذ عقود. الجدل الأبدي حول
ضرورة الفصل بين الفنّان وعمله، والذي عارضته مارتل بشكل واضح، تجسّد في
شكل أسد ذهبي محتمل. وفي النهاية، ذهب "الأسد الذهبي" إلى فيلم "جوكر"،
الذي دخل التاريخ كأول فيلم بطل خارق يفوز بأعلى وسام في مهرجان سينمائي
كبير. وهكذا، استقر الأمر بفيلم بولانسكي متوّجاً بالجائزة الكبرى (ثاني
جوائز المهرجان) بالإضافة إلى جائزة النقاد الدوليين.
ورغم ذلك، يواصل مدير المهرجان ألبرتو باربيرا الوقوف إلى
جانب بولانسكي كفنان. في الحقيقة، يحبّ باربيرا إثارة الجدل، وإذا كان هناك
مَن اعتقد أنه بعد ذلك العام سيتوقف عن جلب أفلام بولانسكي إلى ساحل
الليدو، فقد ثبت أنه مخطئ. عند الإعلان عن أفلام هذه الدورة الثمانين كان
"القصر"، الفيلم الجديد للمخرج البولندي، حاضراً ضمن لوائح العناوين
المرتقبة. وبطبيعة الحال، بُرمج خارج المسابقة الرسمية.
تباينت التكهنات حول القرار، بشأن ما إذا كان السبب يتعلّق
بحماية لجنة التحكيم وإعفائها من القرار الصعب بشأن ما يجب فعله عند
المداولة، أم لأن الفيلم لم يكن جيداً بما يكفي للمنافسة على جائزة الأسد
الذهبي. الآن، بعد مشاهدة الفيلم، اتضح أنّ الاحتمال الأخير هو الأقرب إلى
الحقيقة.
مع "القصر"، يعود بولانسكي إلى الكوميديا، التي قدّم فيها
أعمالاً مبكرة مسلّية مثل
"قتلة
مصّاصي الدماء الشجعان" (1967). والفيلم، الذي شارك في كتابته مع صديقه جيرزي
سكوليموفسكي وإيفا
بياسكوفسكا، يأتي هجاءً حاداً ضد فئة الـ1% تقع أحداثه ليلة رأس السنة
الجديدة لعام 2000، لكنه يأتي بطريقة مبسَّطة وسهلة وأحياناً قديمة وبالية.
يبدأ الفيلم بشكل واعد، بلقطة متسلسلة لمدير الفندق وهو يوجّه موظفيه حول
كيفية إرضاء الضيوف، وهو مشهد مشابه جداً للمشهد الذي شوهد قبل عامٍ في
"مثلث
حزن"
للسويدي روبن أوستلوند، الفائز بسعفة "كانّ" الذهبية العام الماضي.
الحضور الوثيق للفيلم السويدي يلحق الضرر بعمل بولانسكي. ما
كان في فيلم أوستلوند أنياباً ودماء فاسدة يستحيل هنا حيلاً ومزحات مؤذية
ومنفرة. حتى في جماليات البراز والقيء (المألوفة في هجائيات الأثرياء)، لا
بدّ للفنّان من ابتكار اقتراحات ترفد خطابه الساخر، وقد أثبت أوستلوند ذلك
من خلال مشهد طويل للغاية (أحد أفضل مشاهد فيلمه في الحقيقة) حيث قام
حرفياً بتحميم الاثرياء المجتمعين على اليخت بقيئهم. هناك قيء وبراز في
فيلم بولانسكي أيضاً، لكنه ليس مضحكاً بالمرّة.
لكن هناك ضحكات في مواضع أخرى من "القصر"، لأن الفيلم، في
حقيقة الأمر، يملك مادة خام هائلة لسبك هجائية عظيمة. هؤلاء النساء
المريضات الباحثات عن جمال أبدي ويطاردن جرَّاحهن في الفندق الفاخر.
المليونير العجوز مع زوجته الشابّة. بل إن هناك بعض الأفكار الجيّدة
للغاية، مثل هؤلاء الأوليغارشيين الروس الذين شاهدوا على شاشة التلفزيون
استقالة يلتسين واستيلاء بوتين على السلطة. هناك، يكتسب الفيلم مظهره
الأكثر سياسية وذكاءً. منذ أكثر من 20 عاماً ونحن نضحك على الأثرياء الروس،
والآن نأسف على العواقب. هناك عدد قليل من الممثلين في هذا الفيلم يعرفون
كيف يضحكوننا على الأثرياء الهمجيين، مثل جون كليز، الذي يستطيع أن يثير
الضحك بلفتة واحدة في أحد أكثر المشاهد المضحكة في الفيلم.
لكن، في الأخير، ما يتبقّى هو شعور بأن بولانسكي لم يدرك أن
العالم تغيّر، وأن ما كان مضحكاً قبل 30 عاماً صار مجرد صدى فارغ. لم تعد
مضحكة تلك النكتة حول خدمة جنسية فموية مقابل قلادة من الماس؛ لم يعد غائط
الكلب كريه الرائحة يصيب هدفه المفترض؛ ولم يعد المزاح حول ممارسة العارضات
الروسيات للجنس مع السادة الأثرياء الأكبر سناً أمراً له مغزاه الكبير. أو،
على الأقل، لا تثمر مثل هذه المحاولات التهكمية عندما يذهب كل شيء آخر في
الفيلم إلى لامكان. ربما لهذا السبب تدور أحداث الفيلم في نهاية العام
1999، وهو عالم وزمن ربما يكون فيه "القصر" أكثر تسلية.
قبل أيام، نشرت مجلة "هوليوود ريبورتر" المتخصصة مقالاً
تساءلت فيه عن كيفية تعامل الصحافيين مع علاقة البندقية-بولانسكي. تجاهلها؟
إثارة الجدل؟ والحقيقة أن الجواب غير ضروري تقريباً مع "القصر"، لأن الفيلم
يثبت أن هناك سبباً خفياً وراء دعوات باربيرا المتكررة لـ"صديقه الفنان".
فالسؤال الحقيقي الواجب طرحه يجب أن يكون التالي: ما الذي تفعله مثل هذه
الكوميديا التهريجية في مهرجانٍ جادٍ كهذا؟. هذا فيلم بمثابة انتحار
سينمائي، يكتب خاتمة سيئة لفنّان كان كبيراً في ما مضى.
"ضربة
حظّ".. عودة وداعية؟
استقبال مختلف واقتراح مغاير حضرا مع فيلم وودي آلن الجديد
"ضربة حظّ". آخر أفلام آلن لم تكن في المستوى. "يوم ممطر في نيويورك"
(2019)، مع تيموثي شالاميه وسيلينا غوميز، لم يكن سيئاً للغاية، لكن
"مهرجان ريفكين" (2020)، الذي صوُّر في مهرجان سان سيباستيان السينمائي،
كان كوميديا فاشلة وزلّة حقيقية من سينمائي قدّم سابقاً حفنة من
الكلاسيكيات السينمائية المعتبرة.
هل يعدّ "ضربة حظّ" عودة إلى أفضل لحظاته كمخرج؟ في بعض
الأحيان، نعم. إنه كوميديا غموض وتشويق تدين بالكثير لفيلمه
Matchpoint (2005)،
مع سكارليت جوهانسون وجوناثان ريس مايرز، حيث أن المواضيع هي نفسها: الحظّ
والقدر والخطيئة والخيانة. في الفيلم الجديد، يقوم رجل بتتبع زوجته
الجذّابة لاشتباهه في أن لها علاقة غرامية برجلٍ آخر. وإذا كان تقليد الذات
هو الأسلوب، كما قال ألفريد هيتشكوك ذات يوم، فلا يمكن لأحد لوم آلن على
معاودة خطواته السابقة.
ردود الأفعال والاستجابات بدأت في العرض الصحافي الأول
للفيلم، حيث ضجّت القاعة بالتصفيق بمجرد ظهور اسم آلن على الشاشة في
التترات الافتتاحية، وتعالت التصفيقات في الختام أيضاً.
فاني (لو دي لاج) هي بطلة هذا الفيلم الناطق بالفرنسية،
والمصوَّر في العاصمة الفرنسية باريس وحولها (بسبب الادعاءات ضد المخرج، لم
يستطع تمويل الفيلم أميركياً). في صباح أحد الأيام التقت بآلان (نيلز
شنايدر)، وهو زميل سابق في المدرسة الثانوية. سرعان ما أخبرها آلان أنه
أحبّها سراً في المدرسة. إنه في باريس لأنه يؤلّف كتاباً، ويرتّبان للقاء
مرة أخرى.
فاني، التي تعمل في دار مزادات، متزوجة من جين (ميلفيل
بوبو). من غير الواضح كيف أصبح مليونيراً، لكن فاني تعلم أن زوجها "يجعل
الأغنياء أكثر ثراءً". هل سئمت فاني من زوجها؟ هل تريد حياة أخرى؟ لماذا
توافق على الذهاب لتناول الغداء والحصول على وردة وممارسة الحب مع زميلها
السابق في المدرسة؟ هل سئمت من غيرة جان، وترى فرصة جديدة مع آلان؟
"ضربة
حظّ" ليس عملاً فنيًا ثوريًا، لكنه يشهد على قدرة آلن غير المنقوصة على سرد
القصص اقتصادياً، ورسم أوساط وبيئات من مجرّد بضع لقطات وتوجيه ملائم
لممثليه. إنه لغز كوميدي، وسيشمل جريمة قتل (لا يصحّ أن نكشف عن هوية
المقتول)، ومن تلك اللحظة يبدأ الفيلم في التطوّر. يصبح أكثر ثراءً وعمقاً،
ويثير دسائس ومؤامرات، ويضعنا إلى جانب إحدى الشخصيات المركزية في الفيلم.
وفي النهاية، يحقق نوعاً من العدالة الشعرية، بفضل الصدفة التي يؤمن آلن
بلعبها دوراً مهماً في حياتنا.
فيتوريو ستورارو، المصوّر السينمائي العظيم لفيلم "القيامة
الآن" هو الاسم الوحيد - إلى جانب ليتي أرونسون، منتجة الفيلم والأخت
الصغرى للمخرج - من بين متعاوني آلن المعتادين الذين يظهرون في الفيلم.
وكانت الاتهامات بالاعتداء الجنسي من قبل ابنته ديلان فارو
(تمت تبرئته مرتين من الذنب) قد أبعدت أي منتج أميركي من تمويل مشاريع وودي
آلن داخل أميركا. "ضربة حظّ" هو الفيلم الرقم 50 في مشواره الفني، ومن
المحتمل أن يكون الأخير. |