مهرجان البندقية (3): جنس وميلودراما ومقاومة إيرانية
محمد صبحي
معروف أن كل فنان أميركي يلعب دور البطولة في فيلمٍ ضمن
مهرجان البندقية، سيصبح شخصية يصعب نسيانها. حدث هذا مع آدم درايفر في دور
إنزو فيراري في "فيراري"، مثلما حدث بعدها بيومٍ واحد مع مواطنته إيما ستون
في فيلم "كائنات مسكينة" لليوناني يورغوس لانثيموس، الذي أظهر نفسه كأحد
المنافسين الأقوياء على الجائزة الكبرى للمهرجان.
تراهن الممثلة الفائزة بجائزة أوسكار عن فيلم "لا لا لاند"
(2016) على أدوارٍ قوية وطازجة وجريئة. في جديد المخرج اليوناني، نراها
تجسّد شخصية بيلا باكستر، الشهوانية والمشوَّهة، شابّة حامل تقفز في مياه
نهر التايمز من فوق جسر وتغرق وتموت. لكن جرّاحاً (غودوين باكستر، الذي
يلعبه ويليام دافو) يعثر عليها، وينقذها، ويعيدها إلى الحياة. كيف؟ حسناً،
لقد أخرج مخّها ووضع مكانه مخّ الطفل الذي في رحمها. تواصل بيلا حياتها،
لكن ليس لجسدها أي علاقة بدماغها، لذا يجب عليها أن تتعلّم من جديد التحدّث
والتواصل والتعرّف على ما هو صحيح سياسياً واجتماعياً. الأمر ليس سهلاً،
خاصة عندما تكون محاطة برعاية باكستر، ذي الوجه المشوّه الذي أنشأ/ خلق من
حولها أيضاً مجموعات مختلفة من الحيوانات (رأس خنزير، وجسم أوزة، من بين
أشياء أخرى).
بيلا، على سبيل المثال، تتعلّم معرفة المتعة الجنسية عن
طريق إدخال الفاكهة في مهبلها. باكستر، الذي أجرى والده جميع أنواع التجارب
عليه عندما كان طفلاً، يستأجر طالباً لمساعدته. نعم، هناك الكثير من روح
حكاية فرانكشتاين في هذا الفيلم المقتبس من رواية للكاتب الإسكتلندي
ألازدير غراي صدرت في العام 2013.
لطالما كانت السينما مكاناً أليفاً لمخلوقات الليل؛ بنهمها
ومأساويتها اللذين يجلبان رغباتنا ومخاوفنا إلى السطح. انتقل استوديو
يونيفرسال إلى الأفلام الناطقة في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين من
خلال مخلوقات الرعب: دراكولا، فرانكشتاين، المومياء، الرجل الخفي. في فيلم
الرعب، اجتمعت عوامل الجذب في السينما والدراما المبكرة؛ ولم تميّز الصور
المتحركة بين الجميل والوحشي. يتمتع مهرجان "البندقية" أيضاً بقلبٍ مفتوح
على الوحوش، على الأقل منذ فاز غييرمو ديل تورو بجائزة الأسد الذهبي هنا في
العام 2017 عن فيلم
"شكل
الماء".
ويمكن للمخرج المكسيكي أن يجد خلفاً يفوقه هذا العام ممثلاً في يورغوس
لانثيموس، الذي تستفيد نسخته الفرانكنشتاينية "كائنات مسكينة" أيضاً من
عمران وأدوات "الرعب العالمي"، في قصة معاصرة عن الإرادة الحرّة (الأنثوية)
في مجتمعٍ أبوي، قصّة لا تتوقف عن التلوّي والاضطراب بشكل مثير للدهشة في
مسارات جانبية متعرّجة.
بيلا باكستر، المولودة من جديد على يدّ طبيب عبقري وغريب،
تنتقل من كونها "موضوعاً بحثياً" إلى كائن يملك وعياً خاصاً ورغبة جنسية لا
تشبع. يعمل الجنس، إلى حد ما، كنظام مكافأة لكي تصبح ذاتاً، كما تعلّمت من
الرجال في حياتها (وأبرزهم مارك روفالو، في دور "مفترس جنسي" غبي ومخادع).
إلا إنها تبدأ باكراً في الشكّ في أنه خارج حدود التحكّم الذكوري، ثمة عالم
جديد ينتظرها. متعطشةً للدنيوية التي تفتقر إليها، تهرب بيلا مع دنكان
ويديربيرن (مارك روفالو)، المحامي التقدمي والشرير، في مغامرة عاصفة عبر
القارات. متحرّرةً من الأحكام المسبقة لعصرها، تصبح بيلا ثابتة في تصميمها
على الدفاع عن المساواة والتحرّر.
صحيح أن الفيلم مستوحي من نصّ لم يكتبه المخرج، لكن
لانثيموس يغربله بكل ما يعرفه ويُنادى به ويُنتقد عليه. من الناحية
الجمالية، تصميم المواقع والتصوير (بالأبيض والأسود والألوان) مذهل حقاً.
ومن الناحية الأسلوبية، فهو، مثل "المفضلة" - حيث عملت ستون مع لانثيموس -
أو "جراد البحر" أو "قتل غزال مقدّس" أو "ناب الكلب". وهذا يعني: عوالم
سوريالية مصغّرة (المدن تقع في مكان ما بين المستقبلي والماضي) وذوق مائل
صوب المروّع والغريب، سواء من الناحية الجنسية أو الدرامية. حتى الواقع
الأبيض والأسود للندن الفيكتورية (حيث تدور الأحداث)، بعيداً من تأثير والد
بيلا بالتبنّي، يتحوّل إلى فيلم ملوّن فائق الجودة لم يكن من الممكن أن
يتخيّله ويس أندرسون والشابّ تيم بيرتون بشكل أكثر جمالاً.
لانثيموس، المتوّج هنا في "البندقية" بجائزة الإخراج لعام
2018 عن فيلم "المفضّلة"، تفوَّق على نفسه مرة أخرى بفيلمه "كائنات
مسكينة". بدورها، تثبت إيما ستون أيضاً من جديد أن روح الدعابة الجافة
والوجودية للمخرج اليوناني - أحياناً غريبة الأطوار، وأحياناً أخرى عميقة -
تستخرج تعبيرات وأداءات من النوع الفاخر: سواء كانت تمارس الجنس مع خيارة
أو في لحظة إدراكها أن القسوة والجمال في الحياة يعتمدان على بعضهما البعض.
لم يُر على الشاشة من قبل وحش سينمائي مثل بيلا باكستر، وبهذا الدور تضع
إيما ستون نفسها في لائحة الفائزات المحتملات بجائزة التمثيل، سواء في ختام
المهرجان أو في موسم الجوائز الأميركية المرتقب.
الفجر، أخيراً
بالإضافة إلى فيلم "كائنات مسكينة"، عُرض فيلمان آخران
يتنافسان على جائزة الأسد الذهبي. الأول، إيطالي بعنوان "وأخيراً الفجر"،
للمخرج سافيريو كوستانزو، وهو عبارة عن دراما مطوّلة وأسئلة لا تنتهي.
حبكته مألوفة لكن سخيفة، تماماً مثل الفيلم. في روما في الخمسينيات من
القرن الماضي، عندما كانت تصوّر العديد من إنتاجات هوليوود في إيطاليا،
ذهبت شقيقتان إلى ستديوهات سينيسيتا في اختبار أداء للمشاركة في دور صغير
ضمن أحد تلك الأفلام.
لا يقع الاختيار على ميموزا (ريبيكا أنتوناسي) في البداية،
لكنها عندما التقت في ردهة الاستوديو مع جوزفين إسبرانتو، النجمة الأميركية
التي أعطتها ليلي جيمس وجهها وخلوها من الكاريزما، طلبت أن يتمّ تضمينها في
فيلمها الذي تصوّره حالياً والدائرة قصّتة حول فرعون مصري قديم. لا مجال
للسؤال عن كيف أو لماذا فعلت ذلك، لكنها في نهاية التصوير تعطيها فستاناً
وحذاء، وتذهب ميموزا لقضاء ليلة جنونية في حفلة بعيداً عن روما، مع جوزفين
وممثل آخر (جو كيري) وويليام دافو (في دورٍ باهت للاسف). ما سيلي ذلك:
اعتداء جنسي، وكوكايين، وأكاذيب وخيانات، واكتشاف للذات؛ كل ذلك يأتي
مرفوقاً بحواراتٍ تسبّب الضحك أكثر من أي شيء آخر.
في نهاية العرض، كانت صيحات الاستهجان المسموعة من
جمهورالصالة صادقة وملائمة.
أحلام بسيطة وعنيفة
ردّ الفعل كان مختلفاً بعد الفيلم الدنماركي "أبناء الزنا"
(أو "الأرض الموعودة" في العنوان الإنكليزي)، للمخرج نيكولاي أرسيل، وبطولة
مادس ميكلسن الذي يلعب دور لودفيغ كالين، عسكري سابق فقير انطلق في العام
1755 لغزو البرية الدنماركية القاسية وغير المضيافة بهدف يبدو مستحيلاً:
إنشاء مستعمرة باسم الملك، يزرع فيها البطاطس. وفي المقابل، سيحصل على
تشريف ملكي يتوق إليه بشدة.
إلا إن الأمور لن تكون سهلة بتاتاً، بدءاً من الموقع
المختار الذي يطاوله الجفاف في كلّ جانب. أيضاً، حاكم المقاطعة، فريدريك دو
شينكل، رجلٌ متغطرس لا يعرف الرحمة؛ بما في ذلك اغتصاب الخادمات، وإحراق
مَن يهربون من العمل أحياء، وادّعاء أن الأرض ملك له. في النتيجة، يحيل
الحياة بؤساً بالنسبة إلى لودفيغ كالين ومَن حوله. وتأتيه الفرصة الكبيرة
حين يعلم أن خادمته آن باربرا وزوجها (كلاهما من عبيده) قد هربا للاحتماء
لدى كالين، يقسم على الانتقام ويعد ببذل كل ما في وسعه لإبعاد الرجل. لكن
كالين لا يخشاه ويخوض معركة غير متكافئة لدرجة تعريض حياته للخطر، وحتى
حياة عائلة المهمّشين التي تشكلت من حوله.
الفيلم مبني على قصة حقيقية، قاسية جداً في بعض الأحيان، إذ
يقدّم مزيجاً من الأكشن والعنف، وخيانة القصر، والرومانسية، والميلودراما
العائلية؛ مزيجاً محسوباً بعناية لإرضاء أكبر عدد ممكن من الجمهور، ويجب
الشهادة بفضل أرسيل، المخرج العائد للعمل في وطنه، في إنجاز هذا الفيلم
الذي يملك رائحة تشبه رائحة الأوسكار. هو مثال نموذجي لتلك السينما
الأوروبية الصلبة، بإنتاجٍ فعال وسيناريو ملتزم. فيلمٌ يعرف ما يريد،
ويحقّقه بالمناجل.
أيضاً، يجب الإشادة بأداء مادس ميكلسن، أحد أفضل الممثلين
الأوروبيين في جيله. يعود الممثل الذي تحوَّل من لعب دور الرجل السيئ في
فيلم
"إنديانا
جونز"
الأخير إلى الانضواء في جلد شخصية لا يملك المتفرّج سوى التعاطف معها، كما
هو الحال في الأفلام
التي يصوّرها في بلده الأمّ.
يتوق كالين إلى تحقيق حلمٍ بسيط، هو الذي لم يحصل على أي شيء منذ أن كان
طفلاً (وهو أحد "أبناء الزنا" المُشار إليهم في العنوان الأصلي). مثلما
يؤكّد الفيلم، المثابرة ستؤتي ثمارها، كما يقول المثل، وفي واحدة من تلك
المحاولات ربما ينتهي الأمر بهذا الفيلم متوّجاً بإحدى الجوائز يوم السبت 9
أيلول/سبتمبر.
ويس أندرسون، باختصار
من ناحية أخرى، قال ويس أندرسون، الحاضر هنا بفيلمه القصير
"القصة الرائعة لهنري شوجر"، المأخوذ عن قصة للكاتب روالد دال، في المؤتمر
الصحافي لفيلمه الذي تبلغ مدته 37 دقيقة، إنه سيقوم بإنجاز ثلاثة أفلام
قصيرة أخرى مأخوذة من قصص قصيرة للكاتب البريطاني. وقال المخرج الذي اصطحب
في أيار/مايو الماضي فيلمه الطويل "مدينة الكويكب" إلى مهرجان "كانّ":
"إنها جميعها حكايات غريبة للغاية. لدي بعض الأشياء في طور الإعداد".
يلعب رالف فينيس، وبن كينجسلي، وبينديكت كومبرباتش، وروبرت
فريند، وديف باتل، وريتشارد أيواد أدواراً مختلفة في الفيلم القصير، الذي
يحافظ على الأسلوب المميّز لمخرج "فندق بودابست الكبير"؛ مع حوارات تدور
على السرعة القصوى، وأجواء الخمسينيات، وشخصيات تتحدث غالباً إلى الكاميرا.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها أندرسون باقتباس أحد أعمال مؤلف
"تشارلي ومصنع الشوكولاتة"، إذ استعان به سابقاً في فيلمه الكوميدي "مستر
فوكس الرائع"، وحقق ترشيحاً لجائزة الأوسكار عن فئته.
وفي ما يتعلق بالجدل الأنغلوأميركي الذي نشأ بعد إعادة
تحرير وتنقيح أعمال دال لإزالة اللغة التي اُعتبرت "مسيئة"، كان المخرج
واضحاً: "لا أريد حتى أن يقوم الفنان بتعديل عمله. أنا أفهم الدافع وراء
ذلك، لكنني واحد من أولئك الذين، عندما يكتمل العمل ويقبله الجمهور،
أستقبله كما هو. أعتقد أن ما حدث قد حدث... وبالتأكيد، لا ينبغي لأحد غير
المؤلف أن يعدّل عمله؛ وقد مات دال". ومن المقرر عرض فيلم "القصة الرائعة
لهنري شوجر"، في "نتفليكس" يوم 27 أيلول/سبتمبر الجاري.
إيرانيون أحرار
في مقلبٍ مختلف تماماً، وفي افتتاح قسم "أيام البندقية"
(Giornate degli Autori)،
والذي يحتفل بالذكرى السنوية العشرين لتأسيسه هذا العام، ظهرت في الشاشة
مقاومة معاصرة مهمة. هذا العام، اختار القسم الجانبي والمستقل لبرمجته ثيمة
الرحلة بحثاً عن الهوية، والتي غالباً ما تكون خارج منطقة الراحة الشخصية
للفرد، لكنها ضرورية للنمو ومحاولة تغيير العالم وربما جعله أفضل. يحدث هذا
لمخرج إيطالي يذهب إلى كوبا لتصوير فيلمه الأول (توماسو سانتامبروجيو
وفيلمه المعنون "المحيطات هي القارات الحقيقية")، ويحدث أيضاً لفنّان
إيراني يعود من ألمانيا (حيث يعيش) إلى وطنه الأمّ لينجز فيلماً فيجد نفسه
منغمساً في الواقع الحالي للبلاد.
الفيلم بعنوان "ستشرق الشمس"، وهو إنتاج فرنسي إيراني
مشترك، ويمكن تعريفه بوصفه "سينما سياسية تجريبية" تتجاوز التصنيفات
المعتادة؛ فهو عمل مبتكر، وربما صعب، لكنه غني جداً بأبعاده المسرحية
والاجتماعية والسياسية والفلسفية. وفيه يصحبنا المخرج آيات نجفي (1976) إلى
مسرحٍ في إيران، وتحديداً إلى بروفات مسرحية يحاول تقديمها مع ممثلات
إيرانيات شابّات. شرع المخرج والممثلون في تكييف مسرحية أريستوفانيس
الهزلية "ليسستراتا"، المكتوبة قبل حوالى 2500 عام، والتي تدور حول تمرّد
نساء قرّرن معاقبة أزواجهن المحاربين العنيفين بالإضراب عن ممارسة الجنس
معهم؛ لتتواءم مع النضال المعاصر للنساء الإيرانيات. مظاهرات الشوارع التي
تندلع أثناء التدريبات المسرحية (بعد مقتل مهسا أميني) ستجبر المخرج
والممثلات (اللائي لا نرى وجوههن أبداً في أي مشهد من الفيلم) على مساءلة
أنفسهن ومناقشة موقفهن. يتشابك المسرح مع الحياة الواقعية، ويبدأ الجميع في
مناقشة مكانتهم ودورهم في المقاومة الاجتماعية...
نجفي، القادم بالأساس من عالم المسرح، مثال جيّد على
السينما الإبداعية المقاومة في نسختها الإيرانية. فيلمه التسجيلي يدعو
الجمهور للتورّط في معايشة ما يضطر الإيرانيون (والفنانون منهم بالأخصّ)
لمكابدته تحدت وطأة شرطة الأخلاق، والعنف والقمع المتزايدين لنظام الملالي
المحافظ. يقول نجفي في المؤتمر الصحافي للفيلم: "هناك أفلام تتمنى ألا تضطر
إلى إنتاجها أبداً. وهناك أفلام تظلّ دائماً في أحلامك. "ستشرق الشمس" على
حدّ سواء بالنسبة إلي. لقد صوّرناه في ظروف صعبة جداً. من ناحية أخرى، كنت
تمتعت بحرية كبيرة لم أحظ بها من قبل، وهذه الحرية مُنحت لي من قبل مجموعة
من الأشخاص الرائعين الذين يقفون وراء هذا الفيلم ومن المحزن جداً أنني لا
أستطيع حتى أن أقول أسمائهم [لحماية سلامتهم]. لكنهم ناس أحرار، وهذا
الفيلم أصبح ممكناً بفضل رغبتهم في الحرية". |