كوميديا سوداء عبثية على خلفية الحرب الأهلية الأيرلندية..
«The Banshees of Inisherin»
يحصد الذهب فى طريقه إلى الأوسكار
هويدا حمدى
بعد تتويجه الأسبوعالماضى بجولدن جلوب لأفضل فيلم كوميدى أو
موسيقى يسير فيلم «نائحات إنيشيرين»
«AThe Banshees of Inisherin» واثق
الخطوة ليحصد الذهب فى طريقه إلى الأوسكار ، وهو الأفضل بلا منازع هذا
العام
.
وكان الفيلم قد حصل على ثلاث جوائز فى حفل الجولدن جلوب
الثمانين والذى أقيم ببيڤرلى هيلز الثلاثاء الماضي، ففاز مخرجه مارتن
ماكدوناه بأفضل سيناريو بينما فاز النجم الرائع كولين فاريل بأفضل ممثل عن
أدائه المدهش فى الفيلم ، وأعتقد أنه سيكون الفائز أيضا فى حفل الأوسكار
القادم فى ١٢ مارس، لتكن الأوسكار الأولى له، والتى تأخرت كثيراً على فاريل
الموهوب.ولم يفز مارتن ماكدوناه أيضاً بالأوسكار عن أى من أفلامه الطويلة
من قبل، كاتبا أو مخرجا ،رغم فوزه بأوسكار أفضل فيلم قصير عن
«Six Shooter»
فى ٢٠٠٤، لكنه هذا العام يستحق الجائزة بجدارة ،رغم منافسة ستيفن سبيلبيرج
بفيلمه
«The Fabelmans».
الفيلم مأخوذ عن «الشؤم من انشمور» المسرحية الأخيرة فى
ثلاثية مارتن ماكدوناه «جزر آران»،والتى قرر تحويلها لفيلم بعد أكثر من
عشرين عاماً لم يتحمس خلالها لتقديمها للمسرح، أجرى عليها بعض التعديلات
وأضاف رتوشاً بسيطة لتصبح « نائحات إينشيرين «، والفيلم -كأفلامه السابقة
-متعدد الأبعاد.
وهنا يبدو الفيلم بسيطا ًعن الصداقة والوجودية وغرائب النفس
البشرية ، لكنه يلقى بظلال على الحرب الأهلية الإيرلندية ، التاريخ الذى لا
يمحى من ذاكرة مارتن ماكدوناه إيرلندى الأصل ، والذى لازمه فى معظم أعماله.
وتدور الأحداث عام ١٩٢٣، فى إينشيرين الجزيرة الخيالية
المواجهة للساحل الإيرلندى ،حيث نسمع صوت القتال فى الجانب الآخر ولا نراه
، تبدأ بصدمة انهيار صداقة طويلة بين بادريك ( كولين فاريل ) راعى
الحيوانات.
وكولم ( برندان جليسون )عازف الكمان ،حين قرر الأخير بمنتهى
الجمود إنهاء هذه الصداقة، لأن بادريك « ممل» ولم يعد يحبه! لا يصدق
بادريك البريء كما الأطفال ما يحدث، ولا يستوعب عقله هذا السبب الغريب
لإنهاء صداقة كان يظنها قوية.
ويذهب للحانة ليقابل صديقه كما اعتاد يومياً ، إلا أنه
يصدمه بقراره ويبرره بأنه يريد حياة هادئة ليتفرغ للموسيقى ليترك مايخلده
بعد الرحيل ! المفاجأة والموقف غير المفهوم يسببان لبادريك ارتباكاً ،
يكاد يفقد عقله.
ورغم دعم أخته الوحيدة شوبان ودومينيك ابن عمدة الجزيرة ،
ويطارد كولم ،الذى يصبح أكثر حدة وعنفاً ، حتى لو ارتد عنفه على نفسه ،يهدد
بقطع إصبعه لو لم يكف بادريك عن مطاردته ، وهو مالا يصدقه بادريك الذى
يحاول جاهداً استعادة صديقه، وفى تطور غريب ،يقطع كولم اصبعه بمنتهى العنف
ويلقيه أمام بيت بادريك ، المذهول لما يحدث.
وعلى الجانب الآخر تزداد الحرب
الأهلية اشتعالاً
،وتزداد العلاقات فى إنيشيرين توترا ، ليس بين كولم وبادريك فقط ولكن بين
كل من على الجزيرة ، ترحل شوبان بعدما تيأس من حال الجزيرة المشئومة
ورجالها» المملين «، ليبقى بادريك وحيداً مع حماره رفيقه الحبيب والوحيد
الآن.
ومستمراً فى محاولاته لاستعادة صديقه الذى يغلق الباب فى
وجهه دون حوار ، وفى كل محاولة يقطع كولم إصبعًا، ويلقيه ، يلتقط الحمار
أصبعاً ويموت ، فيغضب بادريك ، ويقرر أن ينتقم بعنف ممن كان صديقه.
يشعل النيران فى بيته ،لتشتعل الأحداث، وهو ما حدث فى الحرب
الأهلية الإيرلندية تماما ، من كانوا أصدقاء وجيران واخوة يقاتلون معا من
أجل تحرير وطنهم ، أصبحوا يتقاتلون دون سبب يستحق، هكذا يدمر العند كل شىء
، وتشعل الجراح صراعاً بلا نهاية
! .
وفى لقاء صحفى عالمى عبر برنامج زووم قال مارتن ماكدوناه «
مأساة هذه الحرب أن الجميع كانوا أصدقاء مقربين ، وبعد ذلك كانوا يقتلون
بعضهم البعض ، وهو ما حدث بين بادريك وكولم ، ولذلك اخترت فاريل وجليسون
لأنهما أصدقاء فى الواقع ولم أكن احصل على نتيجة واقعية مع غيرهما».
وأبدع المخرج تصوير الجزيرة الخيالية ذات الطبيعة الساحرة
بكادرات غاية فى الروعة بفضل بن ديڤيس الذى أتوقع أن يكون أحد المتنافسين
على أوسكار أفضل تصوير ، كل كادر كان لوحة جمالية تناغم فيها الشخصيات
والحيوانات والطبيعة بتكوين مبهر.
تطل عليهم من علٍ السيدة العذراء الواقف تمثالها بالجزيرة
كمتابع للأحداث ، وكما أبدع فى تصوير الطبيعة بكل ما فيها، كان أكثر
إبداعًا فى سرد تفاصيل علاقات محيرة تثير بداخلنا أسئلة وجودية لا تنتهى
حول الصداقة والدين والموت والطبيعة البشرية، وطبيعة الذكور بشكل خاص
،غرورهم الذكورى.
وعدم تقبلهم للرفض ، حاجتهم المكبوتة ومشاعرهم المرتبكة
والمركبة ،التى قد تحول الحب والصداقة لعدوان وثأر مدمر .. أدار ماكدوناه
ممثليه ببراعة فكانوا جميعا فى أفضل حالاتهم ، ونجح فى كسب تعاطف المشاهد
مع شخصياته الغريبة والعنيفة والتى لا تستحق التعاطف أصلا إلا أنك تحبها
! .
كولين فاريل كان مدهشاً بقدرته على تنويع إحساسه ، بين
الهزل والجد ، اليقين والارتباك ، عاطفته الجياشة تجاه صديقه واخته
والحمار، الصدمة وغضبه المستعر لرفضه المستمر من صديقه الوحيد ، برندان
الذى يحمل متناقضات ليس من السهل التعامل معها ، خوفه من الدين الذى يلجأ
له رغم عدم اقتناعه.
وخوفه من الموت والنسيان وأزمته الوجودية التى دمرت كل شىء
فى النهاية ، الكيمياء بين فاريل وجليسون لا حدود لها ،منذ
«In Bruges»
الفيلم الروائى الطويل الأول لماكدوناه ، ولذلك كانت مباراة ممتعة فى
الأداء اعتقد فاز فيها فاريل.
فكانت مواجهاتهما عبقرية رغم جنونها ، أبدع ماكدوناه فى
كتابتها ، خاصة مواجهتهما فى الحانة عن الإنسانية والخلود ، ما هو الأهم
والذى يبقى أثره ، أن تكون إنساناً طيباً أم تترك أثراً كالموسيقى ؟!
بسخريته التى لازمته رغم الجمود قال كولم لا أحد سيتذكرنا لأننا لطفاء لكن
موتسارت وبيتهوفن سيبقيان خالدين.
وبمنتهى البراءة التى لازمت بادريك يرد « أمى كانت لطيفة
وأبى وأنا أتذكرهما وأختى لطيفة وسأتذكرها إلى الأبد ، لا يهمنى موتسارت
أو بيتهوفن « كل ينتمى لرأيه ويفسر شخصيته.. كيرى كوندون أيضا قدمت أفضل
أدوارها الأخت الجميلة شوبان التى كفرت بالجزيرة ورجالها الأغبياء وقررت أن
تنجو بحياتها خارج الجزيرة المشئومة.
بارى كيوجان أداء رائع لدومينيك الذى يستهين به الجميع
ويتعرض للعنف من والده رجل الشرطة مدمن الخمر.. الرائعة شيلا فيلتون لعبت
دور ماكورميك المرأة العجوز التى تهيم بأنحاء الجزيرة تنذرهم بالشؤم.
وفى مشاهدها القليلة لعبت أفضل أدوارها أيضا.
. «The Banshees of Inisherin»
كوميديا سوداء عبثية ، تفرض عليك التأمل فى العالم حولك ، فى ماهية الوجود،
الاختلاف ،العلاقات الإنسانية ،الطبيعة وقوانينها المختلفة بين الجمود
والتغيير… وفى النهاية قدم ماكدوناه فيلماً سيبقى فى الذاكرة كثيراً ،
ستشاهده مرات وفى كل مرة سيدهشك
. |