لسبب لا أعرفه كنت أخلط بين هشام سليم (كانون الأول/ يناير
1958- أيلول/ سبتمبر 2022) الذي ودعنا اليوم، وممدوح عبد العليم (1956-
2016). ولم أتوقع أن يستمر الخلط بينهما إلى درجة أن يرحل الاثنان في العمر
نفسه تقريبًا، وإن تجاوز هشام سن الستين بقليل.
تمتع الاثنان بالوسامة، والنحول، والظهور في العصر نفسه،
تشاركا في أعمال عدة، وكان يمكن تبديل الأدوار بينهما دون أن نلاحظ فرقًا،
حدث في مسلسل "المصراوية" أن قام هشام ببطولة الجزء الأول ولعب ممدوح بطولة
الجزء الثاني مكانه.
كلاهما عبّر عن الطبقة الوسطى وقيمها، فقدما نموذج الشاب
المصري "العاقل" و"المثقف" و"المتمرد الغاضب" أحيانًا. ومثّلا قيمة
إيجابية، ليست بعيدة عن حقيقتهما.
كان بإمكان الاثنان أن يعيشا لعشرين عامًا أخرى، لكنهما
أيضًا تركا سجلًا محترمًا بسبب عملها المبكر نسبيًا في التمثيل.
لم تبتسم لهما السينما كثيرًا- رغم محبة الناس- ولم يذهبا
إلى المسرح إلا نادرًا، ربما أشهرها دور هشام في مسرحية "شارع محمد علي"،
لذلك كان التلفزيون بدفئه العائلي، الوسيط الذي شهد انتصار موهبتهما.
الظل الكبير للأب
في عام 1972 ظهر هشام على في فيلم "إمبراطورية ميم" فتى
وسيم مراهق في الرابعة عشرة من عمره.
اختارت فاتن حمامة أولادًا على وسامة معينة ومن الطبقة
المحيطة بها من الفنانين والمشاهير.
ثم ظهر معها في "أريد حلًا" 1975، لكنّ النقلة الأهم جاءت
مع "عودة الابن الضال" 1976، ليوسف شاهين ومثل مع صديقته ماجدة الرومي
الأمل في المستقبل. أمل يرغب في تجاوز إرث الحروب والثورات، ويحترم العلم
والحرية وكرامة الإنسان.
بطريقة أو أخرى، كان ظهوره في سن مبكرة في أفلام مهمة، بفضل
ظل الأب، أسطورة النادي الأهلي والذي ظهر في تجارب سينمائية محدودة أشهرها
"الشموع السوداء".
ثم قرر الأب أن يبعده عن الشهرة والتمثيل إلى أن ينتهي من
دراسته الجامعية، لذلك كانت هناك فترة انقطاع قبل أن يعود في منتصف
الثمانينات، شابًا ناضجًا تجاوز العشرين.
آنذاك استمر المنتجون في مغازلة الجمهور باسمه الثلاثي
"هشام صالح سليم" فأصرّ على حذف اسم أبيه، وقال لهم لا يوجد ممثل باسم
ثلاثي!
ليس في الأمر انتقاصًا من أسطورية الأب، لكنه تحرر من ظلّه،
وجلبابه. أراد أن يبقى صالح سليم، والده، وأن يكون هو هشام سليم. لا أن
يستمرّ لمجرد أنه ابن فلان.
كان مُتمردًا بحكمة ومحبة، إلى أن دار الزمن دورته وكان
لصالح سليم موقفه في نهائي بطولة أفريقية بصفته رئيس النادي الأهلي، وقيل
إن مبارك انزعج من كبرياء الرجل وتمسكه بحقه في مقعده.
وعندما مرض صالح تواصل جمال مبارك مع هشام واقترح مساعدوه
عليه أن يقدم طلبًا للعلاج على نفقة الدولة. فرفض هشام بشكل قاطع، حفظًا
لكرامة أبيه ولشعوره أنه سيتم استغلال الطلب للانتقاص منه.
أبى أن يُهان أو يبتذل اسم أبيه، مع أنه تحفظ على وجوده في
اسم شهرته. ودفع ثمنًا إلى حد ما، بكونه لم يعد من المقربين وممن تُصنع لهم
النجومية وتُفصّل على مقاسهم.
تواضع وكبرياء
لا يكذب المثل عندما يقول إن "الابن سرّ أبيه" كان هشام
وفيًا لرمزية اسم صالح سليم، وأراد أن يحتفظ بكبريائه الشخصي دون أن يتعارض
ذلك مع تواضعه ومحبته للناس. لقنه الأب درسًا مبكرًا في عدم الغرور، وتركه
يجرب حظه في التمثيل.
فشارك في أعمال سينمائية، بعضها كان أقرب إلى البطولة
والنجومية أو الأدوار الثانية مثل: "اسكندرية كمان وكمان"، "يا مهلبية يا"،
"تزوير في أرواق رسمية"، "اغتيال مدرسة"، "الهجامة"، "كريستال"، "أرض
الأحلام"، "قليل من الحب كثير من العنف"، "يا دنيا يا غرامي"، "الأراجوز"،
"الأوباش"، "وميت فل".
أهم أفلام المصرية التي قدمت في ثمانينيات وتسعينيات القرن
الماضي، كان مشاركًا أساسيًا فيها مع كبار المخرجين. لكن السينما نفسها
التي استكثرت عليه النجومية كانت تتراجع وتموت إكلينيكا باستثناء أعمال
كوميدية خفيفة، لذلك تراجعت حظوظه بقسوة كما في ظهوره الشرفي في "الناظر"
مع علاء ولي الدين.
تلفزيونيًا كان أكثر حظًا بوجود صناع الدراما الكبار أمثال
وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة من الكتاب، ومحمد فاضل وإسماعيل عبد الحافظ من
المخرجين، وممثلين من وزن سناء جميل ومحمود مرسي وجميل راتب وفاتن حمامة
ويحيى الفخراني.
لكنه وقف- غالبًا- عند حاجز الصف الثاني، فلا أتذكر أن
مسلسلًا كُتب من أجله، فارتضى أن يكون في أعمال مهمة مع نجوم بمثابة أساتذة
له.
وحقق حضورًا لافتًا في مسلسلات باتت من كلاسيكيات الدراما
العربية مثل: "وقال البحر"، "ليالي الحلمية"، "الراية البيضا"، "أرابيسك"،
"هوانم غاردن ستي"، "السيرة العاشورية"، "أهالينا"، "درب الطيب"، و"أماكن
في القلب" (نال عنه جائزة).
لكنه شارك أيضًا في مسلسلات أقل قيمة، ومع الوقت حوصر في
خانة أدوار شرفية كضابط أو أب أو رجل أعمال، كما في "كلبش" و"موسى" و"هجمة
مرتدة" آخر أعماله.
كانت مكانته الفنية تتراجع، وقبل بعض الأدوار من باب
التواجد و"أكل العيش". وهي نهاية لا تتناسب مع نظرة الحلم والأمل في عينيه
في "عودة الابن الضال".
تغير المزاج العام نفسه عقب ثورة يناير التي دافع عنها
وشارك فيها مرتابًا في قادم الأيام، وشارك في آخر مسلسل كتبه بلال فضل وهو
"أهل إسكندرية" والذي لم يُعرض حتى الآن! وقيل إنه عوقب عندما أصرّ على عدم
تخفيض أجره بسبب سوء الأوضاع آنذاك، ولأنه قارن صراحة بين ما يحصل عليه
الممثل وما يدفع لنجوم مثل عادل إمام.
أي بسبب تمرده وصراحته الزائدة، لم يعد مرغوبًا، إضافة إلى
أن "كود الدراما" بعد يناير اختلف جذريًا عن أفكار وشعارات كتاب مثل أسامة
أنور عكاشة ووحيد حامد، كان هشام من المؤمنين بها وليس مجرد متقمص لها.
مع ذلك حافظ على توليفة التواضع والكبرياء، فهو ظلّ دقيقًا
في مواعيده، ولا يتمنع على الصحافة واللقاءات التلفزيونية، ولا يعزل نفسه
عن الناس. بل خاض تجربة تقديم البرامج، وتجربة انتخابات نقابة الممثلين،
وقدم خدمات لأبنائها عندما أصبح في مجلس الإدارة.
سعى دائمًا كي يقول إنه نجح بموهبته وعرق جبينه وليس لأنه
ابن صالح سليم، وأنه يستحق الأجر الطبيعي الذي يتقاضاه. راضيًا بمفهوم
"الممثل" وليس "نجم الشباك". لكن حتى ما استحقه بعد أربعين سنة تمثيل لم
يتحقق، فأحس بالخذلان.
المحترم
التزم هشام في حياته وأدواره بفكرة أنه "آدمي وابن أصول"،
محترم في مواقفه وتصرفاته وفي خياراته الفنية وتحمل مسؤولية قراره وتقبل
أخطائه.
منحنا هذا الإحساس أنه "ابننا جميعًا" الشاب كما يجب أن
يكون في اتزانه ونضجه النفسي والعاطفي، والمعبر عن قيمنا وهوياتنا.
وهذا نفسه سر تراجعه شيئًا فشيئًا، لأن الزمن لم يعد هو
الزمن، وسبق له أن ظهر في برنامج واشتكى أخلاق الناس والفوضى والزحام
والعنيف.
وإضافة إلى تراجع مكانته في العقد الأخير، عانى أزمات
إنسانية أكثر ألمًا، ولا تعكس ما يتصوره الناس عن أولاد المشاهير
والأثرياء، فهو فشل في زيجته الأولى، وباتت علاقته متوترة وسلبية مع بناته.
مع ذلك مال إلى التحفظ والكتمان في التطرق لهذه الأزمة، قبل أن يتزوج للمرة
الثانية.
ثم ظهر في أزمة أخرى كانت أشد صخبًا عندما وقف أمام كاميرات
التلفزة يعلن دعمه ومساندته كأب في قضية تحول ابنته "نور" إلى شاب. كان
موقفًا شجاعًا وجريئًا استحق عنه الاحترام.
كما كانت له أزمة أقل حدة مع إدارة النادي الأهلي، الذي
استكثر عليه وعلى شقيقه الأكبر خالد، رجل الأعمال وزوج الفنانة يسرا، نيل
عضوية النادي، رغم أن والده أشهر أساطيره ورئيس مجلس إدارته.
في كل أزماته حرص هشام أن يبقى صريحًا وشفافًا، إلى أن أعلن
إصابته بمرض السرطان أواخر أيار/ مايو الماضي، واعتزل في العين الساخنة
لتلقي العلاج الكيماوي.
عبرت تصريحاته عن نبرة أمل في الشفاء، وقال "كل اللي يجيبه
ربنا كويس". أحيانا نصنع نبوءاتنا دون أن ندري، ففي برنامج "حوار صريح
جدًا" قبل ثلاثة عقود سألته المذيعة "إن كنت تملك جائزة مالية لمن تهديها"،
فأجاب هشام سليم: "أهديها لمعهد السرطان... مرض خبيث بايخ... اللى بيمرض
بيه محتاج فترة علاج طويلة قوي... والعلاج ثمنه غالي قوي.. متهيألى معهد
السرطان يبقى حاجة كويسة إن أودع الجائزة المالية فيه". ولسوء حظه قتله
المرض "البايخ" ولم يهمله أكثر من شهور معدودة". |