(«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا ـ 2)
الدورة الجديدة لمهرجان فينيسيا من زاوية مخرجيها تعرض
أساليب فنية مختلفة ورؤى ذاتية متعددة
مهرجان فينيسيا (إيطاليا): محمد رُضا
من الصعب أن يجد أي مهرجان سينمائي مثل هذه المجموعة
الكبيرة من المخرجين التي تتألف منها هذا العام الدورة الجديد (التاسعة
والسبعين) التي بدأت رسمياً في الحادي والثلاثين من أغسطس (آب) الماضي
وتنتهي في أعقاب ليلة العاشر من شهر سبتمبر (أيلول) الحالي.
أسباب الصعوبة متعددة. لديك أولاً احتمال أن يكون المخرج ما
زال قيد العمل ولم يستطع إنجاز فيلمه في الوقت المحدد. أو أن يرتبط المخرج
بمهرجان آخر طلب الفيلم لعرضه كعرض عالمي أول ورأى المنتجون بأنه من الأفضل
تخصيص المهرجان الآخر به. وربما، فضل البعض التوجه إلى أي من المهرجانين
المنافسين (برلين وكان) عوض فينيسيا، متلمّسين أجواء تجارية أفضل كونهما
يحتويان على سوق دولية لها مريدوها وزبائنها.
لكن ما يبدو ماثلاً بالنسبة لمهرجان فينيسيا هذا العام، وفي
الأعوام السابقة عموماً، قدرته على استحواذ العدد الكبير من المخرجين
الآتين من شتّى أنحاء العالم المنتج بغزارة. قارن بينه وبين مهرجان «كان»
الذي استعرضناه هنا في مايو (أيار) الماضي، وتجد أن دورة هذا العام من
المهرجان الإيطالي لديها عدد أكبر بكثير من دورة مهرجان «كان» الأخيرة.
للتحديد، لدى الدورة الجديدة من مهرجان فينيسيا الحالية، من
بين المخرجين الكبار والمشهورين أسماء لا جدال في أهميّتها. على سبيل
المثال أليهاندرو غونزاليز إيناريتو، ودارن أرونوفسكي، وفردريك وايزمان،
وأندرو دومينيك، وولتر هِل، وكيم كي - دوك، وبول شرادر، وسيرغي لوزنتزا،
وأوليفر ستون، ولارس فون تراير، وجياني أميليو، وتود فيلد، ولوكا
غوادانينو، وجعفر باناهي، وأوليفيا وايلد، وجاينكارلو روزي.
بمثل هذا العدد الوفير من صانعي الأفلام ذوي البصمات، لا
يمكن إلا والتمتع ببانوراما واسعة من فنون التعبير والأساليب الفنية
والاهتمامات الإنسانية والفكرية. بعض هؤلاء في قمّة عطائه اليوم وفي صدارة
الاهتمام العالمي، وبعضهم يقف في صف ثان قريب ساعياً لتجاوز المسافة
الباقية بعد رحلة سنوات من المحاولات والمساعي الخالصة للوصول إلى المكانة
التي يحتلها اليوم.
النظر إلى هذه الدورة من زاوية المخرجين أنفسهم يكشف عن
السبب الذي من أجله امتهن المخرجون مهنتهم هذه. هناك الرغبة في التعبير
تواكبها الرغبة في وضع المعبّر عنه في إطار فني يحمل بصمته الخاصة. في أقل
الاحتمالات هو سعي لتصدير الفكر والفن مجبولين معاً في لُحمة واحدة.
كما تختلف النتائج كلما خاض أحد هؤلاء في غمار فيلم جديد،
تختلف المنطلقات والدوافع التي حدت بكل منهم للعمل في السينما. التجارب
السابقة تشحذ همم معظمهم للمزيد. لذلك الحالي الجديد ينتمي، كبصمة الإصبع،
للأعمال السابقة. تصوّر، مثلاً، أن يكون لديك بول شرادر مخرجاً كوميدياً
وهو الذي لم يكترث إلا لتسجيل حالات أفراد أميركيين في مواجهة ظروف قاسية.
أو أن تجد فردريك وايزمان قد تجاهل أسلوبه التسجيلي وهو يقدم على فيلم
روائي لا يحمل تأثره (أو مدرسته؟) في ذلك النوع من السينما.
-
أزمات ومصاعب
يقدّم المخرج المكسيكي أليهاندرو غونزاليز إيناريتو في
المسابقة فيلمه الجديد «باردو» حول صحافي يعود إلى موطنه في المكسيك ليباشر
إحدى أصعب المهمات: مراجعة ذاتية لنفسه وللعالم من حوله باحثاً عن هويّته
الشخصية.
هذا هو الفيلم الطويل الثامن للمخرج إيناريتو وآخرها كان
قبل سبع سنوات عندما حقق فيلمه «المنبعث» حول بطله الذي يتركه شريكه للموت
في البرية القاسية لكنه يواجه الأزمات البدنية والمخاطر الطبيعية لكي
يستعيد قوته ويلتقي بمن أساء إليه من جديد.
في عالم إيناريتو هناك مواضيع مختلفة بلا رابط قصصي واحد.
لقد عمد إلى تقديم حكايات مختلفة بشخصيات لا ترابط وثيق بين مراجعها
الإنسانية أو الاجتماعية أو الثقافية حتى - أحياناً - عندما كان يسرد عدّة
شخصيات في فيلم واحد (كمال الحال في «21 غراماً» و«جميل». لكن خارج النص
والحكاية فإن الرابط موجود في كنه الرغبة في استخدام كل عناصر الصورة لتلعب
دورها الأساسي. أفلامه تتميز بإدارة واثقة للكاميرا وما تتألف منه. ما
علينا إلا أن نتذكر في ذلك «جميل» (2010) و«بيردمان أو الفضيلة غير
المتوقعة للجهل» (2014) و«المنبعث» (2015).
في منحى مختلف يجمع المخرج الأميركي دارن أرونوفسكي بين
الاهتمام بأزمات أبطاله وتوفير الإطار التعبيري لها من دون كثير شغل على ما
يجعل اللقطة قابلة للتحليل والدراسة لذاتها. لا يعتمد كثيراً على اختلاف
ذلك الإطار أو تميّزه عن سواه، لكنه ينجز دوماً ما هو مثير على صعيد تأليف
الحبكة كما كان حاله في أفلامه من «قدّاس لحلم» (2000) إلى فيلمه الأخير
«أم» (مع جنيفر لورنس وخافييه باردم سنة 2017.
فيلمه الجديد «الحوت»
(The Whale)
مثل «أم» ينظر إلى فحوى العلاقات بين شخصياته وكيف يحكم بعضها على نفسه
بالمأساة... بطله (براندون فريزر بعد غياب) رجل بدين جدّاً وحالته وحدها
مدعاة لحياة مأسوية تزداد حدّة عندما يحاول التواصل مجدداً مع ابنته
الشابّة. لا بد من القول هنا إنه ليس كل أفلام أرونوفكسكي جيدة. «نوح»
(2014) التاريخي ليس بقوّة وتميّز «بجعة سوداء» (2010) الدرامي و«النافورة»
(The Fountain)
سنة 2006 أقل قيمة من «المصارع»
(The Wrestler)
سنة 2008. لكن اهتماماته فنية وتجيز له البقاء بين أولئك الذين يُنتظر منهم
دوماً عملاً أفضل من سابقه.
الفيلم الجديد لبول شرادر «ماستر غاردنر» سينضم، غالباً،
لأعماله المهمّة والجيدة التي حققها حتى الآن. هو مخرج يتحرّى عن القيمة
الأخلاقية بين شخصياته وهذا التحرّي ازداد حضوراً في أفلامه منذ «محنة»
(Affliction)
قبل 27 سنة. خلال السنوات القليلة الماضية بعث برسالته الباحثة عما يقع في
عالم ممزّق بين الأخلاقيات والمبادئ وبين الماديات اللاغية لها كما الحال
في «إصلاح أول» (2017) وفيلمه الأخير «عدّاد ورق اللعب»
(The Card Counter)
قبل عامين. في هذا الفيلم دفع باتجاه أن أحداً عليه أن يدفع ثمناً لما
نعانيه من مشاكل ذاتية، تماماً كما كان حال السيناريو الذي كتبه لمارتن
سكورسيزي سنة 1975 تحت عنوان «تاكسي درايفر». هنا يقدم حكاية من ذات الفصيل
بطلها عالم نباتات (جووَل إدغرتون يتقرّب من أرملة (سيغورني ويفر) لأسباب
ومنافع.
-
من خارج السرب
بالنسبة لجعفر باناهي فإن مصدر الاهتمام به متعدد. عملياً،
لا يلتقي هذا المخرج الإيراني في أسلوب سرده وأسلوب تنفيذه لما يعرضه سواء
أكان دراما أو تسجيلياً، مع أي مدرسة غربية. الأقرب لمنهجه هذا هو بعض
أعمال الراحل عبّاس كيارستمي والمعتزل محسن مخملباف، لكن حتى في ذلك هو
مختلف من حيث مزجه بين الموضوع الدال على حقائق اجتماعية وبساطة تكوين
رؤيته لها. سواء أكان التصوير داخل سيّارة (كما «تكسي طهران» (2015) أو في
منزل («ستائر مغلقة» (2013 - وهو أحد أفضل أفلامه) أو في مكان كبير ومزدحم
كما الحال في «أوفسايد» (2006) فإن هذا البحث عن حقائق الوضع الاجتماعي
يزعج الحكومة الإيرانية التي، شأنها في ذلك شأن النظم الشبيهة، تواجه ذلك
بقرارات المنع والسجن.
والسجن الذي يتعرّض له باناهي هو سبب آخر لتحلّق المهرجانات
الكبرى حول أفلامه. هو نموذج الزمن الحالي بين الذين تعرّضوا للمعاملة
ذاتها (مثل سيرغي بارادجانوف أيام الاتحاد السوفياتي) في السابق.
إلى حد بعيد، لا بد من اعتبار باناهي سينمائياً من خارج
السرب المعتاد. وهذا هو الحال مع المخرج الأميركي وولتر هِل إنما لأسباب
مختلفة.
ليس هناك من جدال فعلي حول التزامات وولتر هِل بالتوليفية
الهوليوودية التي يؤمها بكامل مواصفاتها كلما وقف وراء الكاميرا. وهي
المواصفات التي قلّما اكترثت لها المهرجانات الدولية كونها تعكس الرغبة في
الترفيه، مهما كان تنفيذها جيداً، وبصرف النظر عما تطرحه.
هِل، الذي يقدم خارج المسابقة في الدورة الحالية لمهرجان
فينيسيا فيلمه الجديد «ميت لدولار»، لن يخون تاريخه القائم على حكايات
تتنوع بين التشويقي والوسترن. فيلمه الجديد عذراً لتحقيق فيلم وسترن جديد
وهو النوع الذي يعشقه والنوع الذي أقدم عليه أكثر من مرّة. حتى أفلامه
المنتمية إلى البوليسي والتشويقي يعالجها كما لو كانت أفلام وسترن تصلح لأن
تعود بنفسها إلى القرن التاسع عشر ومشاغله.
أمّ هِل الإخراج سنة 1975 بعد أن عمل مساعداً ثانياً في
بضعة أفلام من بينها «قضية توماس كراون» لنورمان جوويسُن و«بوليت» لبيتر
ياتس (كلاهما سنة 1968).
تمتع فيلمه الأول «هارد تايمز» بوجود ممثلين من عصر كان لا
يزال يحتفظ بذكرى لأولئك الذين انطلقوا في التمثيل وأدوار البطولة في
الستينات. هو من بطولة جيمس كوبرن وتشارلز برونسون. الأول يدير الثاني في
مصارعات غير قانونية مكانها الشوارع وبلا حلبات وكل شيء مسموح فيها.
فيلمه اللاحق لا يزال أحد أفضل. إنه «السائق» (1973) مع
رايان أونيل في دور سائق سيارة تستخدمها عصابات سرقة المصارف للهرب بها. كل
ما يطلب منه هو أن يجلس وينتظر ثم ينطلق حال فرار أفراد العصابة من البنك
الذي سرقوه، ثم مهارته في تجنب مطاردة سيارات البوليس. لكن اللفتة الجيدة
(أو واحدة منها على الأقل) هي أن رجل البوليس الصارم (بروس ديرن) يلاحقه
شخصياً لأنه يعلم حقيقة عمله ولو أنه لا يملك دليلاً ضده.
فيلم هِل الوسترن الأول هو
The Long Riders
عن حياة الجريمة لعصابة يونغر وجيمس في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
الحكاية حقيقية بشخصياتها وبعض أحداثها، وجمعت ثلاثة أشقاء من آل كاردين هم
روبرت وكيث وديفيد وشقيقان من آل كيتش هما ستايسي وجيمس. الفيلم جوهرة بين
أترابه في تلك الفترة وفي كل الأحوال أفضل من أي فيلم آخر عن هذه العصابة
على كثرة الأفلام التي تعرضت لها.
بعد ذلك تعددت علامات النبوغ غير المقدّر من أهل النقد غير
الغربي ومن بينها
Southern Comfort
وStreets of Fire
وJohnny
Handsome
و24Hrs
و- على الأخص
- Gernonimo:
And American Legend. |