"لغز" مارلين مونرو... امرأة طمع العالم في جسدها
القاهرة- النهار العربي/
شريف صالح
حلّت الذكرى الستون على وفاة مارلين مونرو أيقونة القرن
العشرين. وبهذه المناسبة أطلقت منصة نتفلكس الفيلم الوثائقي "لغز مارلين
مونرو: التسجيلات غير المسموعة". اعتمد على مغامرة الصحافيّ أنتوني سمرز
الذي التقى العديد ممن عاصروها وجمع 650 شريطاً مسجلاً، مع إعادة فتح
المدعي العام لملف موتها في ذكراها العشرين عام 1982.
لكثرة ما كتب عنها فقدت السطور حالة اليقين، وأصبح كل جديد
ينشر، يعبر عن "مارلين" الخاصة بكاتب النص. ملايين "المارلينات" خلقتهن ستة
عقود، لتكريس أسطورتها. ولا تولد الأسطورة إلا من رحم مأساة لا تُنسى. لحظة
أن عثرت عليها مديرة منزلها في الثالثة فجراً، وهي مسلتقية على جانبها
وسماعة الهاتف في يدها، ونور الغرفة مضاء.
الاسم نورما
لأن الشريط لا يركز بالدرجة الأولى على قصة صعودها، سوف
نعتمد على معلومات أخرى ثرية وردت في كتاب "قصتي: مذكرات مارلين مونرو"
والتي ترجمها إلى العربية باسم محمود.
اختارت لها أمها اسم "نورماجين" تيمناً بالممثلة نورما
تالمادج، وكُتبت باسم "مورتنسون" الزوج الثاني الذي انفصلت عنه الأم قبل
ولادتها بعام، ثم عند التعميد تغير اسمها إلى نورماجين بيكر.
ليس هناك أي شيء مستقر في اسمها، ولا هوية أبيها، ولا البيت
الذي عاشت فيه. كأنها مع كل اسم لها كانت تبحث عن ولادة جديدة.
الأب كلارك غيبل
لا يعرف بدقة من والدها، وفي الملجأ اعتقدت أن ساعي البريد
أباها لأنه كان يهتم بالرد على أسئلتها، وكانت أمها تدفع له بعض الدولارات
لرعايتها.
أنكرت أن يكون مورتنسون والدها، وذكرت أن أمها أرتها صورة
معلقة لرجل بشارب يشبه "كلارك غيبل" وقالت لها: هذا أبوك. وعندما سألتها عن
اسمه لم تجب واكتفت بأنه قُتل في حادث سيارة.
المحزن أن غيبل كان يشاركها بطولة فيلم "غير الأسوياء"
وأصيب بأزمة قلبية وتوفي عام 1960، عن تسعة وخمسين عاماً، واتهمت بأنها
قتلته بسبب تأخرها عن مواعيد التصوير.
الأم مونتيرة
ولدت غلاديس مونرو - أمها - في المكسيك وتزوجت من جاسبر
بيكر في الخامسة عشرة وأنجبت طفلين: روبرت، وبيرنيس. عرفت أمها علاقات
عاطفية انتهت بمشكلات صحية ونفسية وطلاق سريع أعقبه حرمانها من حضانة
طفليها، بعدما مات الولد في سن المراهقة، وأودعت البنت في مستشفى لإصابتها
بالشيزوفرينيا.
عملت الأم في مهن بسيطة أهمها "مونتيرة"، وفي عام 1935
أودعت في مصح للأمراض العقلية (ثمة إشارة إلى إصابة أخيها ووالدها بأمراض
مشابهة) فتنقلت الطفلة ما بين أقارب ومعارف ومؤسسة رعاية.
كانت علاقتهما مضطربة، وخالية من الحنان، لذلك كانت تختبئ
منها في خزانة الملابس، وكل ما تتذكره أمر أمها لها "لا تصدري الكثير من
الضوضاء يا نورما".
العمّة غراس
تعودت أن تخاطب أي شخص عمي أو عمتي، وهكذا حملت زميلة أمها
في العمل لقب "العمة غراس" التي حاولت رعاية الأم والابنة معاً، لكنها فقدت
وظيفتها. ولم تعد تملك أكثر من نصف دولار في الأسبوع فكانت تعيش هي والطفلة
على الماء والخبز واللبن. وتقفان بالساعات في طوابير المساعدة، ومع بحثها
المستمر عن عمل أودعت الطفلة في الملجأ، حيث تنقلت بين رعاية تسع أسر وكان
أكثر ما تخشاه أن تطرد لأي سبب. وفي أحد هذه البيوت تعرضت للتحرش من رجل في
سن أبيها.
العمة كانت أول من تنبأ لها بالمجد حيث اعتادت أن تقول: "لا
تقلقي يا نورما، عندما تكبرين ستصيرين فتاة جميلة". وجعلتها تؤمن بأن الرب
يحبها ويرعاها.
لفت الأنظار
عاشت الطفلة في رعاية أسر فقيرة أقرب إلى خادمة لدرجة أن
إحدى العائلات عاتبتها على "شد السيفون" وتبذير الماء.
ولأنها غير مرئية أرادت أن يلتفت العالم إليها، وعندما ذهبت
إلى قداس الآحاد رغبت في خلع ملابسها حتى يراها الجميع. لم يكن في تلك
الرغبة شعور بالخجل بل لفت الأنظار كي لا تبقى تواجه وحش الوحدة.
اختبأتْ في حلم أن ينظر إليها الجميع بإعجاب. مع أنها لم
تكن قادرة على تغيير زي الميتم الذي يثير سخرية زملائها. آنذاك نصحها بائع
أحذية: "لو ابتسمتِ للناس سيكون الحال أفضل".
أربعة رجال
بدأت تضع الماكياج وتعيش غراميات وتمنح قبلتها لمن تشاء،
لاكتشاف تأثيرها على الآخرين وليس رغبة جنسية، وفي الخامسة عشرة عرضت عليها
العمّة غراس الزواج من شاب يكبرها بخمس سنوات هو جيم دوغيرتي الفنّي في
مصنع طائرات، وسرعان ما تزوجته وتدربت معه في المصنع. وأشارت إلى أن
علاقتهما لم تكن ناضجة بسبب قلة خبرتهما. وقالت إنها تدين له بالفضل في شيء
واحد: "أنهى وضعي كيتيمة للأبد فتخلصت من فستاني الأزرق وبلوزتي البيضاء".
لا يروق لمارلين الرجال ذوي الأسنان المثالية، والثرثارين،
وتفضل "الذئاب الصريحة" والمثقفين الذين لديهم أفكار عن الحياة.
عاشت بعض الغراميات أهمها مع جوني هايد الذي ساندها بقوة في
بداياتها وعرض عليها الزواج، خصوصاً عندما علم بدنو أجله كي يضمن أن ترث
ثروته لكنها رفضت.
ثم ظهر الزوج الثاني لاعب البيسبول لكن للأسف لم يدم الزواج
سوى أشهر بسبب اعتراض جو على مشهدها وهي ترتدي فستاناً أبيض يطيّره الهواء
أعلى ساقيها، أثناء تصوير "حكة السنة السبعة" وهي لقطتها الأيقونية الأشهر.
في عام 1956 تزوجت الكاتب الشهير آرثر ميللر، وتعرضت
للإجهاض مرتين، وانتهيا إلى الطلاق عام 1960.
والملاحظ في رجالها الذين تزوجتهم أنهم ليسوا شديدي الوسامة
ولا الثراء، لأن بحثها الدائم كان عن "الحب" لا الثروة ولا الجنس.
على سلّم الشّهرة
في الثامنة عشرة التقط المصور ديفيد كونوفر صورة لها ضمن
حملة عن مشاركة النساء في جهود الحرب، من بعدها تلقت عروض أزياء وإعلانات
للشامبو فصبغت شعرها، وارتدت ملابس البحر. وخلال عام أصبح لها مسكن متواضع
في هوليوود.
تعرضت لطمع أكبر في جسدها من محتالين محترفين، وعروض زواج
من عجائز أثرياء. أو كما قالت في هوليوود سيدفعون لك آلاف الدولارات مقابل
قبلة وخمسين سنتاً مقابل روحك.
لكن ثمنها كان يرتفع مع رفض العروض المبتذلة، وكانت
أيقونتها تنمو على نار هادئة: شقراء مثيرة بصوت مبحوح مثل مارلين ديتريش
وتمشي مشية خليعة مع ابتسامة طفولية مرحة ونظرة مليئة بالشغف وبعض الخجل.
من أجل خسمين دولاراً لدفع بقية ثمن سيارة مستعملة اشترتها،
وافقت على التقاط صور عارية لروزنامة عام 1952، وأقنعها المصور بألا تقلق
لأنها ليست مشهورة كي تخجل. وافقت مارلين وأحبت جسدها عارياً مرحاً.
عثرت على دور صغير في فيلم من إنتاج فوكس، واقترح مساعد
المخرج تغيير اسمها نورما دوغيرتي، ورشح لها "مارلين" ثم اختارت لها العمة
"مونرو" لأنه لقب أمها الأصلي حيث تمت بصلة قرابة للرئيس الأميركي مونرو.
وهكذا ولدت الأسطورة.
صعود صاروخي
من عائد أدوارها الأولى سعت مارلين الى دراسة المسرح
والتمثيل والتدريب على الرقص. وشاركت في أدوار قصيرة، وإن اتهمها النافذون
بأن وجهها ليس "فوتوجنيك" ولا يصلح كنجمة. آنذاك سعى جوني هايد لإتاحة فرص
لها لدى الاستديوهات الكبيرة. فعملت مع جون هيوستون في "غابة الأسفلت" 1950
واعتبرته أول عبقري حقيقي صادفته.
عادت إلى فوكس بفرصة أفضل في "كل شيء عن حواء" وبدأت
المقالات تكتب عنها، وصورها تطبع، ودعيت لتسليم أحد الفائزين في حفل
الأوسكار (لم تحصل على الجائزة إطلاقاً لكنها ظلت مهووسة بها وتتمنى تقديم
عمل لشكسبير كي يأخذوها على محمل الجد).
أدلت بتصريحات "كاذبة" عن أمها التي ماتت (وليس المحتجزة في
مصح عقلي) ووالدها الذي هاجر إلى أوروبا. قفز أجرها من مئة دولار في
الأسبوع لأكثر من ألف ومئتي دولار، وبلغت أوج شهرتها مع "البعض يفضلونها
ساخنة" الذي رشح لست جوائز أوسكار، ونالت عنه أرفع جائزة حصدتها وهي
"الغولدن غلوب" كأفضل ممثلة في فيلم كوميدي موسيقي.
كان من عادتها التأخر عن مواعيدها بالساعتين لأنها تكون
مشغولة بملء البانيو بالماء والعطور كي تستمتع قرينتها القديمة "نورماجين
بيكر" بالرفاهية. ربما كان ذلك عقاباً للناس المنتظرين بديلاً ممّن أساؤوا
إليها في طفولتها.
الأخوان كينيدي
ركز الوثائقي باستفاضة على غموض وفاتها: هل كان انتحاراً أم
خطأً طبياً أم الحبوب المنومة أم قتلاً مدبراً بمعرفة أجهزة؟
تميز الشريط بالتوازي ما بين لقطات بالأبيض والأسود من
أفلامها واستعراضاتها وصورها، وبين تسجيلات لمعاصريها مصحوبة بأداء تمثيلي،
إضافة إلى أن سمرز نفسه ظهر كبطل يربط بين المقاطع ويصرح باستنتاجاته هو
الآخر.
وكان الاهتمام الأكبر بعلاقتها مع الأخوين كينيدي، روبرت
الذي كانت تشير إليه بلقب "الجنرال"، وشقيقه جون الذي أصبح الرئيس
الأميركي، مع ترجيح أنها عرفت جون أولاً، وكانت تقيم علاقة مع الاثنين في
الوقت نفسه، بحيث عملا بنصيحة أبيهما الثري: "مارسا الجنس قدر المستطاع مع
العدد الذي تريدانه من النساء".
عقب الصعود السياسي للأخوين بات هناك "قلق" منها لأنها
تثرثر مع الجميع على الهاتف، كما أنها تعرضت للمراقبة منذ زواجها من ميللر
بسبب ميوله "الشيوعية".
قبيل وفاتها بشهرين غنت للرئيس في عيد ميلاده، وتشير تقارير
المراقبة إلى أنها التقت به بعدها على الشاطئ في منزل بيتر لوفورد (المتهم
بتسهيل لقاءات الحسناوات بالأخوين). ثم أُبلغت بألا تتواصل مع الأخوين
نهائياً، فأحست أنها جُرحت.
ليلة وفاتها - بحسب الفيلم - التقاها روبرت في منزل لوفورد
وحدث شجار عنيف ققالت له إنها عوملت كقطعة لحم. مع ترجيح شهود لسمرز إلى
أنها ماتت في نحو العاشرة مساءً، عقب اللقاء، وجرت محاولة لإسعافها في أقرب
مستشفى لكن روحها صعدت إلى بارئها. فأعيدت إلى فراشها ممسكة بسماعة الهاتف
وحيكت رواية "رسمية" مغايرة تظهر وفاتها في الثالثة صباحاً، بعد محو أي
أدلة تشير لعلاقة الأخوين بالأمر، بما في ذلك محو أي تسجيلات أو صور. لكن
لا يرجح الفيلم قتلها، بل يتبنى فقط فرضية تمويه وإخفاء الأدلة وما يتعلق
بظروف الوفاة.
منذ عام 1960 تضاعفت متاعبها، فبعد تعرضها للإجهاض مرتين،
ثم طلاقها الثالث من ميللر، ومشكلاتها مع الاستديوهات لرغبتها أن تكون
فنانة لا فتاة خرقاء شهوانية، وهاجس الجنون العائلي، وتعرضها لانتكاسات
صحية ألزمتها المستشفى لأيام، ونوبات الاكتئاب، لذلك كله لم تكن سعيدة
ولجأت إلى طبيب نفسي أوصى لها بحبوب منومة، ثم اكتملت جراحها بإهانتها من
الأخوين كينيدي.
أياً كانت تفاصيل ما حدث فجر الأحد، الخامس من آب/ أغسطس
عام 1962، فقد قضى عليها حزنها العاطفي العميق، وشعورها بأن شخصية "مارلين"
المشرقة ذات الجسد المضيء كالنجوم، لا تقلّ بؤساً عن "نورماجين" الطفلة
البائسة اليتيمة المختبئة داخل روحها. |